مكابدات تكنولوجيا الاعلام المعاصر

 

 د. سّيار الجميل

www.sayyaaljamil.com

ان حقول الاعلام المختلفة في منطقتنا بالكامل، وخصوصا تلك التي تقدم موادها بالعربية، باتت فاقدة لتوازنها ليس بفعل السياسات التي تحركها، بل ايضا بفعل هذا التطور الهائل في الاتصالات وتكنولوجيا الاعلام .. اذ بات الكل مشترك في صنع الكلمة بوسائط متباينة .. لعل اخطرها الانترنيت ومشاركة هذا الكم الهائل من المجهولين في بث الاخطاء وتزييف المعلومات وحجب الحقائق وتهميش الوقائع .. لقد وصل الابتذال الى حدود دنيا من السقوط، حتى باتت الحقيقة مغيبة في قعر هذا المحيط الذي تنتفي منه المصادر انتفاء كاملا .

كان الاعلام في السابق مؤثرا جدا لمعرفة مصادره وقوة فاعليته في كل الاوساط وخصوصا الشارع السياسي والبيت السياسي وفي المدرسة والمصنع وكل المؤسسات .. كان ينقل تعبير المجتمع وكانت الدولة تخشى قوة الكلمة المكتوبة والمذاعة .. اليوم ابتذل الاعلام بفعل هشاشة الكلمة وفجاجة الخطاب واصبح الكل يكتب ما شاء له ان يكتب .. لم يعد المجتمع له الوقت الكافي ليتابع اي قضية او اي ازمة او اية مشكلة اذ غرق المجتمع نفسه في المشاكل !! اما الدولة، فلم تعد تخشى اي مقال او اي كاتب او اي اذاعة او اي محطة تلفزيونية لأن هناك ما هو اعلامي رسمي او مرتزق او مشترى اصلا .. ضاعت المواقف بين اصحاب الحقيقة وبين المشوهين المفذلكين والمفبركين .. ان الاعلام العربي بقدر ما يصرف عليه من الاموال، فهو متراجع وكسيح وهو يهتم بالدولة والسلطة اكثر من اهتمامه بالمجتمع والقضايا الشعبية انه يهتم بالفن الرخيص والفنانين والفنانات اكثر من اهتمامه بالعلماء والمفكرين والادباء .. لقد ساهم الاعلام العربي مع كل الاسف في تأجيج الاحقاد والانقسامات وكان سلعة يباع ويسترى من قبل دول ومؤسسات واشخاص لا علاقة لهم ابدا بالكلمة والموقف والخطاب ..

 ان المنطقة بكاملها، وخصوصا ذلك المجال الذي تتحرك فيه الاعلاميات الهزيلة في الشرق الاوسط ينبغي لها، بل كان عليها ان تجد البدائل الحقيقية لما ينتشر فيها من منظمات ومؤسسات واجهزة لا تمت بأي صلة الى اي مشروع اعلامي حضاري يمكنه ان يجد مكانه تحت الشمس، وينافس الثقافات الاعلامية الاخرى في العالم .

مؤسسات باجندة خاصة

 لقد باتت اغلب المؤسسات والاعلامية في منطقتنا والتي تبث وتنشر بلغات مختلفة لا تفي ومتطلبات هذا العصر، وانني عندما اخاطب الاعلامي ومتلقيه بالعربية مثلا، فان من اللياقة ان احدد خطابي عن مؤسسات اعلامية باتت لا تفي اليوم بمستلزمات العصر ابدا .. واذا كان بعضها قديم قد تأسس منذ عقود من السنين، فان بعضها حديث العهد لم يمض على تشكيلة الا بضع سنوات .. واذا كان بعض تلك المؤسسات قد ارتبط بوجه او بآخر مع هذه الحكومة او تلك السلطة، فان بعضها الاخر كان قد تأسس على ايدي امراء ورؤساء جمهوريات وحكومات ووزراء سابقين .. انني لست ضد ذلك أبدا، ولكنني ضد الاجندة السياسية التي يفرضها قادة وزعماء ومسؤولون على مؤسسات اعلامية يؤسسونها او تلك التي ترتبط بهم ارتباطا شخصيا في غير بلدانهم ..

ان من اسمى ما يمكن التطلع اليه، ان يأتي انبثاق المؤسسات الاعلامية في مثل هذا الوقت بالذات من بدايات القرن الواحد والعشرين كي يلبي حاجة أساسية يتطلبها الواقع المرير الذي تمر فيه أوضاع المنطقة كلها، ولكن السؤال : هل يمكن ان تبقى مثل هذه " المؤسسات " مستقلة " باهدافها ومبادئها واساليبها وخططها ومشروعاتها .. ؟؟ الجواب ": لا ابدا، بسبب احتدام الصراعات السياسية والايديولوجية والتي زادتها اليوم تفاقم الصراعات المذهبية والطائفية والاثنية والاجتماعية بشكل عام ! انني أعتقد جازما بأن اي تأسيس لمثل هذه " المنظومات " الاعلامية يعد من الانجازات الحضارية التي لابد ان تغدو مثلا رائعا ومتميزا في ريادته لبقية الحقول المهنية الأخرى، ومن اجل أن يخطو الفضاء الاعلامي خطواته السديدة على درب جديد يرسمه القرن الجديد، خلاصا من استمرارية الآليات العقيمة والأساليب الدوغمائية التي تتمثلها الاجهزة الرسمية القديمة المتحجرة التي كانت قد انبثقت في عقود القرن الماضي، ولأسباب أيديولوجية وعوامل سياسية أو سلطوية كما ألفتها الحياة على امتداد نصف قرن !

 مكابدات الدولة والمجتمع معا

 .. دعوني اسجل لكم جميعا هذه المكابدات والملاحظات التي تتضمن نقدات ومقترحات وفتح صفحات جديدة من اجل خدمة العمل الجماعي للثقافة الاعلامية التي يعاني منها كل من الدولة والمجتمع، وخصوصا من الوسائل الجديدة (الفضائيات المرئية والمواقع الالكترونية):

 1/ ان مجرد فتح المجال للصحافة والاعلام ( باسم الحريات والديمقراطية ) والقاء التهم وتبادل التراشق بالاسماء في مسائل متنوعة ربما لا علاقة لها بأي موضوع، يعد من جملة الاخطاء او الخطايا التي يرتكبها مجهولون من دون اي شعور بالذنب ولا اي اسلوب في التعايش مع اية مصاعب ولا اية استجابة لأي تحديات.. ليس بسبب فتح جروح لا تندمل بسرعة، بل بسبب نيل شخص معين او مؤسسة بذاتها او مسؤول او اسم من الاسماء .. ان ما تشهده مواقع الكترونية تفتح التعليقات امام كل من هبّ ودب ليعلن عن شتائمه وعن سبابه وعن سقطاته او انفعالاته .. وباقلام منها من نعرفه ومنها من لا نعرفه .. ان هذه الاساءات يعاقب عليها القانون في اي مجتمع متمدن يلتزم بالاعراف الديمقراطية ويعمل ضمن سقف القانون والاعراف الاخلاقية ..

 2/ ان الديمقراطية لا تعني فتح الابواب امام التشهير والقذف العلني والاساءات البالغة .. والتي وجدت لها بيئة خصبة لدى المجتمعات في السنوات الاخيرة .. اننا قد نختلف سياسيا وثقافيا وفكريا مع بعضنا البعض الاخر، ولكن ليس ثمة ما يفقدنا اي احترام متبادل بين اثنين او اكثر فسريعا ما ينتقل التباين النقابي او المؤسسي الى اختلاف سياسي وفكري، ومن ثّم الى خلاف سجالي، وبعدئذ يجر الى مهاترات شخصية وشتائم تصل الى حد كسر العظام وتهشيم السمعة .. وكل هذا وذاك ليس له اي وازع اخلاقي ولا اي مبرر موضوعي ولا اي مسوغ حقيقي من قبل اناس لهم مواقفهم السياسية او الشخصية المضادة . وهنا الوم كل من يفقد اعصابه فيجعل مؤسستنا الاعلامية مادة دسمة للاستلاب .

 3/ لقد كانت الخلافات الثقافية والادبية والفكرية والسياسية والاعلامية في مجتمعاتنا وحياتنا سابقا تدور بين اثنين او بين جماعتين او بين مؤسستين أو بين حزبين او بين جريدتين او بين طرفين اثنين .. وربما تنحصر بين الجدران او في المكاتب او في القاعات او اروقة الجامعات او حتى ان نشرت فتبقى في اطار محلي ضيق وربما تخرج على الملأ في صحافة وطنية او اهلية معروفة وقد عشنا وشفنا معارك سياسية وادبية وفكرية بين ادباء وشعراء ومفكرين وساسة تعرف كل اسمائهم وتدرك جل عناوينهم على صفحات جرائد او مجلات مسجّلة ضمن قانون مطبوعات اي دولة .. وربما لا يتجاوز احدهم الاخر بسبب نصوص القانون اولا وبسبب قيود الصحافة ثانيا، وبسبب قانون المطبوعات ثالثا ..

4/ اما اليوم، فلقد دخلنا مناطق محظورة وجد خطيرة لا يمكن للمرء معرفة من يشتمه ويسّبه ويقلل من قدره، او ان يدرك ما الخطأ الذي جناه، ولا يمكنه ايضا ان يرد التهم التي تلصق به، اذ انها تتنزّل عليك من اناس تجهلهم، ومن خصوم لا تعرف اسماءهم، بل من اناس لم يعرفوك ولم تعرفهم ابدا .. كما ليس باستطاعتك الوصول اليهم ورفع الدعاوى ضدهم، او محاسبتهم او مجادلتهم كي يتم الاعتذار منك او منهم علنا .. بل ولا يمكن لأي من المعتدى عليه ان يعرف متى تأتيه السباب والشتائم وهو في غفلة او سفرة او حتى ان قضى ورحل عن الحياة .. خصوصا وان ارقى آليات الاتصال وتكنولوجيا المعلومات قد وجدت نفسها في مجتمعات متخلفة غارقة في الوحل والطين، او انها تتحرك ضمن بيئات متوحشة تتشكل فيها جوقات من اناس تتنوع ليس افكارهم وابداعاتهم، بل تتعدد سيئاتهم وانعدام اخلاقياتهم .. ومن المؤسف ان تفتح القنوات على مصاريعها من قبل بعض المواقع العربية لتصبح ادوات تشهير وقذف باسم الديمقراطية، وكأن الديمقراطية لا يمارسها الا انصاف المثقفين والجهلاء والرعاع ضد المثقفين بعيدا عن نقد ممارسات القادة والزعماء وما يقترفه عدد كبير من السياسيين والاعلاميين من آثام وجرائم ؟

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com