|
مواجهة الانقلاب: لا أريد الخوض في مجريات الانقلاب وإحداثه فقد كتب الكثير عن الموضوع، وتضاربت الروايات عن الحدث الواحد حتى بين الانقلابيين أنفسهم في تكالبهم المحموم لإثبات أيهم المشارك الفاعل في الانقلاب ولكن في صبيحة الجمعة السوداء في تاريخ العراق الحديث، شرع الانقلابيين بمهاجمة وزارة الدفاع والسيطرة على الإذاعة والأماكن الحساسة في العاصمة، واحتلال المواقع الحكومية المهمة، وكانت المقاومة البطولية لأنصار الثورة في الدفاع مما يستحق التسجيل بمداد من نور في عداد الملاحم البطولية للعراقيين، فماذا كان موقف الحزب الشيوعي من الانقلاب، هل ينتظر نجاح الانقلاب ليقوم الانقلابيين الجدد بتصفيته أم يحاول التصدي له وإفشاله، وسلوك طريق اللاعودة ، يبدو أنه أختار الطريق الثاني، فأوعز لقواعده وأنصاره ومؤيديه بالخروج إلى الشارع ومقاومة الانقلابيين، فهبت الجماهير الكادحة بأسلحتها البسيطة لمواجهتهم، ولكن أين للمقاومة الشعبية التي لا تمتلك إلا قطع صدئة من السلاح التمكن من إفشاله أو القضاء عليه، بعد أن تخلت القيادات العسكرية المتواجدة في بغداد عن نصرة الزعيم رغم اتصالاته الهاتفية به، وبذلك قدم الحزب الشيوعي على مذبح التضحية الكثير من قواعده وأنصاره ومؤازريه في معركة غير متكافئة لم يخطط لها أو تكن في الحسبان، وفي ظل خيانة مخزية لمسئول التنظيم العسكري وقتها هادي هاشم الأعظمي الذي تواطيء مع الانقلابيين وهنائهم بالنصر عند توجهه للإذاعة، وأصبح دليلا لحرسهم القومي في الكشف عن الأوكار الحزبية ومكامن القيادة، وكان الأولى بالحزب ان يهيء قبل الانقلاب ما يجدي لمواجهته، ويهيئ قواه العسكرية من صغار الضباط وضباط الصف والجنود في حركة مضادة للسيطرة على وحداتهم وإشراكها في معركة حاسمة قد تفضي إلى النجاح، ولكن قيادته التي تفتقر لأي تخطيط عسكري، أو خبرة حربية، وابتعادها عن كل ما يحسم الأمور بالطريق العسكري، دفعته لخوض مقاومة لا يمكن أن يقدر لها النجاح. فقد سارعت قيادة الحزب لعقد اجتماع طارئ لأعضائها المتواجدين في بغداد، لاتخاذ القرار الحاسم، رغم افتقارها أساسا للتخطيط الفاعل في مواجهة مثل هذه الاحتمالات، أو وضع خطة عسكرية حاسمة لعدم وجود عسكري واحد يمتلك الخبرة الكافية لأعداد خطة فاعلة لمقاومة الانقلابيين، أو تمتلك خبرة ميدانية في الكفاح المسلح لمعالجة الأمر، أو التهيئة المسبقة لعناصر تمتلك أسلحة قادرة على العمل الحاسم، فكان الإجماع على مواجهة الانقلاب، فاصدر الحزب بيان دعا فيه الجماهير لمقاومة الانقلاب وسحق المؤامرة الرجعية الاستعمارية، متصورين أن الأمر يحسم بمثل هذه البيانات غير المستندة لواقع قادر على أخذ زمام المبادرة وحسم المعركة، لقد كان البيان حماسي له تأثيره الواضح على الجماهير العزلاء التي سارعت لاحتلال بعض المراكز وقطع الطرق على الدبابات، وإيقاف تقدمه، مما دفع الانقلابيين لاستعمال الخديعة ورفع صور الزعيم حتى يتسنى لها الوصول لأهدافه، وكانت أسلحة الجماهير البدائية كالسكاكين والعصي والمديات وبعض الأسلحة النارية البسيطة التي تصلح لمناسبات الأعراس لا خوض معامع القتال، ورغم رفض الزعيم لتسليح هذه الجماهير المدافعة عنه لأسباب إنسانية مبررة غايتها عدم إراقة الدماء,وخشية نشوب حرب أهلية تودي بأرواح الكثيرين واستعداده لتسليم السلطة، إلا أن الجماهير عبرت عن مشاعرها بتلك المقاومة الباسلة التي أرعبت الانقلابيين، وتستحق الحمد والتقدير، فيما كان العسكريين المتواجدين في بناية وزارة الدفاع قد أبدو مقاومة بطولية راعية حرية بالإعجاب ، ولكن الانقلابيين ازدادوا قوة على وقوة لمقتل قائد القوة الجوية، وحصولهم على طائرات تمكنت من حسم الموقف لصالحهم، وما قدمه قادة الوحدات المتواجدة في بغداد المحسوبة على الثورة من دعم وإسناد لهم، مما جعل المقاومة غير ذات جدوى ومكن الانقلابيين من السيطرة واستسلام قاسم وإعدامه بالطريقة المعروفة، وبعد انتهاء المقاومة نزل الانتهازيون إلى الشوارع في حملة عارمة استهدفت الشيوعيين وأنصارهم، وكان ما كان من قتل وإبادة لخيرة المناضلين الشجعان، بإيعاز من