|
بعد أن بدأت حكومة عبد لكريم قاسم بالتراجع أمام ضغوط القوى الرجعية، وتخلت عن الكثير من المنجزات التي شدت الجماهير إليه، وانتهجت سياسة المهادنة مع القوى المعادية له، وتوجيه الضربات للحزب الشيوعي، بدأت تلوح في الأفق بوادر الانقلاب الجديد، من خلال التحركات المشبوهة للقوى الرجعية والضباط المتقاعدين وبعض الذين لا زالوا في الخدمة ولهم توجهاتهم المعروفة المخالفة لتوجهات الحكومة، والمؤامرات الخارجية لدول الجوار العراقي، وما قدمه عبد الناصر والنظام السوري من دعم لا محدود للقوى المعادية له، ومحاولاتها المتواصلة لإسقاط النظام، بالتعاون مع شركات النفط المتضررة من القانون رقم 80، ناهيك عن العزلة التي واجهها النظام بسبب سياسته الداخلية، التي جعلت الجماهير تتراجع عن تأييدها بعد أن لاحت في الأفق بوادر عودة القوى الرجعية إلى مراكز الحكم، وتغلغلها في مفاصل الدولة، وأصبح متصرف اللواء يتصرف بلوائه دون علم الحكومة المركزية، فيما يقبع الزعيم في وزارة الدفاع غير عالم بما يجري حوله أو يحاك من مؤامرات، وزاد الأمور تعقيدا مطالبة قاسم بضم الكويت إلى العراق وما رافقها من تحركات للدوائر الغربية تحت ذريعة الدفاع عن الكويت وتحشد قواتها على تخوم العراق، (هذا الأمر يحتاج إلى مقال خاص فقد كانت الكويت وراء إسقاط الحكومات العراقية جميعها) ناهيك عن السعي الأمريكي المحموم لتغيير النظام في أطار خططهم لمحاربة الشيوعية وتنامي دور الحزب الشيوعي في العراق الذي يعد في طليعة الأحزاب الشيوعية العراقية تمسكا بالأممية البروليتارية، وهو ما أعترف به قادة البعث أنفسهم في مذكراتهم المطبوعة عن مجيئهم بالقطار الأمريكي الميمون، فيما جرت تحالفات مشبوهة بين حركة القوميين العرب الناصرية، والبعثيين والقوميين الإسلاميين والعسكريين المحافظين، وبعض القوى الدينية والرجعية المتضررة من الثورة، وكان الأمريكان يتحركون ويجرون اتصالات مع القادة البعثيين أمثال هاشم جواد وطالب شبيب وعلي صالح السعدي، فيما كان ارتباط صالح مهدي عماش مباشرا مع السفارة البريطانية عن طريق ملحقها العسكري، وظهرت الكثير من الوثائق المؤكدة لارتباط هذه الجهات بالجانب الأمريكي وارتباط جهات قومية بالسفارة البريطانية، ورغم إن قاسم يعلم بتلك التحركات إلا انه لم يتخذ الإجراء اللازم لمواجهته، فيما كانت أجهزته الأمنية تعلم بما يجري ولكنها تخفي الكثير من المعلومات لسعيها للخلاص منه. واتبع البعث تكتيكات ناجحة في السعي للوصول إلى السلطة، فتحالف مع الأكراد لتصعيد حركتهم المسلحة حتى تنشغل الوحدات العسكرية في الحرب وإبعاد الضباط اليساريين، حتى يتسنى لهم الانفراد بالسيطرة على بغداد، وقامت القيادة العسكرية الفاعلة المرتبطة بهذه الجهات بإبعاد القادة العسكريين الشرفاء مع وحداتهم إلى كردستان، وتمكنوا من القيام بإضراب طلابي لأشغال أجهزة الدولة في بغداد، وكانت الأمور تجري بمخطط مرسوم شاركت فيه الكثير من القوى التي يعتمد قاسم عليها في الوقت الذي قام بإبعاد العناصر الموالية له وتجريدها من مسؤولياتها بتأثير البعض من المقربين إليه الذين يمهدون للإجهاز عليه، في تصور من هؤلاء بأنهم سيتولون السلطة بعد إسقاطه وهو ما أصبح يراود كل عسكري في إن يكون يوما زعيما للبلاد لأن الأمر لا يحتاج إلا إلى بضع دبابات وطائرتين لتكون السلطة بمتناوله، بعد احتلال الإذاعة وضرب القصر الجمهوري. وكان الحزب الشيوعي يعاني في تلك الفترة من انقسامات داخلية وصراعات وتكتلات مريبة، وهجمة هوجاء من السلطة الحاكمة أفقدته اخذ زمام المبادرة او القدرة على التحرك بالفاعلية المعروفة عنه بين الجماهير، ويتحمل وزر هذه الأخطاء أعضاء في اللجنة المركزية والمكتب السياسي وبعض الكوادر المتقدمة ممن سعوا لإضعاف الحزب وإدخاله في معارك جانبية أضرت بمصالحه وأضعفت وجوده وجعلت سكرتيره والمخلصين من قادته غارقين في حمى الإصلاح الداخلي، ويتحمل كامل المسئولية في هذا التردي الراحل عامر عبد الله(الشيوعي الأفندي)وكتلته التي سعت لإبعاد سكرتير الحزب والانفراد بقيادة الحزب لأسباب ناجمة عن التركيبة الطبقية للراحل عبد الله الذي لم يكن في يوم من الأيام من المناضلين الأشداء، أو البواسل المتصدين للسلطات، او المعروفين بجهاديتهم العالية وصمودهم، فلم يعتقل في حياته بل كان متقدما في مختلف لعهود والأزمان، ويتمتع بحماية خاصة تجنبه الحبس والإعدام. ورغم ذلك فأن الحزب كان على دراية بالتحركات المشبوهة للقوى المعادية للثورة، وتحاول الانقلاب عليه، من خلال الضباط الشيوعيين المنتشرين في الوحدات العسكرية في بغداد وخارجه، وقد وصلته معلومات مؤكدة عن تهيؤ وحدات في أبو غريب للقيام بحركة، وأصدر بيان حذر فيه من هذه التحركات طالبا التصدي لمواجهته، محذرا قاسم مما يجري، ولكن تحركات قاسم لم تكن بمستوى الحدث، رغم اعتراف المتآمرين، وإلقاء القبض على علي صالح السعدي الأمين العام للبعث، وكان عليه إجراء تنقلات في صفوف الضباط وإبعاد الضباط غير الموالين إلى خارج بغداد، وإسناد قيادة الوحدات لضباط مخلصين بعيدين عن التوجهات البعثية القومية المريبة، ولكنه لم يفعل لأسباب لا يعلمها إلا هو شخصيا. ولكن يمكننا أن نطرح تساؤلا يفرض نفسه، لماذا لم يتحرك الحزب الشيوعي لإفشال المؤامرة قبل حدوثه، بإمكانياته المتواضعة، ووجود ضباط في القيادة محسوبين عليه مثل مدير الحركات العسكرية الشهيد طه الشيخ أحمد، وقائد القوة الجوية الشهيد جلال ألأوقاتي، والشيوعي وصفي طاهر مسئول حماية عبد الكريم قاسم والقريب منه وغيرهم من الضباط الذين كانوا في مراكز مهمة ويرتبطون بعلاقة مع الحزب الشيوعي، وان قيادة القوة الجوية لوحدها كافية لإحباط أي تحرك او انقلاب، وهل أن الصدفة وحدها وراء تلكؤ الشهيد جورج تلو في إبلاغ قائد القوة الجوية بالأمر، أم أن هناك أشخاص في القيادة غير جديرين بتولي مسئولياتهم لعدم توفرهم على الروح الاندفاعية، وكيف للحزب أن يزج أعضاءه ومناصريه في معركة خاسرة بعد الانقلاب وهو ما سنشير إليه في موضعه. وأرى بعيدا عن أي التزام مبدئي، أن الكثير من قيادة الحزب في تلك الفترة لم يكونوا بمستوى المسؤولية، وغير قادرين عمليا على المواجهة لوجود خلافات عصفت بوحدتهم، أو أتكاليتهم وعدم تقديرهم للأمور، وافتقادهم للعزم الثوري الذي يجعلهم بحجم المهمة وما تتطلبه المرحلة من موقف حاسم لأسباب كامنة في طبيعة الحزب الذي لا يتبنى الكفاح المسلح أو العمل العسكري في حسم الأمور، وهذا الأمر واكب التحرك الشيوعي طيلة تاريخه باعتماده دائما على الجماهير الشعبية التي لا تمتلك في الواقع أي تأثير على تغيير الأحداث، والأحرى بالحزب أن له تكون قواعده العسكرية التي يقودها العسكريون أنفسهم، لا أن يتولى قيادهم رفيق مدني لأسباب كامنة في النفسية العسكرية التي لا ترتضي أن يقودها مدني مهما كان وزنه وموقعه في المجتمع، في الوقت الذي كان الحزب يربط تنظيماته العسكرية بمدنيين بعيدين عن طبيعة العسكر وتعاملاتهم، وكان الأولى أيكال أمر التنظيم إلى عسكري كفء قادر على التعامل مع زملائه العسكريين، ولا زال الحزب على هذا التفكير دون الاستفادة من الدروس السابقة. ولم تفكر قيادة الحزب بتشكيل لجنة طوارئ لمتابعة التحركات الجارية في البلاد، واكتفت بتوجيه نداء إلى الجماهير التي لا تمتلك القدرة على إحباط أي محاولة انقلابية، لعدم امتلاكها الأسلحة القادرة على مواجهة قوات عسكرية مدربة تمتلك إمكانيات حربية كبيرة، ويقودها ضباط مجربون في إدارة المعارك، ولعل خطة الطوارئ التي وضعها الحزب وجرى الإشارة إليها في مواطن متعددة من تاريخه لا تمتلك في حيز التطبيق أي تأثير فاعل لإيقاف أي تحرك مضاد، ولا تعدو أن تكون خطط كتبت على الورق اعتمدت آراء مدنيين لا علاقة لهم بالتعبئة العسكرية أو خطط الميدان، وما يتطلبه الموقف من خطط عسكرية متكاملة يعدها عسكريون محترفون. وما يثير الغيظ والاستنكار أن الرفيق سباهي مؤرخ الحزب الشيوعي يورد جملة ليست في محله، ولا يمكن أن تصدر عن مؤرخ جاد، حيث يقول ص233 ج2 من عقوده(في يوم 7 شباط 1963 بادرت إحدى صديقات الحزب الشيوعي إلى إخبار الحزب بان موعد الانقلاب سيكون في اليوم التالي أي 8 شباط بعد أن علمت ذلك من عشيق لها عسكري يسهم في الإعداد له)وهذه الجملة النشاز شكلت صدمة كان على الكاتب الكريم تجاوزها او محاولة تلطيفها او عدم إيرادها فكلمة "عشيق لها يشارك في الانقلاب" تعطي مدلول غير مشرف عن الحزب الشيوعي وعلى مؤرخ الحزب النأي عنه، وعدم إيراده بهذه الطريقة غير المهذبة التي تنال من سمعة الحزب وشرف أصدقائه، ويبدوا إن الأعراف الاجتماعية الغربية أنست الرفيق العزيز ما عليه المجتمعات الشرقية من عادات وتقاليد.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |