قيل في الأمثال: عش رجَبَاً ترى عجباً!... لكنك في العراق ترى ما هو أعجب من العجب كلّ يوم وكلّ ساعة. فقد اختلط الحابل بالنابل، وامتزج الدين بالسياسة، وتلاعبت السياسة بالدين، وتداخل العقل مع الخرافة، وتساوى المعقول واللامعقول، وتغبشت الرؤية على البسطاء وأصحاب البصائر، فانطبق عليهم قول حكيم المعرّة (ت 449هـ) : وبصير الأقوام مثلي أعمى فتعالوا في حندس نتصادمْ!

نعم... فالرفاق (المؤمنون) بمبادئ (ميشيل عفلق) وفكره العلماني، والذين خصصوا أحد مؤتمراتهم القطرية الشهيرة ببغداد في ثمانينيات القرن الماضي لبحث تنامي الظاهرة الدينية وسبل مواجهتها بطريقتهم المعروفة التي تفوح منها رائحة الدم، وراح ضحيتها الألوف من الأبرياء، انقلبوا بين عشية وضحاها إلى زهّاد عبّاد يطلقون اللحى ويعتمرون العمائم البيضاء والسوداء، ويرطنون بكلمات الجهاد والتكفير وإقامة الحدود على مخالفيهم بالسيوف ذبحاً، وبالمفخخات التي تنفجر في الأسواق المكتظة بالباعة والمشترين، وبين بيوت الناس الآمنين.

لقد تحوّلوا، بقدرة قادر، من (رفاق علمانيين) إلى أمراء مناطق وجماعات سلفية متطرّفة إذا كانوا سنة، ومشايخ أو (سادة) من (آيات الله) المدعين للمهدوية إنْ كانوا شيعة!... ولذلك لن نستغرب إذا ظهرتْ في العام الماضي جماعة (جند السماء) التي قادها عازف عود مجنّد في جهاز الاستخبارات العراقية السابق، ومع هذا فقد لبس الزي الديني لعلماء الشيعة، وادّعى بأمور خارقة ومعرفة بالغيب صدّقه فيها البسطاء والسذج ممن تكاثر حولهم أصحاب اللحى والعمائم، فصاروا لا يميّزون بين الحقيقي منهم والمزيّف، والعالم من الجاهل، خصوصاً في ظل الفوضى التي تضرب أطنابها في العراق، وغياب المعايير الحقيقية التي تميز طلبة العلم بعد أن صار الانتماء للكتل الحزبية هو المعيار الذي يمنح صاحبه حصانة دينية وعلمية!

وكانت تلك الجماعة قد اختارت موعداً لخروجها في العاشر من محرم 1428هـ في مخطط دموي لاستباحة مدينة النجف وقتل مراجعها لإحداث فتنة كبيرة، أمّا هذا العام فقد ظهرت الجماعة نفسها بزي آخر، ولكن في التوقيت نفسه والطريقة الدموية ذاتها. فقد ادّعى مؤسس هذه الجماعة المدعو أحمد اليماني - وهو اسمه المستعار - بأنه ابن المهدي المنتظر، بينما كانت جماعة جند السماء ترى في اليماني بأنه وصي المهدي، هذا فضلاً عن آخرينَ تلاعبوا بالعقيدة المهدوية؛ ليجعلوها مثاراً للسخرية، غافلينَ عن أنهم لا يسيئون لمذهب بعينه؛ لأنّ الاعتقاد بالمهدي مما اتفق عليه المسلمون جميعاً وإنْ اختلفوا في التفاصيل. والأحاديث الواردة فيه كثيرة ورواها خيار الصحابة وأخرجها كبار المحدّثين كأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، والطبراني، وأبي يعلى، والإمام أحمد، والحاكم وغيرهم.

وتلك ليست الحالة الأولى التي يستخدم فيها أشخاص مثل هذا العبث في ميدان العقائد بل سبقتها حالات كثيرة أخرى، فكيف استطاع أمثال هؤلاء أنْ يضحكوا على عقول الناس البسطاء ويجنّدوا منهم المئات أو آلاف، بل ويزجوهم في مواجهات مسلحة؟

إنّ المناخ العام للقوى السياسية الدينية ساهم في شيوع الجهل والخرافة في أوساط الشعب العراقي، حيث لا توعية ولا إرشاد ديني صحيح بل خلط الأوراق بين ما هو ديني صرف وسياسي صرف. وقد لاحظنا في الانتخابات العراقية الماضية كيف أن بعض الكتل البرلمانية قد أعطت لرقم قائمتها رموزاً دينية، وأرسلت (معمميها) إلى القرى والأرياف ليشيعوا أخباراً بأن من لا ينتخب قائمتها تُحرم عليه زوجته، ولا تقبل منه حجته، ويعتبر عاصياً لإمام زمانه!

إنّ من جملة ما تشترك فيه هذه الجماعات في ظهورها المسلّح هو استغلالها لمناسبة عاشوراء، فهل سيكون ذلك نذيراً لجميع القوى السياسية والدينية لكي تتوقف عن استغلال المراسم الحسينية في عشرة محرّم الحرام والمناسبات الأخرى من أجل حشد الأتباع والأنصار لأغراض ومآرب سياسية؟ ولماذا لا توضح المرجعية للناس حقيقة الشعائر الحسينية وما هو الأصيل فيها والدخيل؟ وما الذي ينتمي منها لعصر الأئمة الأطهار (ع) وما دخل عليها في العهود القريبة اللاحقة من تراث الشعوب الأخرى وعاداتها وتقاليدها التي لا تمت بعلاقة جوهرية لدعوة الإصلاح التي نهض بها الإمام الحسين (ع) واستشهد في سبيلها؟ وكم حذر المصلحون في عصرنا، كالسيد محسن الأمين والسيد هبة الدين الشهرستاني، من خطورة الانسياق وراء العواطف والأهواء في مسائل الدين الحنيف فلم يستمع لنصحهم وتحذيرهم إلاّ القلة، فكانت النتيجة هذا الحصاد المر من البدع والنحل التي تطل برأسها في العراق الدامي ويُطال شرها الناس الأبرياء. ولن يتوقف توالد أمثال تلك الفرق المنحرفة مادام الفقر والجهل منتشراً في هذا البلد المنكوب حيث يسهل الإغراء بالمال وغسل الأدمغة بالخرافات.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com