الانقلابيين من خلال بيانهم 13ر سيء الصيت، ودعم من القوى الخارجية التي أمدتهم بمعلومات أستخبارية كانت المعين لهم في التحرك، إضافة للانهيارات والخيانات التي مارسها البعض مثل حمدي أيوب العاني وهادي هاشم ألأعظمي وغيرهم، ولنا أن نتساءل أين التنظيمات العسكرية وما هو دورهم في المقاومة، وهل كانت خيوط الاتصال معهم تسير بالطريق السليم أم أن المسئولين عنهم لم يكونوا بمستوى المسئولية، أم أن التخاذل والاستخذاء لبعض القيادات التي لم تكن مؤهلة كان وراء هذا الانكسار الكبير، وما رافقه من خسائر لخيرة القادة الشيوعيين الذين لن يجود الزمان بمثلهم وأن تعاقبت السنين والأعوام. لقد كان الانقلاب في حقيقته موجها لإنهاء الحزب الشيوعي العراقي بالذات وليس قاسم لوحده، وهو ما ظهر من خلال الوثائق ومذكرات قادة الانقلاب والمشاركين فيه، وما كانت تقوم به إذاعة ناصر والإذاعة البريطانية من تقديم توجيهاتها عن مخابئ الشيوعيين وأوكارهم، في ظل صمت مطبق من الأطراف الوطنية الأخرى التي وجدت في الحزب الشيوعي مزاحم لها لما يمتلك من جماهيرية جعلتها في الهامش ليس لها مكان بين الجماهير، وكانت قيادة الحزب عارفة بما يجري لكنها لم تأخذ زمام المبادرة في عمل حاسم واستلام السلطة تحت حجج وذرائع واهية لا تصمد أمام المنطق، فقد كان للحزب الشيوعي أنصاره ومؤيديه القريبين من قاسم والقادرين على أزاحته وأحداث العمل المنشود، ولكن الخشية من الأقدام على العمل الحاسم، والتراخي في حسم الأمور وانشغال الحزب بصراعات داخلية، وإبعاد سكرتيره في محاولة لأزاحته، جعلت الحزب يتراجع أمام الهجمة اليمينية التي كان قاسم يقف ورائه، مما دفعه للإيغال أكثر وممارسة القمع والتنكيل بالقواعد الحزبية، وهيمنة القوى الرجعية على المنظمات والنقابات والاتحادات التي كانت تحت قيادة الحزب الشيوعي، في ظل تراجع وجمود مفزع من القيادة عن أـخاذ أي أجراء حاسم يوقف هذا التداعي ومواجهة الهجمة، مما جعل الحزب في موقف دفاع عن النفس وعدم القدرة على أخذ زمام المبادرة، وجعل القوى الرجعية تتحرك في الساحة وتعمل لإسقاط النظام. يضاف إلى ذلك أن بعض القيادات والكوادر المتقدمة في الحزب والتي تولت مسؤوليات في إدارة العمل الحزبي لم تكن مؤهلة أساسا لتولي هذه المهام، وبعضها لا يمتلك الحد الأدنى من الكفاءة والحصانة المبدئية أو الروح الكفاحية، مما جعل الكثيرين منهم بعد الانقلاب ينهارون عند اول صفعة ويدلون بمعلومات خطيرة أدت إلى ضربة قوية لقيادة الحزب وقواعده، وكان هؤلاء المنهارين أدلاء للقوى الأمنية، مما شكل ضربة مميتة للحزب، لولا بقية من رفاق أبطال تمكنوا من الإفلات ومواصلة النضال وإعادة بناء منظمات الحزب ليعود إلى الساحة سليما معافى بعد أن خيل للبعض أنها نهاية الحركة الشيوعية في العراق. وكانت المواقف الدولية مؤيدة للانقلاب، في ظل موقف مهادن من الاتحاد السوفيتي الذي فضل علاقاته السياسية على واجباته الأممية، فقد كان السوفيت يقفون بالضد من أي عمل حاسم لاستلام السلطة خوفا من تدخل القوى الغربية، ووفق خطط سرية لمناطق النفوذ، واكتفوا بعد الانقلاب البعثي والإعمال الإجرامية بحق الشيوعيين، بإصدار البيانات المنددة، دون أن يكون لهم القدرة على التدخل لإنهائه، لارتباطهم بموازنات دولية جعلتهم يبتعدون أكثر عن التضامن ألأممي المطلوب في مثل هذه الأمور، فقد كانت الدول المجاورة تدعم البعث ماديا ومعنويا وعسكري، في الوقت الذي كان الذي لم يكن له أي دور في دعم الحزب الشيوعي بل كانت نصائحه سببا في تقلص نفوذه وجوده مقابل الصفعات التي وجهت له طيلة تلك الفترة، بل إن السوفيت لم يوجهوا حتى النصيحة لقاسم بتغيير سياسته مع الشيوعيين، ومارس ذات الدور بعد انقلاب البعث في تموز 1968وكانت ألأسلحة الروسية توجه لصدور آلاف الشيوعيين دون أن تدفعه جرائم البعث إلى التخلي عنه، وكانت مصالحه الذاتية فوق التزاماته الأممية، مما يعطي دليلا واضحا على استقلالية الحزب، ودحضا لأفتراآت المنحرفين الذين كانوا يطبلون لتبعية الحزب وارتباطه بالروس .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |