|
يتشدق الكثيرون بالديمقراطية والنظام الديمقراطي في العراق، ويحلو لآخرين إضافة التعددية والشفافية ودولة المؤسسات وما الى ذلك من الكلمات الرنانة الرائجة هذه الأيام، والتزويق الجميل لكل ما هو مدجن وقبيح، في الوقت الذي لا نرى أي معلم من معالم الديمقراطية في العراق، وأن وجدت فسحة من الكلام لبعض الكتاب(المتهورين) ممن يضعون النقاط على الحروف، ويصفون الواقع الذي لا يستطيعون تغييره، وقد يكون نصيبهم أطلاقة بمائة دينار، تجدهم بعدها في أحدى المزابل أو ثلاجات الطب العدلي، فيما الأمور تسير بمجراها الطبيعي بما لا يصب في مصلحة العراق العراقيين، فالبرلمان العراقي الذي جاء بانتخابات شرعية فرضته ظروف واتجاهات لا تلتقي في جوهرها مع الديمقراطية، وجرى الانتخاب على أسس بعيدة عن كل شكل من أشكال الديمقراطية،، حيث مورس التزوير العلني، والأقضاء المباشر، والتغييب الممنهج لعقول الناس، فانساقوا وراء التوجهات الطائفية والقومية، دون أن يكون لهم القدرة على التمييز بين الضار والنافع، لغياب الوعي وضمور المعرفة، والغرق في الترهات الغيبية، وفقدان الوعي الانتخابي، فجاء برلمان مهلهل ليس لأعضائه على كثرتهم حق الخروج على قادة الكتل، أو الابتعاد عن التوجه العام للقائمة، وإلا سيكون مصيره الطرد أو الاغتيال، أو الاتهام بالانتماء لحزب البعث، وان اغلبهم يعرفون حجمهم الطبيعي ومستواهم الاجتماعي وإنهم لولا هذه القائمة او تلك لما تمكنوا من الوصول الى أعتاب البرلمان، لذلك كانوا مسايرين للأوضاع ومشيئة القادة وما يفرض عليهم من توجه، ووصلت الأمور بالكتل ذاتها الى تقاطعات وصلت حد الصراع المسلح دون أن يكون لذلك تأثيره على تغيير اللوحة السياسية او حدوث انفراج في التوجهات الطائفية، ودائما ما تكون دوافع هذه الخلافات ذاتية او فئوية، والخلافات الدائرة داخل الكتل نفسها لم تؤدي الى ظهور كتلة فاعلة تتجه نحو المعارضة الايجابية لتغيير التوازنات، بل يكون دافعها الربح الزبي الفئوي الضيق، لتصب في النهاية بمصلحة الأطراف والكتلة لفاعلة نفسه، وتؤدي الى مزيد من الأذى للشعب العراقي. والمتابع لما يجري في العراق يلاحظ بلا شك الأيدي الخفية التي تحرك الأمور من وراء ستار، فالخلافات الفاشية بين الأطراف تصل في بعض الأحيان الى حد القطيعة، وتوشك أن تصل حد الاقتتال بما تمتلكه الأطراف من قوى مسلحة قادرة على الحسم والمواجهة، وإشاعة القتال بما يرجح كفة هذه الجهة أو تلك، وفجأة تصل المنسقة السمراء(كوندليزا رايس)وزيرة الخارجية الأمريكية لتضع رجلا على رجل وتجمع الأطراف المتصارعة لتبدأ القبلات الصوتية والمعانقات الجماعية وتحدد لهم الخطوط الحمراء التي عليهم عدم تجاوزه، فيتراجع كل الى جحره، ليبدأ الصراع من جديد وتغرق البلاد بدوامة من الصراعات بين أصحاب القرار، مما يؤثر بشكل كبير على المواطنين الذين لا زالوا ينتظرون الفرج عن طريق هذه الجهات التي لا تفكر في الشعب بقدر تفكيرها بالمنافع التي تجنيها من هذه الصفقة أو تلك، فالبرلمان العتيد جعل جلساته حكرا لتمرير المشاريع الخارجية التي تصب بالمصلحة الأمريكية، أو مصالح أعضائه في المزيد من الامتيازات، والنواب الجهلة حفظهم الله في سفر دائم الى هذه الدولة أو تلك لعقد الصفقات التجارية التي تزيد من أرصدتهم، ليعودون محملين بالهدايا والهبات من أسيادهم في الدول المختلفة، فيما لم تطأ إقدام الكثيرين منهم عتبة البرلمان، مكتفين بالحصول على امتيازاتهم وهم يعملون خارج العراق في تمشية الصفقات التجارية التي تدر عليهم ملايين الدولارات، في الوقت الذي ينظر الشعب المسكين الى السماء منتظرا الرحمة من هؤلاء الذين لم تمر الرحمة في قلوبهم يوما ما. وما يجري من حراك داخلي، لا يعدو تحركات لأطراف تحاول الهيمنة على السلطة، وتتصارع للامساك بالحكم، وأصبحت النجف الأشرف بما فيها من مرجعيات دينية فاعلة نقطة الجذب لهؤلاء السياسيين الذين تركوا العاصمة بغداد، ليتحركوا في أزقة النجف ودهاليزها الملتوية للتبرك بالمراجع العظام، والحصول على دعمهم وإسنادهم في الصراع الدائر بين القوى الفاعلة في العراق، وحتى الأكراد الذين لا علاقة لهم بالمراجع والمرجعيات أخذوا بالتحرك في هذا الاتجاه لكسب الدعم المعنوي في تمرير مشاريعهم القومية، فكان الطالباني ونيجر فان برزاني وبرهم صالح من المترددين عليهم لمناقشة الأوضاع معهم، وكأنهم هم السياسيين الذين عليهم المعول في تحديد المسارات السياسية في العراق، ومنذ سقوط النظام البائد والحركة مستمرة بهذا الاتجاه، فكان الدكتور أحمد الجلبي الذي وصلت به الأمور حد ارتداء الدشداشة السوداء والعرقجين الأخضر ليشارك في اللطم والندب على الأمام الحسين (ع) في محاولة منه لإظهار ورعه وتقواه وتدينه، في الوقت الذي لم يلاحظ أن جبهته العريضة لم تطرز بالبقعة السوداء التي أصبحت علامة المتدينين في العراق الجديد، ولم نجد في أصابعه المحابس الفضية المزينة بحجر العقيق، مما يعني أنه جاء على عجل للمشاركة في هذه الوليمة دون أن يكون لديه الاستعداد الكافي للوفاء بمتطلبات الزي الجديد، وأستطاع أن يحصل على مقعد في الجمعية الوطنية وآخر في البرلمان الأول، فيما فشل في الحصول على مقعد واحد في الانتخابات الثانية بعد أن خرج ببيته الشيعي بقائمة منفردة ضمت بعض الذين تسربلوا بلباس الدين، فكان مصيره الفشل والخسران، ليعود من جديد متسكعا زائرا لهذا المرجع أو ذاك. ولو أردنا أيراد أسماء هؤلاء المتسكعين لطال بنا المطال، ولكن آخر من دخل على الخط الدكتورين إبراهيم الجعفري وعادل عبد المهدي، فالمعروف عن الأول أنه لا يتبع مرجعية النجف وأن حزبه له توجهات متقاطعة معه، فقد قام قبل شهور بحركة بارعة استطاع خلالها كسب أكثر من مائة نائب الى صفه في محاولة منه لإزاحة المالكي، وصلى بهم جماعة في، جوامع النجف، ثم أنطلق للحصول على الدعم من المرجعية وقام بزيارة للسيد علي السيستاني أحاطها ببهرجة إعلامية ضخمة، وبعد انتهاء الاجتماع خرج على الإعلاميين ليعلن أن تجمعه الموعود جاء لدعم حكومة المالكي لا لإسقاطه، ثم شد الرحال في جولة عربية التقى خلالها بالزعماء العرب معطيا تعهداته بإزالة النفوذ الإيراني في العراق إذا حضي بدعم عربي وإقليمي، مما يعني بعده عن أي توجه ثابت وتكالبه من أجل الوصول للسلطة وإزاحة المالكي الذي سحب البساط من تحت أقدامه وأزاحه عن رئاسة الوزراء وقيادة حزب الدعوة بطريقة ذكية يعرفها الجميع. أما الدكتور عادل عبد المهدي، فقد كانت تحركاته باتجاهات متعددة، فهو يغازل إيران بحكم ارتباطه بالمجلس الأعلى، ويتودد إلى البعثيين بوصفه أحد أقطاب حزب البعث في منتصف العقد الماضي، ويتعكز على الغربيين لدراسته في فرنسا وعلاقاته المعروفة بالأوساط الأمريكية، ويحضا باحترام الرجعيين لأرثه التليد عن طريق والده الذي كان وزيرا للمعارف العراقية في العهد الملكي و يحضا باحترام العناصر المحافظة آنذاك، وله مع اليساريين أرث محفوظ بارتباطه بالخط الصيني عندما درس الاقتصاد في فرنس، وله علاقاته المتميزة مع القادة الكورد لمعرفتهم بطبيعة توجهاته، فأعد نفسه لرئاسة الوزارة، وكان المرشح الساخن إلا أن الدكتور علاوي تمكن من الحصول على الإجماع عندما تورط في رئاسة الوزارة الأولى، وظل ينتظر الفرصة الموأتية فكانت انتخابات الجمعية الوطنية على وشك إيصاله إلى رئاسة الوزراء لولا الصراع الناشب بين آل الحكيم وآل الصدر الذي أوصد بوجهه الطريق إليه، فأسندت إلى الدكتور الجعفري لتحقيق الموازنة بين التيارين المتصارعين، ولكن الجعفري الذي أندفع أكثر مما خطط له وأختلف مع القيادة الكردية لتمهله في حسم قضية كركوك، والمجلس الأعلى لتعاونه مع الصدريين، ولم يحضا برضا الأطراف السنية بسبب تشجيعه لجيش المهدي في الانتقام من السنة بعد تفجيرات سامراء، مما جعل تلك الأطراف تعارض بقائه في رئاسة الوزارة,وتشبث باستماتة للبقاء في منصبه الى أن أزيح عنوة، فكان عبد المهدي المرشح الأوفر حظا بالقبول لحصوله على رضا جميع الأطراف، ولكن التيار الصدري الذي يمتلك ثقلا كبيرا في الشارع والائتلاف فرض المالكي رئيسا للوزارة رغم أنف الجميع، لتبدأ عملية القط والفار في الصراع الصامت بين الأطراف الشيعية لإفشال المالكي تمهيدا لصعود عبد المهدي، وبعد أن بدء التيار الصدري يفقد مواقعه بفعل الضربات الشديدة التي وجهت له، وإيقاف نشاطاته المسلحة، بدء التيار بالتحرك لإزاحة المالكي الذي نقض العهود والمواثيق المبرمة معه، فيما كانت تحركات المجلس الأعلى الداخلية والخارجية تهدف لإفشال المالكي، وكان تحرك الجعفري لكسب أعضاء في الدعوة الى جانبه بالضد من المالكي، وبرزت احتمالية تغيير المالكي الذي بدأ وحيدا في الساحة بعد أن تخلى عنه الصدريين والكثير من أعضاء الدعوة، بدء الأمل يراود عبد المهدي في الحصول على رئاسة الوزارة، فشد الرحال إلى النجف ليحضا بتأييد المراجع هناك. ولنا أن نتساءل عن الدور السري لمرجعيات النجف في إسناد الرئاسة لهذا أو ذاك، هل هي ولاية مقنعة للفقيه تشبه من حيث الجوهر الولاية الإيرانية، وإذا كانت ولاية الفقيه غير المنظورة هي الموجه للسلطة والفاعل في قيامه، فما جدوى التشدق بالشعارات الديمقراطية، وما يجري من صراع بين الكتل البرلمانية، ولماذا لا يكون للأطراف الأخرى تأثيرها في هذا المجال، ولماذا لا نرى للمراجع دور واضح في حث الحكومة - التي جاءت عن طريقها- لتحسين الواقع ألمعاشي للمواطن العراقي الذي تستمد قوتها منه، وهل يبقى العراقيون مغمضي الأعين مسلوبي العقول، لا يدرون بما يجري حولهم، وكيف استغلوا من مراجعهم لإيصال هؤلاء الى السلطة ليكون العراق نهبا مقسما بين هذه الجهات، ولماذا تتنصل المرجعية الآن من تأييدها لهؤلاء بعد أن ثبت فشلهم في أدارة البلاد، وهل ستقوم المرجعية بذات الدور مستقبلا لخداع العراقيين. أن الواقع الموضوعي يدعوا الآخرين ممن أركنوا على الرفوف العالية دراسة هذه الظاهرة والعمل لأبعاد هذه الولاية بالتركيز على أخطائها وما أوصلت إليه البلاد من حال مأساوي، ومحاولة تبصير الرأي العام العراقي بالواقع الجديد وضرورة التحالف بين جميع الأطراف لأبعاد شبح الدكتاتورية الذي بدأ يلقي بظلاله على العراقيين.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |