|
وديع شامخ "أستراليا –بيرث " ... باسم فرات "اليابان –هيروشيما" مهاد بعد ان انحسرت مياة الطوفان ... طار الرجل الساكن في سفينة نوح الى" مدينة أين" .. طالبا النوم الأبدي والعميق بعد رحلة زمنية تجاوزت ستة عقود بقليل . مرّ خلالها بقار المدن ونفطها .. بعبيرها ودهشتها.. من كركوك الى بغداد .. ومن بيروت الى أمريكا .. ومن هناك من برلين كان لابد للموت أن يقف دقيقة حداد على الراهب العراقي .... سركون، الذي رحلّ في أوانه تماما كما أرى .. بعد ان طوّق عنقه طائر الشعر وانهكه نزيف المصائر البشرية وهي تترى الى ذات الجب .. بموت هذا الطائر .. كثر النوح على جنازته ، وعلا دويّ الصراخ على "لحافه الدافيء كثيرا". ارادوا ان يمطوا أرجلهم ودموعهم بهذا الكائن الأنساني ، الوسيم ،الخجول ، بهذا الشاعر الذي لم يحتفل بالمراثي .. وما بين صادق في الحزن و مجامل وكاتب عزاءات ، وما بين سركون ومعنى الاحتفاء بقامتة، وما بين حاملي مباخر الموتى دائما .. أردنا ان نحتفي بسركون بطريقة مختلفة .. باسم فرات وأنا .. كانت دموع باسم فرات تنهمر من هيروشيما مشيّعة شاعراً عراقياًً عاش في سان فرانسيسكو ومات في برلين!. كنّا على "الماسنجر" ، باسم يبكي.. وانا رفعت كأسَ نبيذٍ أحمرَ يليق بصحة سركون ، وثرثرنا على جثة الموت .. وثرثرنا على قامة سركون شعراً وهمسنا بأحاديثه الشخصية .. وقد غرزتُ سنارتي في ذكريات باسم مع سركون، فكنت اطارد بوحهما .. وأحتفي بشاعر يستحق الحياة والموت معا . -------------------------------------------- وديع: شاع في المشهد الثقافي العراقي –وياللأسف-طقس تذكّر الموتى من الادباء والشعراء والمثقفين،وليس موت سركون سوى واحد من حلقة هذه المأساة أو الملهاة..لقد قيل الكثير بعد موت الراحل وتبارى الجميع"بدون استثناء"لترسيخ" ثقافة المراثي"! وليس آخرهم سعدي يوسف في شهادته عن سركون الذي يقول عنه -الشاعر العراقي الوحيد-هل لديك ماتقوله بهذا الخصوص ؟ باسم: هذا هو حالنا، فنحن نتجاهل بعضنا بعضاً بل ربما لانلتفت او نحارب الآخر ولكن حين يموت يصبح الكل مرتبطاً بصداقة وبذكريات مع الراحل والذي يتحول فجأة الى كبير وفقيد الادب،وأنا واثق ان بعض من كتبوا عن سركون لم يقرأوه جيداً بل بعضهم كتب ان اسمه الوثني المسيحي يثير الخيال وهناك من كتب ان ملبسه واناقته وعدم جديته المصطنعة في الصور هي ما اثارتهم،ولكن اين سركون من هذا؟ بكل تأكيد لست أعني من يرتبط بعلاقة ثقافية واجتماعية او ثقافية فقط مع سركون ولكني أعني من لم يكن يرى فيه سوى شاعر بسيط يقلد الشعر الأنكلوسكسوني عموماً والأمريكي خصوصاً،وكانوا يرددون هذا في حياته واذا بهم يكتبون عنه بحميمية بعد وفاته ولنترك للقرّاء ان يضعوا مصطلحاً يليق بهؤلاء،وكم كنت أتمنى ان ينتبه النقد لهذا الشاعر ويعطيه حقه في حياته. أما عن الشاعر سعدي يوسف فالأمر يختلف هنا ،حيث تربطه علاقة حميمة بسركون ولهم ذكريات كثيرة وطالما حدثني سركون عن سعدي الشاعر والانسان،بحميمية، بل ان أحد مشاريع سركون المستقبلية كانت دراسة عن السياب وسعدي وقد ذكر لي هذا اكثر من مرة وحين اخبرته برأيي بالسياب وسعدي،شعرت بفرحه وعبر لي عن سعادته بلهجته العراقية المحببة ولازمته التي يكررها دائما :"لا..ما معقول..ما معقول..جميل جميل" وحين أغلقت الهاتف ورحت استعرض المكالمة وجدت نفسي أردد:"كم أنت عظيم ياسركون فانت تكبرني بربع قرن تقريباً وتركت العراق حين ولادتي وحققتَ منجزاً يغبطك عليه كل شاعر،وحين اخبرك اني انظر لتجربتيْ السياب وسعدي كما تنظر لهما،تفرح وكأنك اصغر مني سنا ً،ووجدت فيّ متفقاً مع رأيك وذائقتك،فعلا أنت عميق وعميق جدا ياسركون"،أما إذا كان سعدي وصف سركون بالشاعر العراقي الوحيد،فهذا رأيه الشخصي، وأنا ً لا اؤمن بالاطلاقات فلايوجد الشاعر الأوحد وأمير الشعراء وشاعر العرب الأكبر وعميد الادب وعميد المسرح.. الخ،هذه اطلاقات لا تتفق وفهمي للثقافة. وديع : لاحظنا شهادة مهمة لسركون عن تجربتك الشعرية عبر كتابة كلمة الغلاف لمجموعتك الثالثة "انا ثانية "، والمعروف ان سركون لم يكتب مثل هذه الشهادة عن شاعر شاب ، كيف حصل هذا ، هل من اضاءة لعلاقتك بسركون انسانيا وابداعيا؟ باسم : ترجع علاقتي بأسد آشور(هكذا كان صحبه ينادوه وبالذات مؤيد الراوي وأنور الغساني)،الى النصف الاول من الثمانينات،حين تعرفت عن طريق الكتب والمجلات الادبية على جماعة كركوك،-وان قيل رب ضارة نافعة -،فهي تنطبق هنا على سوء إدارة الدار الوطنية للنشر والتوزيع فبفضل سوء توزيعها تنام الكتب والمجلات في مخازنها ، وفي معارض الكتب التي كانت تقيمها الدار تستخرج ما في مستودعاتها من كتب ومجلات ، وهي التي منحتني الفرصة على إقتناء كتب ومجلات قديمة قد طبعت في السبعينات ومطلع الثمانينات وهنا تعرفت على الشاعر سركون بولص من ضمن جماعة كركوك والتي أراها مجموعة كبيرة العدد ولكن مثلها مثل أي جماعة لايمكن ان يبرز جميع اعضائها ، فمنهم من يغيّر مساره ومنهم من يتعبه الطريق، فيفضل ان يكون أباً ناجحاً بمقاييس المجتمع ومنهم من لا تساعده موهبته لأنها لاتنمو معه ،ثم كانت زيارته للعراق عام 1986 ان لم تخني الذاكرة لحضور مهرجان المربد،فكان لقاؤنا في كربلاء مع عتب على زيارته حيث كنّا نرى ان النظام السابق يستفيد من الذين يدعوهم اعلامياً،وهكذا بقيت صلتي به من خلال متابعتي لجماعة كركوك وازداد اهتمامي به في نيوزلندا لسببين، الاول :حين تعرفت على الصديق الشاعر صباح خطاب ووجدت عنده "الأول والتالي ، وانفرادات الشعر العراقي الجديد"،وكان قد جلبهما معه من باكستان مع كتب اخرى كان قد ارسلها له الشاعر والناشر خالد المعالي،وهذا ما سمح لي ان أكوّن فكرة افضل عن شعر سركون بولص من خلال هذين الكتابين ، والسبب الثاني:هو نتيجة لمشروع قراءتي لتاريخ العراق بكل عصوره وتنوعه اللغوي والديني والمذهبي والمناطقي،مما منحني تفهماً أكثر لإبداع سركون بولص وخلفياته ، هذه المعرفة التي ازدادت كثيراً من خلال مكالماتنا الهاتفية التي تجاوزت الثلاثين ساعة ،خلال عامين. وديع: تكلمت عن الجانب الابداعي في علاقتك بسركون، هل تتذكر اول مكالمة شخصية معه وما هي مناسبتها ، وما هو شعورك بهذه المهاتفة؟ باسم: نعم اتذكر... فقد كانت أول مرة هاتفت فيها سركون بولص،كانت يوم الأحد 15 /4/2001 حين اتصلت هاتفياً بالروائي العراقي ومحرر موقع كيكا صموئيل شمعون وكان في برلين،فقال لي بجانبي سركون بولص هل تريد ان تتحدث معه فتحدثنا وشعرت من نبرة كلامه بتواضع جم،وطفولة ،توضحت عندي أكثر حين بدأت سلسلة اتصالاتنا الهاتفية.ولم أكلّمه حتى خريف 2005 حين زودني صموئيل شمعون مشكوراً برقم هاتفه وعنوانه،وكم كانت مفاجأتي كبيرة حين عرفني مباشرة ولم يكتف بهذا بل هو من بادر ذاكراً مكالمتنا الهاتفية الأولى قبل أكثر من أربعة أعوام ونصف كما وجدته متابعاً جيداً لما ينشرمما سهّل عليّ ان أسأله عن إمكانية كتابة كلمة لغلاف ديواني "أنا ثانية ً"واني سوف ارسله له فان وجد فيه ما يستحق ان يضع سركون بولص اسمه وكلمته عليه وهذا يسعدني، ،مؤكداً له اني لااخلط بين الاجتماعي والشعري،فما كان من الرجل الا ان قال لي:انني متابع للساحة الشعرية بشكل جيد وأقرأ للجميع ومتابع لما تنشر،ارسلها ياباسم،وسوف اطّلع عليها،شعرت انها ليست موافقة نهائية وان الرجل يريد الاطلاع على المخطوطة لكي يقرر وفعلا أرسلتها عبر البريد الافتراضي (الأيميل)وفي ذات اليوم أرسلت له نسخة من "خريف المآذن" ونسخة من المجموعة الانكليزية الأولى "هنا وهناك" ،وبعد سبعة أيام هاتفته وكان الوقت عندنا ظهرا وعندهم ليلاً للتأكد من وصول الطرد،ويالها من صدفة جميلة حيث اخبرني ان المجموعتين وصلتا اليوم ، وانه قضى يومه هذا مستمتعاً بقراءتهما وأثنى على الترجمة ، خصوصاً وان معظم نصوص خريف المآذن موجودة في هنا وهناك وهذا ما دفعه للمقارنة بين النصين العربي والانكليزي كما قال وشكرني كثيراً، حيث ان وصول "خريف المآذن" ورقياً وقبلها "أنا ثانية ً" افتراضياً منحته الفرصة للاطلاع على التجربة بشكل جيد وحينها وعدني انه سوف يكتب وخلال بضعة ايام يرسل لي كلمة الغلاف. تصور قامة شعرية كسركون بولص يشكرك قائلا بالحرف الواحد:"أشكرك ..لقد قضيت اليوم كله مستمتعاً بقراءة شعرك"،واذا عبرت عن اعجابك بشعره يشعر بالاحراج والخجل حتى اني كنت اشعر به من خلال الهاتف،حين قلت رأيي بشعره،والذي أدونه الآن والرجل غاب عن عالمنا ،حيث أرى فيه قامة شعرية عالمية وشعره الأقرب الى نفسي من الآخرين. وديع : ما هو تقديرك لدور جماعة كركوك في المشهد الابداعي العراقي عامة ؟ وماهو دور سركون بولص تحديدا في حركة التحديث الشعري العراقي ، ومن ثم ما هو تأثيره على تجربتك شخصيا ... ؟ باسم: جماعة كركوك مهمة عربياً وليس عراقياً فقط وهي تضّم فعلاً خيرة الأسماء الادبية عربياً،كما علينا أن لانغفل ان للجماعة دوراً وطنيّاً كبيراً ربما اكبر من دور الكثير من الاحزاب السياسية ألا وهو كونهم الدليل القاطع على ان الاحزاب القومية في العراق بجميع لغاتها ماهي الا احزاب شوفينية عنصرية إلغائية وخصوصاً التي تدعي أحقيتها بكركوك بينما كركوك هي عراق مصغر جميل وجماعة كركوك هي البرهان الواقعي والادبي والعلمي على ان كركوك ليست لأحد،وما كتابتهم بالعربية رغم تنوع خلفياتهم اللغوية إلا التأكيد على مانذهب إليه،ومما يؤسف له ان السياسيين العراقيين لم ينتبهوا لهذه النقطة لجهلهم بالتاريخ والادب،أما الادباء فلجهلهم بالتاريخ. بكل تأكيد ان سركون بولص هو أحد أهم مبدعي هذه الجماعة ولقد استطاع أن يُطوّر من امكانياته الشعرية بالقراءة والسفر والتأمل وسوف اختصر لك دوره بحكاية جرت له شخصياً رواها لي، وهي: حين وصل الى بيروت وفي جلسة ضمّته مع يوسف الخال وأدونيس واخرين قال لأدونيس: "ان في العراق شعراء يقلدونك ولقد اقترحت عليهم بدل ان يتعبوا أنفسهم بالكتابة ان يقصوا قصائدك ويلصقونها على أوراقهم"،انتهى مااخبرني بها سركون،وهذه الحادثة او الحكاية ان دلت فانما تدلّ على وعي سركون المُبكر للحداثة،فهو لم يكن صدى لغيره،ولقد حفر بعيداً في تحديث القصيدة الحرة،وأقول القصيدة الحرة ولا أقول قصيدة النثر،لأنه كان يرفض تسمية ما يكتب بقصيدة النثر،ويدعوها بالقصيدة الحرة،هذه القصيدة الخالية من البلاغة العربية وفخامة الجملة، وتحمل أوزانها الخاصة المتحررة من هيمنة اوزان الخليل والتي تستحق ان نطلق عليها "بالشَرَكية"،فهي تنصب الفخاخ لمن لايعي الحداثة وعياً ناضجاً وعميقاً، ولهذا ليس من المستغرب ان ينظر له البعض على انه مجرّد حكّاء بينما أرى ان دوره من أكبر الأدوار أهمية ً في فتح آفاق واسعة أمام الحداثة الشعرية العربية، فهو أحد الذين هبطوا بالشعر العربي من ابراجه العاجية وازال عنه أصباغه الرديئة، فسركون بولص مع قلة قليلة ممن سبقه وجايله ولحقه فتحوا لنا أبواب الحداثة والتجديد ولكنه لم يكن الوحيد والأ وحد،حيث لايوجد في الشعر من يحمل مشعل الحداثة لوحده. وديع: لم يعط "كافكا" أية أهمية للنقاش الدائر في حقبته حول الشكل الأدبي الذي يجب أن يتخذه الإبداع ... فلم يكتب بأنه يفضل الرواية على القصة القصة القصيرة او القصة القصيرة على الشعر.. بل كان يكتب وكان يتوقف عندما يرى أن الأسطر التي كتبها كافية، وأن ما مكتوب أمامه أخذ استقلاليته ؛ بمناسبة حديثك عن رفض سركون لمصطلح قصيدة النثر- وهو ما يشاركه اخرون كثر في هذا الرأي وأنا واحد منهم- ، تعرضت الى ذكر" القصيدة الشركية" هل لك ان توضح أكثر فيما تعنيه في هذا التوصيف الجديد ؟ باسم: عنيت بالقصيدة الشَرَكية ،هي التي يظنها البعض على انها مجرد حكي وان كاتبها حكّاء او حكواتي،ولكنها في الحقيقية عميقة جداً،هي التي تصطاد القارئ وتربكه قبل ان يصطادها، قصيدة خالية من بهرجة البلاغة العربية القديمة ولكنها تصنع بلاغتها كما تصنع موسيقاها وأوزانها الخاصة. وأول من مَثلَ هذا النموذج هو سعدي يوسف وان كان سعدي التزم أوزان الخليل،ولكن سركون بولص ذهب الى مديات أبعد وأعمق في عالم هذه القصيدة خصوصاً وان قصيدته استطاعت إيجاد أوزانها الخاصة والتي هي ميزة سركونية كما يذهب الى ذلك كاظم جهاد،ولكن يبقى الابداع الشعري هو الأهم بغض النظر عن التسميات،وللتذكير فأن القصيدة الشَرَكية تزداد منزلقاتها نتيجة لأن الكثير من القراء يتصورونها سهلة للغاية والحقيقة عكس هذا،ولقد قرأت لشعراء كثيرين يكتبون بهذه الطريقة ونصوص بعضهم فعلاً تستحق الشفقة ولكن الادهى ان هؤلاء جميعاً نسبوا الى شعراء اخرين وليس الى سركون بولص،اعني قُدموا على انهم متأثرون بشاعر اخر او اكثر غير سركون وأرى ان هذه القصيدة عراقية بامتياز. وديع :أرى أن تجربة سركون الشعرية تختلف كلياً عن مسارِكَ الشعري في مجموعَتيكَ ،كيف تفهم موضوع العلاقة بين شاعر وأخر على مستوى التأثير،وهل أن التشابه الشكلي بينكما بوصفكما تركتما العراق وخضتما غمار المغامرات من بلد الى آخر، أنتَ استقريت في هيروشيما وسركون في سان فرانسيسكو؟ هل كانت علاقتكما موسومة بهذا التشابه الشكلي فقط؟ باسم: هناك نقاط اختلاف ونقاط التقاء كانت بيننا ..فانا فعلا أهتم بتجربته كثيراً والتي أراها واحدة من أهم التجارب الشعرية في اللغة العربية،ولكن بكل تأكيد لي مساري الشعري الخاص،واهتمامي بتجربته الشعرية لايعني تقليدي لها فبالإضافة إلى تجربته هناك تجارب شعرية عربية احترمها كثيراً،أصحاب بعض هذه التجارب مازال على قيد الحياة،وبعض اصحابها لايكبروني سناً الا قليلا وغالبيتهم يختلفون معي في مسارهم الشعري ،ولكن هناك علاقة تنشأ بين شاعر وآخر بغض النظر عن العمر ولأسباب عديدة لن أتطرق لها ولكني سوف اتحدث عن علاقتي الخاصة بسركون بولص ولماذا قويت هذه العلاقة. شخصياً اعزيها الى عدة أسباب منها إيماننا المشترك بأننا ننتمي لأبعد نقطة في تاريخ العراق،واننا ورثة سومر وأكد وبابل وآشور ونينوى وأربيل وحدياب والحيرة والحضر والانبار والكوفة والبصرة وواسط وبغداد،وكنت دائماً أردد على مسامعه ما رددته في كل حواراتي ولقاءاتي ونقاشاتي ، ألا وهو اننا نحن الناطقين بالعربية(وهي التسمية العلمية كما أراها لمن يطلق عليهم بالعرب)والسريانية خليط من جميع الأقوام التي سكنت المنطقة وخصوصاً الهلال الخصيب وبالأخص العراق،فكان الراحل الكبير يجد في كلامي هذا صدى في نفسه، فهو قد سبقني باعوام طويلة بلا شك في هذا التفكير ربما،وفي حوار معه سألته المحاورة عن اللغة العربية ولماذا لم يكتب بلغته الأم الآشورية(وهنا نقطة خلافي معه فأنا لاأؤمن بوجود لغة آشورية او كلدانية او بابلية،لأن العراقيين تكلموا وحسب التسلسل الزمني اللغات السومرية والاكادية والآرامية،وقبل الاسلام كانت السريانية والعربية تتقاسمان العراق،وان كانت السريانية{{وهي ابنة الآرامية البارّة جداً}} أكبر مساحة حيث تمتد من الجنوب الى أعالي دجلة والفرات وباستثناء الموصل وبعض المناطق الاخرى،التي تشكّل بيث عربايا أي أقليم او ارض العرب حسب أدبيات اللغة الآرامية،فإن مناطق شاسعة كانت السريانية فيها اللغة الوحيدة او الاولى،بينما العربية لم تستطع ان تكون الوحيدة حتى في عواصمها وهي الموصل والحيرة والانبار،ولكن مع الاسلام سيطرت العربية)، أقول حين سألته السيدة مارغريت بانك رئيسة تحرير مجلة بانيبال المختصة بترجمة الأدب العربي الحديث للانكليزية و التي تصدر في لندن!! اجابها بأنه حين يكتب بالعربية كأنما يكتب بكل لغات العراق والمنطقة وهذا جواب علميّ لأن حقيقة اللغة العربية هي،انها الوريث الذكي لكل ميراث المنطقة وقد أخبرني ان فترة نهوض وبروز العربية كانت فترة خمول وذبول وموات بقية اللغات،وهذه شهادة من مثقفٍ يؤمن بآشوريتِهِ ومسيحيته وتقف بالضدِ تماماً من دعاوى البعض المفرطة بعدائيتها لكلّ ماهو عربي،وتستحق التأمل. وديع : . يصف الشاعر غيلان اللغة العربية بكونها اللقيط العبقري، المعجزة؟ باسم: انا أعترض على مفردة اللقيط وأرى ان مفردة الوريث هي الأكثر علمية وواقعية فالعربية إبنة شرعية لكل لغات المنطقة،كما نحن الناطقين بها ورثة ميراث المنطقة الحضاري. ومن الأمور الاخرى التي نتشابه بها هي ولعنا بتاريخ العراق،ونبشنا في هذا التاريخ،والراحل وأقولها للتاريخ،قد حيّاني أكثر من مرة على موسوعية قراءاتي لتاريخ عراقنا ونبشي المزمن في هذا التاريخ. شخصياً أعجب ممن يتباهى بقراءاته الموسوعية لثقافات اخرى وهو يجهل تاريخ العراق الثقافي خصوصاً،أو ممن يرى ان الأمر لايعنيهم أو يعتقدون ان قراءة التاريخ تتسبب بالغاء وطرد الشعر،وهؤلاء بالنسبة لي وان لم يعوا فقد اشتركوا بالخراب الذي يعانيه عراقنا ولو بنسب ضئيلة جداً، فلولا الجهل وأعني جهل الطبقة العارفة(لأنتلجنسيا)بتاريخ العراق لما تجرأ البعض على التمادي بالاساءة للعراق من خلال القول، ان العراق وطن اصطنعه الانكليز او من خلال التشكيك بعراقية وسامية نينوى الكبرى ونوهدرا وأربيل وكركوك وبعقوبا وتكريت.. الخ وتنوعها. والفقيد كان يكرر دائماً في حديثِهِ عن هؤلاء،انهم لو كانوا ينتمون فعلا للعراق لفخروا به ولكنهم لاينتمون وتؤرقهم ان كل متاحف الدنيا تشهد على اصالة العراق وتنوعِهِ وثرائه وحقيقته ولأنهم نزحوا الى مدننا حديثاً، فهم يشيعون هكذا دعايات تنتقص من العراق واللغة العربية وتراث العراقيين المكتوب بعقول ووعي ابناء الرافدين،ولكن بلسان عربي لهم الفخر انهم من قَعّده وقننه واغناه،(أكثر من سبعين بالمئة من التراث المكتوب بالعربية خصوصا في القرون الاسلامية الخمسة الاولى،ُكتب بأنامل عراقية أو ممن تعلم وتتلمذ في العراق). سركون كان من المؤمنين بأن الشعر معرفة ووعي وتأمل وتجارب لانهائية،انه سلسلة طويلة من المجاهدات حسب التعبير الصوفي،وهنا إحدى نقاط إلتقائنا أيضاً. وديع: . هناك من يقول أن اللغة العربية ليست لقيطة أو وريثة للغات العراق القديمة، والسبب ان اللغة العربية بصيغتها المقدسة"القرآن" أو من الشعر ا لجاهلي لم تكن تأثرت بلغة العراقيين .. وانما كانت وريثة لغة اليمن وقريش حيث نشأت الاقوام العربية وارتحلت بعدها الى العراق؟ وان اطلاق صفة العربية قوميا على الناطقين او المتثقفين بها يشكل اجحافا ًعرقياً وانسانياً لبقية الاقوام ؟ باسم: من الاخطاء القاتلة في ثقافتنا والتي خلفها لنا المستشرقون والمبشرون(وعائلة سركون بولص من ضحايا الاخيرين)هو ان الناطقين بالعربية نزحوا للعراق مع الجيش الاسلامي،وكأن لا وجود للعرب في العراق اطلاقاً،رغم ان الناطقين بالعربية هم نتاج تزاوج واختلاط جميع الاقوام التي سكنت او مرت بمنطقة الهلال الخصيب،ورغم كل الشواهد التي امامنا والتي تصرخ فينا،من أول احتكاك بين العرب والاشوريين في القرن التاسع قبل الميلاد وجلب اعداد منهم الى آشور ومن ثم الاحتكاك الثاني وهو مشاركة العرب مشاركة فاعلة مع الجيش البابلي الكلداني في حرب اسقاط نينوى للابد عام 612 ق.م ،وماتلى هذه المشاركة من توغل عربيّ في جنوب العراق وعلى امتداد الفرات وتعاظم أمر العرب في بابل والانبار مما اضطر الملك نبوخذنصر الى بناء حصن (حير أو حيرة باللغة الآرامية واصلها أكدي) ووضع زعماء وتجار العرب فيه، ومن ثم بعد احتلال بابل من قبل الفرس تزايدت اعداد العرب في العراق،مثلما تزايدت في بلاد الشام وبعد موت الاسكندر وحسب العلامة طه باقر،ارتحلتا قبيلتا جشعم وقضاعة من موطنهما في السماوة(ارجو الانتباه للمكان)الى شمال العراق قرب الموصل وتأسيسهم مع الآراميين هناك مملكة الحضر عام 200 ق.ب،ولغاية عام 100 بعد الميلاد وملكها "سنطرق" غني عن التعريف حيث وجدت كتابة تقول:سنطرق ملك عربو اي ملك العرب،وبعد ذلك بفترة وجيزة قيام مملكة الحيرة والتي كانت تمتد بسلطانها الى مضارب تغلب في الموصل والى البحرين جنوباً، مثلما تضاعف التبادل التجاري والمعرفي بعد ذلك ،حيث كانت الحضر والتي سميت المنطقة في أدبيات اللغة الآرامية ببيث عربايا(منطقة او اقليم او ارض العرب) وهي تشمل الموصل كلها،اقول كانت الحضر تصَدّر الى قريش الاصنام وذلك قبل ولادة نبي الاسلام بقرون،وحين أراد قصي بن كلاب الكتابة وهو أمر بديهي اذ تحولت في عهده مكة من قرية صغيرة الى مدينة تجارية واعدة وكل المؤشرات تؤكد انها سوف تكون عالمية التجارة، وبما ان المنطق والواقع والتاريخ لاتقبل بغير الحقيقة القائلة ان المدينة والكتابة صنوان لا يفترقان لذا نرى ان الزعيم الجديد لمكة قد استعار الخط الحيري(العراقي) في كتابته لتدوين معاملاته وقومه وكل ماتحتاجه مدينة صاعدة لتتبوأ مركزاً عظيماً في المنطقة بأسرها، كما ان الاسر الثرية في مكة والطائف ويثرب وغيرها كانت ترسل اولادها للدراسة اما في العراق أوبلاد الشام، ولاننسى انطلاق موجات التبشير للديانات السماوية الثلاث التي سبقت الاسلام(اليهودية والمسيحية والمندائية)من منطقة الهلال الخصيب الموطن الاصلي للغتين الاكدية والآرامية،الى الجنوب حتى اليمن،فكانت المدن والقرى والقصبات في شبه الجزيرة العربية تعجّ بهؤلاء المبشرين وبالتجار أيضاً،وهم طبقة مثقفة لاشكّ أضفت الكثير من ثقافتها ليس على أتباعها فقط وانما على العوائل المكية واليثربية والطائفية واليمامية وغيرها،وحققت انتصاراتٍ مباشرة وغير مباشرة،مباشرة مثل تهويد الاسرة الملكية في اليمن وهو مايعني انتشار اليهودية في صفوف الشعب،فالناس على دين ملوكهم وسيطرة يهودية على اقتصاديات يثرب وانتشار المسيحية في حواضر عربية على اطراف الجزيرة العربية مثلما حدث في الموصل والحيرة والانبار وقطرايا(قطر)وعُمان،اضافة الى الكثير من المدن والقصبات العربية في بلاد الشام،وليس بخافٍ على أحدٍ صراع المسيحية واليهودية في اليمن نفسها والنتائج الجيدة التي حققتها الاولى مما دعى السلطة هناك للتفنن في تعذيب ومطاردة المسيحيين.وغير مباشرة هو انتقال الكثير من ثقافات منطقة الهلال الخصيب ووادي النيل الى أعماق شبه الجزيرة العربية من خلال التجارة والدراسة والتبشير والمساهمة في الحروب(دعم طرف على حساب آخركما وضحنا اعلاه أو الاستعانة بطرف ضد اخر كما في اليمن حيث الاستعانة بالفرس ضد الاحباش) واستناداً الى "المقدس الاسلامي" الذي يقول ان ابراهيم بنى الكعبة والى بعض الوثائق التاريخية التي تذكر ان عدداً من البابليين بعد سقوط بابل هاجروا الى تيماء ومنها الى مكة وغيرها، وهو مايردده بطريقة مقاربة المأثور عن الامام علي بن أبي طالب وابن عباس،من انهما نبط من كوثى،كل ماذكرت آنفاً يؤكد الاختلاط والتزاوج الذي حصل بين اللغة العربية وبقية لغات المنطقة التي سبقتها في الكتابة،وبما ان المكتوب يؤثر بالشفاهي وليس العكس،وان النقاء لغوياً وعرقياً وثقافياً،وَهْم لايتلبس سوى الشوفينيين ،واسطورة ممجوجة يرفضها كل ذي لُبّ سليم وديع:.. عذرا فلديّ تعليق عن المكتوب والشفاهي وآثرهما على تطور اللغة، إذ يميز علماء اللغة في اللسانيات الحديثة بين اللغة والكلام ويرون ان الكلام الشفاهي هو الذي يثري اللغة ، وهو السبيل المهم في تطور اللغات وموت بعضها ... ما تعليقك ؟ باسم: هذا التمييز المقصود منه اللغة الحضارية،اي اللغة المكتوبة ،فكلام اللغة الحضارية الشفاهي فيها يثري المكتوب ،أي كلام المدن والريف،اما ماعَنيته أنا فهو اللغة الشفاهية البدوية،ان كانت صحراوية اوجبلية، فالبدوية لايمكن مقارنتها بلغة الانهار السهلية والسواحل،وهنا يجب عدم غبن اللغة العربية تماماً،فهي ليست صحراوية فقط وانما متنوعة ولقد أفاض جورج طرابيشي في نقده لمشروع محمد عابد الجابري"نقد العقل العربي"،وعليه ادعو من يريد التوسع فيما اعتقد به الى مراجعة كتابه "اشكاليات العقل العربي"،نعم من يقول ببداوة اللغة العربية فهو خاطئ مثلما من يقول بأن القرآن وحده مرجعيتها الاولى والاخيرة،وان مرجعية القرآن لغة قريش ،ومرجعية لغة قريش هي اليمن والصحراء فقط. ولابدّ من التوكيد على ان حديثي ينصبّ على تأثر اللغة العربية باللغات التي سبقتها في فترة كانت اللغة العربية شفاهية اي قبل الاسلام بقرون،او في القرنين الذين سبقا الاسلام،حيث كتبت اللغة العربية مما شكّلَ من هذه اللغات مرجعية ممتازة للعربية وبقيت العربية تنهل من لغات شتى حتى وقتنا الحاضر،ولكنها بكل تأكيد أعطت الكثير للغات كثيرة، بما فيها لغات نهلت منه سابقاً،حيث ان السريانية والمندائية والعبرية وغيرها قد دبّ الهزال فيها في الوقت الذي ارتفعت قيمة العربية كلغة حضارية تسيدت المنطقة وماجاورها من مناطق لدرجة ان تأثيرها امتدّ للغات كثيرة،ولاننسى ان عشرين بالمئة من اللغة الاسبانية وهي أساس للكثير من اللغات الاوربية،هو عربيّ ، واستناداً الى المفردات الهائلة في اللغة العربية والتي يعود جذرها الى إحدى اللغات السابقة لها ،كما أرجو عدم إغفال مجلس ملوك الحيرة والذي كان يعجّ بالشعراء والخطباء والنسّابة،وصلات خمسة من شعراء المعلقات على الأقلّ بالعراق،حيث كانوا من رواد مجلس ملوك الحيرة وكشاعر فبيت قيل في هجاء تغلب،حين ألهتهُم عن المجد معلقة قالها عمرو بن كلثوم،رابطاً اياها بموطن تغلب،وهو الموصل وبعد ذلك بفترة زمنية ليست بالطويلة خروج ابنة الموصل سجاح المسيحية معلنة نبوتها بحركة -مما يؤسف له- إنها لم تنل الدراسة والتمحيص لمعرفة الاسباب،اذ ان التاريخ يكتبه المنتصر عادة. لغة قريش في حقيقتها تحوي من المفردات الأكدية والآرامية (العبرية والسريانية والمندائية)مايصعب حصره،ولقد تبحر العلامة عبدالله العلايلي في هذا المضمار كما كان يؤكد دائما الراحل العزيز سركون بولص،وشخصياً لم أملّ يوما من سؤال كل ناطق متبحر بالسريانية وباللغات القديمة وبالتاريخ اللغوي والحضاري للهلال الخصيب والمنطقة عن تأثر العربية باللغات التي سبقتها،والا كيف تفسر ان تتطابق اسماء أجزاء الوجه وغيرها من جسم الانسان. كما يفاخر فقهاء اللغة السريانية بأن لغتهم لها تأثيرها الكبير والمهيمن على اللغة العربية بينما يقلل فقهاء اللغة العربية هذا التأثير ويعدون ادعاءات السريان من باب المبالغة، وشخصياً أرى كلا الطرفين على حق،لسبب بسيط ،وهو ان اللغتين نهلتا من منبع ثر واحد، ألا وهو اللغة الأكدية أمُ جميع اللغات السامية حسبما يرى البعض. أؤكد مرة اخرى ان العربية لم ترتحل للعراق من اليمن ومن القرآن،وهذا فخ مابعده فخ،استغله كل فريق لِيَتّهمَ غالبية العراقيين بعدم الاصالة،ومن المفارقات انه وصلت بالبعض ممن لايملك تاريخاً مكتوباً يعود لقرنين ولا ميراثاً ولا أثراً واحداً في العراق،راح ُيزوّر التاريخ واصبح هو الحكم والضحية وعلى الجميع ان يوافقه في الامر. فاللغة العربية ليست وريثة اليمن وانما وريثة لغة قريش التي هي وريثة كل لغات وثقافات المنطقة والقرآن ورث من قريش هذا الميراث الغزير والثريّ،والقبائل العربية لم ترتحل للعراق مع الاسلام،وانما هي في العراق منذ الازل،اذ ان نهر الفرات هو الحدود الشمالية الشرقية لشبه الحزيرة العربية،وهذا يعني ان اكثر من خمسين بالمئة من مساحة العراق