كربلائيات 1

 

 

محمد علي الشبيبي

السويد / العباسية الشرقية

Alshibiby45@hotmail.com

أخيرا قررت السفر للوطن بعد غربة قاربة الثلاثة عقود. كنت متشوقا للقاء الرفاق والأصدقاء وأبناء المحلة، واالتجوال في شوارع المدينة التي نشأت فيها والغور في أزقتها وبساتينها لأستعيد ذكرياتي بحلوها ومرها. الأزقة التي وزعت ورفاقي فيها بيانات ومناشير الحزب الشيوعي العراقي في ستينات القرن الماضي وهي تطالب حكومات تلك الفترة بالحرية والديمقراطية وحل القضية الكردية بالطرق السلمية وغيرها من مطالب سياسية وأجتماعية وأقتصادية، الشوارع التي شهدت لنا تحدينا لسطات الأمن ونحن نخط على جدران أبنيتها مطالب شعبنا.  كنت شديد الشوق في السير في شارع حي الحسين والجلوس في مقاهيه وأنا أستمع الى أغاني أم كلثوم وصوت عامل المقهى مستجيبا لطلبات زبائنه، أو لضجيج وقهقهات الشباب رواد المقهى وهم يتبادلون النكات والأحاديث، بينما تتخلل ذلك أصوات النرد وصياح اللآعبين وتحدي لاعبي الأزنيف والدمينو لبعضهم. كنت متشوقا أن أجلس في أحدى تلك المقاهي لأتناول وجبة الفشافيش او التكة، حيث تختلط رائحة الشواء مع ماتجود به البساتين المحاذية من رائحة زكية هي كوكتايل لخليط من أزهار الفاكهة الكربلائية الشهيرة. كنت أتوق لألتقي رفاقي وأحبتي في تلك المقاهي، مقاهي شارع حي الحسين، مقهى الحوض، مقهى الصراف، مقاهي ساحة البلوش، مقاهي شارع العباس ومحلة العباسية الشرقية مقاهي باب العلوة وباب الخان مقاهي كثيرة لي فيها ذكريات جميلة، لكن للأسف لم أجد أي منها كنت أدور في شوارع مدينتي مصدوماً بحثا عن مقهى التقي فيها بالأحبة ولكن عبثا. قد لاتصدقونني، لكن هذه هي الحقيقة المرة، مدينة بلا مقاهي وبلا نوادي، الشباب يدور في الشوارع لايجد مقهى يلتقي فيها بأصدقائه ليقضي ساعات فراغه ويتدارس أوضاعه. صدمت بالرغم من تنبيه الكثيرون لي! لم تكن هذه كربلاء، ولولا مرقدي الأمام الحسين أبا عبد الله وأخيه أبا الفضل العباس عليهما السلام لقلت اني في مدينة أخرى تعود لقرون متخلفة. البساتين المحيطة بالمدينة والتي تمتد بمحاذاة نهر الهنيدية والجدول ونهر الحسينية وباب طويريج وحتى مدخل كربلاء من الشمال قد دمرها وحولها المنبوذ صدام الى اراضي سكنية ويكون بذلك قد غير أحد أهم معالم المدينة الجميلة، وللأسف مازال البعض لغاية اليوم يساهم في هذا التدمير. نعم اُحبطت فلم أنعم في التنزه بمحاذاة الهنيدية والجدول القديم والتمتع بجمال بساتينها وأستعادة ذكريات الطفولة والمراهقة وعنفوان الشباب أيام الدراسة عندما كانت هذه البساتين ملاجئنا وبمثابة مكتباتنا لقضاء ساعات ونحن نتذاكر تحت ظلال أشجارها الوارفة والمثمرة، ونقطف ونتذوق فاكهتها من عنب ومشمش وتكي وغيرها من طيبات هذه البساتين الشهيدة. أما شارع العباس، وهو من أهم شوارع كربلاء فقد قطّعت أوصاله نقاط السيطرة والجدران الكونكريتية وأختفت مقاهيه وتحولت أرصفته الى ملحقات للمحلات المنتشرة على جانبيه ولم يعد للمارة مكان للسير سوى الشارع نفسه معرضين حياتهم لتهور السيارات الخاصة والحكومية. أما البيوتات على جانبي شارع العباس فتحولت الى مشروعات تجارية من دكاكين تنافس بعضها البعض دون تخطيط، وهذا ينطبق على جميع شوارع المدينة. الشوارع محفرة وقذرة، ومنذ مايقارب السنة أو أكثر سلمت مقاولة لأنجاز أحد أهم شوارع كربلاء، يمتد من باب العلوة قاطعا شارع طويريج ليلتف مع امتدادات الجدول القديم وحتى شارع حي الحسين ويطوق المدينة ماراً من شمالها عبر شرقها وحتى جنوبها، وحفرت في وسطه جزرة يتجاوز عرضها 3م، لكن العمل توقف وسبب عرقلة لسير المركبات وأدى لحوادث سير فادحة، وأهالي كربلاء يتسائلون لماذا هذا التوقف أو التباطأ في العمل وأين تذهب التخصيصات ولماذا لايحاسب ويتابع المقاول؟ السير في شوارع المدينة يسبب الأذى للمركبات وللبشر! فبعد أسابيع من وصولي أضطررت ان أستعين بالعكازة في سيري بطرقات المدينة بسبب الحفر وركام الأحجار والأوساخ التي أصبحت معلما  من معالم المدينة وسببت لي آلاما بمفاصل الركبة، حتى أني علقت ساخرا مع بعض أصدقائي قائلا بأني سأتعثر في سيري في شوارع السويد أذا ماعدت لأني تعودت على طرقات كلها حفر وركام أبنية وأتربة ولم أعد معتاداً للسير في شوارع منبسطة ونظيفة. بأختصار لم تكن كربلاء التي طمحت لأراها لأستعيد فيها ذكرياتي وأشم فيها رائحة ذلك الزمن الماضي، حتى ابنيتها القديمة مدمرة وخربة وجدرانها أصبحت لوحات قبيحة ومقرفة لنشر الأعلانات والدعايات لمختلف الجهات السياسية والتجارية!

السلطات البلدية غائبة، وليس لها وجود سوى بعض النشاط الأستعراضي لمقاولي البلدية لذر الرماد في عيون الشرفاء من أبناء أهالي كربلاء. التجاوزات في البناء تصرخ في وجهك وأنت تتجول في شوارع وحارات المدينة. وكم مرة أقف حائراً مندهشاً من تجاوز صاحب بيت وحتى جامع تم تعميره أو أنشأ على أنقاض بناء سابق، وقد تم التجاوز على الرصيف بأكمله ورفع من مستواه عن الشارع لأكثر من متر! ففي مقابل مدرسة المنار الثانوية للبنات (مدرسة الفيصلية سابقا) فندق (حديث) يستقبل الزائرين من دول الجوار (الحبيبة) أرتفع بمستوى الرصيف الى أكثر من نصف متر بالمقارنة للرصيف المحاذي له ومثل هذا التجاوز وجدته في أكثر من شارع. أما التخطيط في البناء فحدث بلا حرج! حيث ترتفع سقوف وأعمدة البيوت متسابقة في الأرتفاعات، هنا بيت قديم لايتجاوز أرتفاع أعمدته الأرتفاع المتعارف عليه (3- 3,5)م بينما يجاوره بناء في (العهد الجديد) تجاوزت أعمدته 4,5 م فشوهت منظر الشارع متحدية برشاويها ووساطاتها سلطات البلدية! سابقا كانت الدولة بسلطات بلديتها لا تسمح لكل من يعيد بناء داره من أن يبني على هواه للجهة الظاهرة للشارع، فمنظر الشارع من جانبيه من حق المواطن والدولة وهو الذي يحدد جمالية المدينة وذوق المجتمع ومدى تطوره الحضاري، أما الآن لا ذوق ولا جمالية ولاحضارة والبلدية نائمة كمجلس المحافظة ومحافظها. لكن هؤلاء النائمون أستيقظوا فجأة عندما نشرت منظمة التجمع الثقافي من أجل الديمقراطية في كربلاء بوستراً كاريكاتيرياً (تجده في أسفل المقالة) يختصر وينتقد بسخرية كل هذه السلبيات من إهمال وسوء خدمات وفساد مستشري وغياب قانون، ليس في كربلاء وحسب وأنما في عموم الوطن، أستيقظوا كل هؤلاء النائمون ليستدعوا ممثلاً عن المنظمة لأستجوابه وتوضيح الهدف من هذا البوستر، أنه تحذير وأنذار وترهيب مبطن. الغريب أن هذا البوستر الذي أنتشر على جدران وأعمدة المدينة ولاقى أستحساناً وأعجاباً من جماهير كربلاء، بالمقابل أثار غضب وأستفز بعض أعضاء مجلس وأدارة المحافظة بحجة وصول عدة تقارير من جهات مسؤولة أستخباراتية من الحكومة المركزية في بغداد، بينما لم تستفزهم وتغضبهم القاذورات والشوارع الخربة والجدران القذرة والأهمال في دوائر الدولة والرشاوي والفساد المستشري في الأجهزة الأدارية، وأنقطاع الماء والتيار الكهربائي لأكثر من 21 ساعة وخاصة أيام عاشوراء*.  أما الغاز فهو مصيبة فتدافع النسوة والأطفال وصياحهم وعراكهم من أجل أن يحتلوا مكانا مناسبا وسط طابور من الواقفين يزيد عن 200 شخص وهم يقفون وسط الأمطار والبرد القارص من أجل قنينة غاز (ربما تكون غير صالحة للأستعمال أو أكثر من نصفها فارغ) ونفس الشيء بالنسبة للنفط، أما محتويات البطاقة التموينية فالأعلام يتحدث عنها علنا، هؤلاء المسؤولون الذي أستفزهم وأثار غيرتهم البوستر لم يحركوا ساكنا لمعالجة هموم الناس وهذا ينطبق على العراق بأجمعه. فهنيئا لأهالي كربلاء وللشعب العراقي نوابهم وممثليهم في مجالس المحافظات وهنيئا لمرجعياتنا لتوجيهاتها الحكيمة في أختيار ممثلينا.

 *- كان النظام المقبور يوفر الكهرباء للمدن المقدسة أيام المناسبات الدينية 24 ساعة، بينما حكومتنا بالرغم من تبجح قادتها بحب آل البيت فقد حرمت المدينة من الكهرباء أكثر من  20 ساعة أيام عاشوراء، وقد وصل الأنقطاع حتى 22 ساعة!

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com