ملحمة الكاظمية 8 شباط 1963

 

 

محمد علي محيي الدين

abu.zahid@yahoo.com

قبل انقلاب شباط الأسود1963 كان الحزب الشيوعي العراقي قد رصد تحركات الانقلابيين، وما يجري التخطيط له بين الضباط البعثيين والقوميين، وقد حذر من هذه التحركات ونبه الزعيم إلى ما يحاك له في الخفاء إلا أنه رحم الله كان يصم السمع عن النداءات الداعية لليقظة والحذر، وكان يخشى أصدقائه أكثر مما يخشى أعدائه بسبب المعلومات الخاطئة التي تسريها الأوساط المحيطة به ومصادر استخباراته التي كانت متعاطفة مع الانقلابيين وترتبط بوشائج مع جهات مريبة تحاول الإطاحة به، وحدثني أحد الرفاق العاملين في بغداد آنذاك ، وهو الرفيق عبد الله محمد شلال(أبو مثنى) أنه في يوم الأحد المصادف 4شباط صدرت التعليمات الحزبية للخروج بمظاهرة يوم الاثنين المصادف 5 شباط للمطالبة بإحلال السلم في كردستان، وفي ذلك اليوم جاء الرفيق علي حسين الصكر إلى بغداد فأخبرت بالمظاهرة دون أن أخبره عن زمنها أو مكان انطلاقه، فبات عندي تلك الليلة,وفي الصباح خرجنا إلى مكان المظاهرة التي ستنطلق من ساحة المتحف في علاوي الحلة باتجاه ساحة الشهداء، فتجمعنا هناك وبدء الرفاق بالحضور وبعد أن التئم شملنا رفعت اللافتات المنددة بالحرب الجارية في شما الوطن، والمطالبة بحقوق الشعب الكردي وإحلال السلم في ربوعه، وكانت تحمل اللافتة الأولى الرفيقة نضال فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب ومن الجهة الثانية أحد الرفاق، فطلب منه الرفيق جاسم التخلي عنها وحملها بدلا منه لما يتميز به من قامة طويلة وجسم رياضي، وانطلقت المظاهرة وسط الهتافات والزغاريد ، وشارك فيها الكثير من المواطنين وكانت التعليمات الحزبية الصارمة تقضي بالوصول إلى ساحة الشهداء مهما كان الثمن، وفد أعد لهذا الغرض الرفاق الصداميين المتميزين بالجرأة والحماسة والاندفاع، وقد وزعنا  إثناء المظاهرة بيان صادر عن الحزب يحذر الحكومة من   التحركات المشبوهة للضباط البعثيين والقوميين ، وتضمن البيان أسماء القادة منهم والوحدات المهيأة للانقلاب، ولكن السلطة أعطت الأذن الصماء لهذه النداآت لتحدث تلك الكارثة التي لا نزال نعاني من آثارها حتى اليوم،  وعند الوصول الى سينما بغداد، قامت قوات الشرطة بمهاجمة المتظاهرين، فرد عليها الرفاق المكلفين بحماية المظاهرة بالمثل وكان الرفيق جبار موسى رأس الرمح في المواجهة، حيث أستطاع مع رفاقه الآخرين إصابة بعض رجال الشرطة والأمن بإصابات مختلفة جعلتهم يهربون من ساحة المواجهة ومهد للمظاهرة سلوك طريقها والوصول الى ساحة الشهداء حيث صدر الأمر بالتفرق، وكان البوليس قد بدء بإعداد قواته للقبض على المشاركين، فصدعت مع الرفيق جاسم الى باص المصلحة وكانت أحذيتنا مغطاة بالوحل، فقام الشرطة بتطويق موقف المصلحة ومحاولة الصعود الى الباص لتفتيشه، إلا أن المقامة البطولية لرفاقنا الشجعان وتعاون الجماهير معهم جعل الشرطة تتراجع بعد أن أجبرنا السائق على مواصلة السير، وعند الوصول الى منطقة الباب الشرقي كانت مفارز الشرطة تنتشر بكثافة بحثا عن المتظاهرين والأستدلال عليهم بواسطة أحذيتهم أو ملابسهم وما يبدو على وجوههم من أمارات الخوف والوجل، وقمت والرفيق أبو يقظان بصبغ أحذيتنا والاختلاط مع الناس  والركوب الى كراج العلاوي حيث أنطلق هو الى الحلة وذهبت أنا الى حيث أسكن في الكاظمية.

وفي صبيحة الثامن من شباط 1963 خرجت صباحا لجلب الفطور من السوق القريب من غرفتي التي كنت أسكنها مع الرفيق جدوع الشلال(أبو نبأ) فرأيت الأوضاع غير الطبيعة، وعند الاستفسار أخبرني أحدهم بحدوث انقلاب وأن الإذاعة تذيع البيان الأول للانقلابيين، فعدت الى غرفتي لأخبار الرفيق جدوع، وخرجنا متوجهين الى باب الدروازة وكان معنا الرفيق الشجاع مرزة صاحب الشرع، أبن الأسرة الشيوعية المناضلة المعروفة في الشامية، وعند وصولنا الى مقهى الحاج صادق –الذي قتل في اليوم التالي عندما صعد الى السطح فحسبه الانقلابيين من المقاومين فأردوه قتيلا-فالتقينا بمجموعة من الرفاق من تنظيمات الكاظمية المناضلة وقر الرأي على مقاومة الانقلاب بعد أن وردت التعليمات الحزبية طالبتا مواجهة الانقلابين واللجوء الى السلاح ، وكان الى جانب المقهى شخص يبيع جمار النخيل، والى جانبه الكثير من سعف النخيل فتناولنا في أيدينا  بعضها فيما حمل البعض ما تيسر له من أسلحة جارحة ومسدسات شخصية، وسارت المسيرة وقد تصدر المتظاهرين الرفاق عبد الوهاب المنذري وفخري العاملي والبطل الشيوعي سعيد متروك، وكان هتاف المظاهرة السيد مرزة الشرع المعروف في مثل هذه المواقف فانطلقت الهتافات والأهازيج تشق عنان السماء والسيد صاحب في مقدمتهم والتحق ألينا أيضا طالب في كلية الحقوق أسمه عبد الرحمن مع مجموعة من الطلبة ، وكانت الجماهير تلتحق بالمظاهرة كلما تقدمت الى أمام، فقمنا بمهاجمة مركز شرطة السراي طالبين منهم تسليم الأسلحة والخروج من المركز وبعد مفاوضات سلموا أسلحتهم وأخلوا المركز، وكان يتقدم الصفوف الشيوعي البطل سعيد متروك الذي أبلا البلاء الحسن في  ذلك اليوم، فقام بالاستيلاء على الأسلحة وتسليمها للمتظاهرين بشكل عشوائي، وبقيت بندقية واحدة حاولت أخذها ألا الرفيق عبد الرحمن أخذها مني لما يتميز به من قوام فارع وقلب جريء وروح مجبولة على التضحية والفداء، ثم تحركنا باتجاه مركز شرطة النجدة الكائن في (الشوصة) فأبدى الشرطة المقاومة إلا أن الزخم الجماهيري وقيام الشيوعيين البواسل برمي المشاعل النارية على سيارات النجدة القابعة في الكراج وإحراقها جعلهم يستسلمون دون قيد أو شرط، فأمر الرفاق بإطلاق سراح الشرطة والسيطرة على المركز وتوزيع الأسلحة على المقاومين.

وبعد احتلال مراكز الشرطة والدوائر الرئيسية بايدى المقاومين أعلنت الكاظمية مدينة للمقاومة ، فشكلت غرفة عمليات المقاومة في مدرسة بيوت الأمة الواقعة مقابل مستشفى الكاظمية الجمهوري، وقام الشيوعي البطل سعيد متروك بتحديد الواجبات ووضع الحراسات، ثم أخذ مجموعة من الرفاق الأبطال وأركبهم أحدى سيارات الشرطة وقام بالإغارة على منطقة الأعظمية التي يتكاثر فيها البعثيين ، حيث قام باختطافهم وقتلهم، وأبدى أعمال بطولية خارقة لا تزال طرية على ألسن الجماهير، وقد ذهبنا إنا ومرزة الشرع الى حمدي أيوب العاني الذي كنا معه في التنظيم الطلابي وإعطانا أسلحة قمنا بتسليمها على مجموعة من الفلاحين الوافدين من الشامية ويعملون في مزارع الكاظمية، وكان لهؤلاء دورهم البطولي المشرف في التصدي والمقاومة لما يتميزون به من شجاعة فائقة وخبرة في الحرب واستعمال السلاح، وأصبحوا فيما بعد نواة لقوات الأنصار الباسلة التي اتخذت من مدينة الشامية نقطة للعمل المسلح في مواجهة حكومة الانقلاب، وعدنا بعد ذلك الى مركز عمليات المقاومة لاستلام التعليمات ومواجهة ما يستجد من أمور، وفي الساعة الرابعة مساء جاءت سيارات زيل عسكرية وفيها بعض الجنود وقد جلبوا معهم بعض الشرطة المقيدين، فكنا نعتقد أنهم من المقاومين للانقلاب، وبعد أن اختلطوا في أوساطنا وجاءت قوى أخرى قاموا بإطلاق النار على المقاومين وحدثت معركة سقط فيها بعض القتلى والجرحى، وقد تمكن الكثيرون من النجاة، وكانت هذه حيلة مدبرة خطط لها بأحكام من قبل قادة الانقلاب، وبذلك بدأت قوات المقاومة بالتراجع والانحلال ، فاضطررنا لمغادرة الموقعة واللجوء الى إحدى القرى القريبة من الكاظمية التي لنا فيها بعض المعارف، وقد تناهى الى أسماعنا أخبار المعركة البطولية التي خاضها الشيوعي الجسور سعيد متروك عندما قاوم القوة المهاجمة التي حاولت القبض عليه وأصاب قسم من بجروح وبعد نفاذ عتاده تمكنوا من إلقاء القبض عليه وقد أعدم بجوار سياج مدرسة في منطقة المحيط وهو يهتف بحياة حزبه وسقوط الانقلاب.

وقد اضطررنا إزاء الملاحقة البوليسية الهروب الى الحلة حيث أقمنا في قريتنا لأيام ألا أن الوشايات والاعترافات جعلت الحرس القومي والشرطة يقتحمون القرية للقبض على الدكتور مرتضى الشلال بوشاية أحد المنهارين، وتمكنا من الإفلات والعودة إلى الكاظمية، وكان الحرس القومي بعد استتباب الأمر لهم قاموا بإلقاء القبض على المئات من أبناء المدينة لأسباب سياسية أو أغراض شخصية، وكانت امرأة من بيت الطويل ترافق مفارز الحرس القومي وترشدهم إلى البيوت، وبعد أيام من وصولنا الى الكاظمية ألقت مفارز الحرس القومي القبض علينا أنا والرفيق مرزة صاحب الشرع، وأودعنا  في الموقف العام حيث وجدنا المئات من الشيوعيين والديمقراطيين بمختلف الأعمار، وقد مورست معنا مختلف أنواع التعذيب بتهمة المشاركة بالمقاومة أو الانتماء للحزب الشيوعي، ولم يتمكنوا من الحصول على اعتراف منا أو من المسئولين عن، وذات يوم وضعوا السجناء في صف واحد وجيء بحمدي أيوب العاني الذي أستسلم لها وتعاون معهم وأصبح دليلا في التعرف على الشيوعيين والمشاركين بالأحداث وعندما مر من أمامنا توقف قليلا ولكن لعل بقية من ضمير جعلته يتجاوزنا دون أن يشي بن، وكان معه كمعرفين للأمن الدكتور حسين الوردي وعصام القاضي وباسم مشتاق وعدنان جلميران وغيرهم..، وقد أعترف عدنان جلميران على حامد عجينة صاحب مكتبة اتحاد الشعب في النجف بحجة أنه قد دعاه الى وليمة في بيته مع زوجته  النجفية مما يدل على أنه شيوعي، وحكم عليه بالسجن لسنوات.

وبعد حركة حسن سريع في تموز 1963 بأيام جيء بباصات كبيرة ، وأوثقوا أيدينا ونقلونا الى سجن الحلة المركزي، حيث وضعنا في قاعة لا تكفي  لخمسون شخصا ونحن أكثر من مائتين، عانينا خلالها الكثير من الأذى وكان معي السيد مرزة الشرع، والصيدلي ضياء أحمد الأغا وفاضل عباس العزاوي الشاعر المعروف، وجاسم الجوي الكاتب والصحفي،  والشهيد كاظم عبيسان والرفيق فاضل المرعب وغيرهم كثيرين، وبعد نقل العسكريين الى سجن نقرة السلمان بواسطة قطار الموت المعروف وزعنا على القاعات الأخرى فالتقيت بالدكتور على مخيف كتاب الذي أنسلخ عن طبقته وأصبح شيوعي، وقد أرسل بعد أيام إلى نقرة السلمان، وقد أطلق سراحي بعد انقلاب عارف على أصحابه البعثيين بشهور حيث أمضيت أكثر من سنة لعدم وجود اعتراف ضدي أو اعترافي بالانتماء بوساطة أحد أقاربي الذي كان على علاقة بأحد القضاة، ومن الطرائف أو المصادفات أن فاضل المرعب قد توسط له أحد أعمامه لدى القاضي الذي ينظر بدعاوى المعتقلين في سجن الحلة، وأعطاه أوصافه بأنه صاحب عيون زرقاء، وكان الرفيق علاء العاني له ذات العيون الزرق، وعندما مثل أمام القاضي قال له سأطلق سراحك بناء على توصية عمك فلان المرعب فشكره دون أن ينبهه عن الخط، وعندما قدم فاضل المرعب أمام القاضي طلب منه البراءة أو سب الحزب فرفض ذلك وحكم عليه بالحبس سبع سنوات، هذا بعض مما في الذاكرة عن الأيام السوداء في تاريخ العراق، وما جرى في ذلك اليوم المشئوم.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com