تدخل ضمن منطقة او اقليم شبه الجزيرة العربية،ازلياً،اما حسب المؤرخين والبلدانيين الاغريق فان حدود المنطقة العربية هو من نهر دجلة شرقاً الى نهر النيل غرباً،حسبما يورد العلامة جواد علي في مفصله الشهير،ولاجدال ان الجميع متفق على علمانية واعلمية وعلمية وحيادية علامتنا الراحل فخر العراق والعراقيين جواد علي،وهو ما يثبت ان اكثر من سبعين بالمئة من مساحة العراق جزء من المنطقة العربية قبل ان توجد قريش بقرون،وان ارتحال القبائل العربية الى أعماق العراق كان يقابله انسياح قبائل اخرى من جبال زاغروس والهضبة الايرانية والهضبة الارمينية والاناضول ومن أعالي دجلة والفرات غربا ً،ولكن العراق بقي محافظا ًعلى "ساميته"ولقد انصهرت في بوتقته جميع الاقوام التي نزحت إليه،الا في المناطق الجبلية الوعرة بقيت هناك بقع ذهبية تُزَيّن جيده،كما تزين القلادة جيد الفتاة. ومن المعروف ان بعض المستشرقين ألفوا الكتب عن تأثير الارامية السريانية على القرآن ويكفي ان نذكر عناوين كتبهم لنرى مدى تأثير لغات العراقيين القدماء على العربية فهذا آرثر جِفري يعنون كتابه بالمفردات الاجنبية في القرآن ،وكريستوف لكسنبرغ "قراءة سريانية-آرامية للقرآن"،أما ألفونس مِنْكـَنا فعنونه"التأثير السرياني في أسلوب القرآن" عدا العدد الهائل من البحوث والدراسات والفقرات المبثوثة في طيات الكتب،والتي تثبت ان تأثير العراق وكل منطقة الهلال الخصيب على ليس اللغة العربية فقط بل الانساق المعرفية لمكة خصوصاً واضحة تماماً، وكل من كتب عن تأثيرات عراقية على الانساق المعرفية اليهودية،هو ينطبق على الانساق المعرفية التي خرجت من الحجاز أيضاً،بما في ذلك اللغة. اما صفة القومية،فجميع القوميين ينهلون من مستنقع شوفيني عنصري أحادي عدائي واحد،عرباً كانوا ام غير عرب،واذا كان الناطقون بالعربية هم خليط من جميع الاقوام التي سكنت العراق وان سيطرة العربية كلغة ثقافية اولى للغالبية العظمى من سكان العراق منذ القرن الثامن الميلادي على الاقل،وأفول لغات اخرى كانت منتشرة في العراق(السريانية والمندائية والعبرية،وبدرجة أقل اليونانية والفارسية) في وقت بزوغ نجم العربية مما مكنها من هضم هذه اللغات كما كان يؤمن الشاعر سركون بولص،وردده على مسامعي بل وذكره في احد حواراته بالانكليزية،مما جعله يشعر وهو المؤمن بانتمائه لكل العراق من ان كتابته بالعربية تعني انه يكتب بكل لغات المنطقة بما في ذلك السنسكريتية،فهذا لايمنح الحق من اطلاق تسمية العرب عليهم،مثلما لايمنح الحق باطلاق تسميات اخرى شوفينية كما يطلق على من يسكن في ارضه التاريخية لمجرد ان الاغلبية قاموا بقتله وترويعه خلال القرنين الاخيرين فتحول الى اقلية ،والنازحون الجدد ممن يدينون بدين الدولة وعلى مذهبها تحولوا الى أغلبية . نعم ان المشاريع القومية كلها مرفوضة،وصدقاً كان الراحل الكبير يرفضها تماماً،وهو احد اسباب علاقتنا القوية ،ان كلانا كان يرفض هذه المشاريع ومصطلحاتها ،وخصوصاً ما ارتكبه ويرتكبه البدو(بدو الصحارى وبدو الجبال)في أقليم اشور وبيث عربايا. وديع: .. المعروف ان سركون هاجر من العراق مبكرا، وقد إزداد نضوجاً وتطوراً هناك ، ولم يشر أحد على أدب الداخل وأدب الخارج حينها ، ما رأيك بهذه الثنائية التي علا دويّها من قبل اجهزة النظام السابق الاعلامية والثقافية، وما يثار اليوم أيضاً بهذا الخصوص، وهل كان لسركون رأي بها ؟ باسم: الابداع لا وطن له إلا الابداع ذاته،والراحل كان يرفض بل ويسخر من هكذا تصنيفات ساذجة وأرى ان كل مبدع يسخر من هكذا تقسيمات،وشخصيا ًتناولت الامر في حوارات سابقة معي، ولكني هنا انقل رأيه كما سمعته منه عبر الهاتف،نعم يتحدث بحسّه اللاذع بخصوص هذه الاشاعة التي أشاعها وتشبث بها من لا إبداع له،فالمبدع الحقيقي لايمكن ان يرتضيها لنفسه. سركون ليس وحده من هاجر مبكراً،على الأقل قبل اطلاق هذه الثنائية المضحكة،بسنوات طويلة،بل اغلب جماعة كركوك ومئات الاسماء العراقية المبدعة،أثْروا ومازالوا الثقافتين العراقية والمكتوبة بالعربية،كما ان العراق يبقى الرحم ويخطأ من يتصور ان المواهب الخلاقة نفدت من العراق فالادب العراقي هو عراقي ان كان يكتب في بغداد او في سان فرانسيسكو او باريس او ولنغتن او هيروشيما أو في اي مكان آخر.
وديع : يقول سركون :" إنك شاعر مراثي من الدرجة الاولى، وانت اقرب الى شعراء سومر الاوائل .."، هل تعتقد ان كتابة المراثي هي ميزة شعرية للشاعر الحداثوي؟ ولماذا لم تكتب مرثية الى سركون لحد الان ؟ باسم: نعم أنا سليلُ الفراتين ِ،بمعنى اني سليل ووارث ميراث المنطقة،والمراثي التي اكتبها تختلف عما هو متعارف عليه في الشعر العربي،انها تجارب وتأملات ووعي شاعر يفهم ان الحداثة مشروع فردي بقدر ماهي مشروع جماعي وان الشعر وهو مشروع فردي بامتياز،غاية الغايات،والمراثي التي أشار اليها سركون بولص هي مراثٍ لوطن أراه أمامي ، وكلٌ يمسكُ بمعوله لتهديمه والقضاء عليه،لست ممن يقفون على الأطلال بل أحاول أن أكون رائياً قدر المستطاع ولن أخفي تأثري بقراءاتي للميراث العراقي القديم ابداعياً رغم سعةِ قراءاتي لتاريخ العراق الاسلامي والحديث. ثم هل تجد أن كتابة المرثية سهلة ؟! فأنا لست ممن يجيدون كتابة مراثي المناسبات،أولئك الذين ما ان قرأوا خبراً في وسائل الاعلام عن موت أديب ما،أو شخصية مرموقة،حتى انهالت كتاباتهم تملأ الصفحات،ولايهم ان كانوا قد اهملوا او انكروا ابداع الميت في حياته،كما حدث مع أسد آشور،وكأني بهم يحتفون بموته قائلين:"ها لقد تخلصنا منه". انت تعرف كم استغرق هذا الحوار، وكم كان حرصنا على الاحتفاء بسركون بطريقة مختلفة ، ولأني فعلا كنت أعاني اثناء الكتابة عموما، فكيف إذا كانت عن سركون بولص،الذي تهادى الدمع وسريعاً وحاراً الى عنقي ما أن قرأت خبر رحيله المفجع،وهذا لم يحدث لي مع أي أديب اخر رغم احترامي وتقديري لأدباء رحلوا عنا،وهم في أوج عطائهم.
وديع : بحكم تواصلك مع سركون حتى اللحظات الاخيرة من رحلته الارضية ، هل كانت لديه نيّة اخراج مجموعات شعرية جديدة او اصدار اعماله الكاملة ، وهل تعتقد ان الراحل يميل الى مثل هذه التوجهات كبقية الشعراء ؟
باسم: نعم كانت لديه النية لأخراج مجموعات جديدة ومنها مجموعة تضم بداياته،حيث طالما حدثني عن الصندوق المليء بالقصائد الذي جلبه اهله معهم من العراق،وانه كان يأمل ان يختار عدداً من هذه القصائد ونشرها في كتاب مستقل لتعبر عن بداياته. أما عن اعماله الكاملة، فكان يؤجل الموضوع رغم إلحاحِ ناشره وهو الشاعر خالد المعالي كما كان يقول،فسركون كان يأمل باصدار اكثر من مجموعة قبل اصدار الأعمال الكاملة له،ولاأدري هل كان حدس الشاعر خالد المعالي عالياً حين ألحّ على موضوعة اصدار الاعمال الكاملة. وهنا أتمنى على ذوي الفقيد وكل اصحابه ان يسلموا أعمال سركون ابداعاً وترجمة ً،الى الناشر خالد المعالي لثقة الراحل الكبير به،فلطالما اخبرني عن صدق وامانة ونزاهة المعالي وهو جدّ مرتاح معه وغير ذلك من الاطراء والمديح بحق هذا الشاعر والناشر،والتي أدونها للتاريخ ولم اخبر بها خالداً أو غيره من قبل. كما آمل ان يساهم اتحاد الادباء العراقيين ووزارة الثقافة وغيرها من المؤسسات العراقية،بالدعم المالي والمعنوي لدار الجمل لاخراج تراث فقيدنا الراحل بطبعة أنيقة تليق براهب الشعر أسد آشور. وديع : رغم ما ذكره سركون من رأي بعملك الشعري في كلمة غلاف مجموعتك "انا ثانية" هل تذكر ما اسرّبه لك من اراء وملاحظات شخصية حول مشروعك الشعري، وارجو ان تتركْ تعففك قليلا في ذكرها ، لنجعلها مسك ختام احتفائنا بالراحل الكبير؟ باسم : لاأحبذ الخوض في هذا الأمر لسببين ،الأول ان الرجل قد رحل عن دنيانا والذي سأقوله لا دليل لي عليه ويحق لكل شخص ان يكذبني ، فلماذا أضع نفسي في هكذا موقف حرج. وثانياً،طالما عتبتُ على من يتبجح بأن" الشاعر الفلاني قال عني كذا"،او "ان ديواني لم يفارق سرير الشاعر الكبير"،او"ان كل من يدخل الى مكتب الشاعر العظيم يجده يقرأ في ديواني ويقول لهم نحن نتعلم الشعر من هؤلاء"،او من ذهب بعيداً حد تخيل انه حامل لواء الحداثة العراقية على اكتافه ...والخ. مما يجعلني أشعر بالاحراج أمام ملكوت الشعر. ماقاله سركون عني،هو كلام لادليل عملي لي على اثباته باستثناء كلمة الغلاف التي زينت ديواني الثالث"أنا ثانية ً"،ولاأريد التعكز عليه،لست بحاجة الى قارئ يريد ان يعرف رأي سركون بولص في تجربة باسم فرات الشعرية لكي يحكم على ضوئها،أنا أبحث عن قارئ محترف يحمل وعياً شعرياً عالياً،ولاتؤثر فيه الاجتماعيات،وآراء الاخرين،فيصوغ رأيه بناءاً على قراءته الايجابية لتجربتي الشعرية،قارئ هو مبدعٌ يمنحُ النصَ ألقاً حين يقرأه،فالشعر غاية الغايات،ومريدوه نخبة النخبة. لاأجد حرجاً في ذكر رأيه الايجابي بتجربتَيْ زعيم النصار وعبد العظيم فنجان،ولكني اتحفظ على رأيه بتجربتي الشعرية.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |