تمر علينا الذكرى الخامسة والأربعون لوأد ثورة 14 تموز العظيمة وإستشهاد قادتها الوطنين على يد أزلام البعث الفاشيين والقومجيين العروبيين في إنقلاب 8 شباط عام/1963 الأسود بفضل المؤامرة متعددة الأطراف المتضاربة في أجندتها المختلفة، ولكنها متفقة على هدف واحد هو تقتيل الشعب العراقي والقضاء على منجزاته المتحققة في ظل حكومة الثورة التي أقامت النظام الجمهوري على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة وسيادة القانون بين أبناء الشعب الواحد دون تمييز أو تفريق، وهذا ما سعى إليه عبد الكريم قاسم عبر تشكيل لجنة من المتضلعين بالقانون برئاسة حسين جميل لكتابة الدستور الدائم في نهاية عام/1962 وعزم على إجراء الإنتخابات البرلمانية في حزيران 1963 وإفتتاح المجلس الوطني في الذكرى الخامسة للثورة فعاجله الفاشيون بإنقلابهم في 8 شباط لمنع الإنتخابات البرلمانية ولعلمهم الأكيد أنهم سوف لن يحققوا أي نجاح في هذه الإنتخابات ولأنهم كانوا يخططون للإنفراد بالسلطة ولن يتحقق لهم ذلك إلا عن طريق إنقلاب عسكري، وهذا ما حصل {ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم لمؤلفه د.عبدالخالق حسين}.

فقد بدء منذ ذلك التأريخ مسلسل طويل من حمامات متواصلة وأنهار متدفقة من الدم وإستباحة للشعب العراقي وأمواله العامة وثرواته الوطنية في مجازر رهيبة وإنتهاكات فضيعة بأبشع صورها حين تكلبت قوى الشر والظلام تحت قيادة البعث المقبور والتيار القومجي العروبي وبدعم وإسناد مفظوح من جهات عديدة متورطة داخلياً مثل أعوان النظام الملكي والإقطاعيين المتضررين من قانون الإصلاح الزراعي رقم (30) لسنة 1958، وخارجياً على المستوى الإقليمي والدولي بمقتضى إتفاقات مشبوهة ومفاوضات سرية لإجهاض الجمهورية الوليدة التي تعد نقطة تحول مفصلي في تأريخ العراق المعاصر، وبالتالي إيقاف عجلة التقدم التي نهضت بها حكومة الثورة خلال سنوات عمرها القصيرة وإغتيال أبطالها ومحو آثارها الجليلة وما حققته من توجهات وأهداف وسياسات وقوانين وتشريعات على مختلف الأصعدة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والتنموية والتربوية فكانت فعلاً ثورة حقيقية شاملة، وقد شعر عامة الناس بالفرق الإيجابي الكبير على أرض الواقع وبجميع مستوياتهم الثقافية أو التعليمية أو الفكرية ومنذ اللحظات الأولى للتغيير بعد أن كانوا محرومين من أبسط وسائل العيش الأساسية ليرتقي بهم المطاف إلى ضمان الحياة الحرة الكريمة وتكافوء الفرص وزيادة الدخل وتأمين الرفاه والرخاء وهذا ما لم تضعه في الحسبان الحكومات العراقية المتعاقبة، والبيان رقم (13) السيئ الصيت كان بمثابة إعلان أبادة جماعية منظمة ضد أبناء الشعب العراقي قاطبةً، حيث ذهب جراء الإنقلاب النازي الآلاف من الضحايا البريئة عبر محاكمات صورية شكلية ودون ذنب أو جرم، ولتملئ الساحات والشوارع والأرصفة والأزقة بجثث الشهداء ليصبح منظراً مألوفاً في عراق الصنم، فخلال أربعة عقود مضت رسخت فلول البعث المنهار وأيتام صدام المعدوم الثقافة الإجرامية الإرهابية المتشبعة بالنهج الإستبدادي الشمولي العنصري وهذا ما جسدته إنطلاقاً من ساحات الإعدام الفوري في النادي الأولمبي في منطقة الأعظمية صبيحة ذلك اليوم الشباطي المشؤوم نتيجةً لإحقادهم وضغائنهم الدفينة ومن دون رأفة أو رحمة وبعكس ما كان يتبعه الزعيم الشهيد عبد الكريم ضد المتأمرين عليه من العفو والتسامح والمغفرة التي زادت من أعدائه المتربصين لإسقاط الثورة المباركة وتنفيذ مأربهم بسهولة ويسر عبر ما كانوا يتحكمون به من مراكز حساسة وسلطات واسعة ومناصب رفيعة في الدولة سواء كانت المدنية أو العسكرية وخاصةً قوات الجيش ومديرية الأمن العام وجهاز الإستخبارات العسكرية ودائرة الإذاعة والتلفزيون ويقابله حملة موجهة من الأقصاء والتهميش والأبعاد للعناصر الوطنية المعروفة بولائها وإخلاصها للثورة وقائدها الذي أصبح مجرداً من أية وسيلة للدفاع والحماية ودون أن يحتاط للأمر رغم التحذيرات والمناشدات وبدلاً من الإستماع إليها راح يضرب القوى المؤيدة له ويضطهدها ويحيل ضباطها الأوفياء على التقاعد أو يبعدهم إلى مناطق نائية أو يعتقلهم أو يجمدهم مما فسح المجال الواسع أمام هؤلاء الإنقلابيين للإنتصار في يوم 8 شباط الإليم، وقد سبق ذلك عملية الإلتفاف على منجزات الثورة وتحجيمها والتراجع عنها بفعل إطباق المتأمرين على المفاصل الحيوية للدولة والتحكم بمقدراتها إضافة إلى الظروف المحيطة المشجعة على هذا المناخ التأمري هو التدخل السافر في الشؤون الداخلية من قبل الجمهورية العربية المتحدة ومنذ فشل تمرد الشواف في أحداث الموصل عام/1959 وسعيها لضم العراق تحت لوائها بزعم تحقيق الوحدة المنشودة التي لم ترى النور أبداً وبالتعاون والتنسيق مع إجهزة الإستخبارات للعديد من القوى الإقليمية والدولية المتضررة مصالحها جراء قيام ثورة 14 تموز الخالدة، وكذلك دور الشركات النفطية العالمية الإحتكارية التي وصلت في مفاوضاتها المتعثرة مع حكومة الثورة إلى طريق مسدود والتي ضربت مصالحها في الصميم نتيجةً لصدور القانون رقم (80) لسنة 1961 الخاص بتحديد مناطق إستثمار النفط حيث إنتزع من سيطرة تلك الشركات ما يقارب (99.9%) من مناطق إستثمارها وبهذا الصدد عندما وقع الزعيم قاسم على القانون المذكور آنفاً دعى الوزراء للتوقيع معه قرار إعدامهم، مما زاد الطين بلة إشتعال الثورة الكردية في أيلول عام/1961 لعدم وضع المادة الثالثة من دستور 27 تموز لعام/1958 المؤقت موضع التنفيذ وهي:-(يقوم الكيان العراقي على أساس من التعاون بين المواطنين كافة بإحترام حقوقهم وصيانة حرياتهم، ويعتبر العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية) وإرسال الجيش إلى كردستان لضرب الحركة الكردية وتعرضت من خلاله القرى والمناطق الآمنة للتخريب والدمار مما أدى إلى أضعاف سلطة قاسم ومهد السبيل لإسقاط نظامه لتسود بعد ذلك هدنة قصيرة (كالهدوء الذي يسبق العاصفة) متمثلاً بقيام الزعيم المقبور صديق مصطفى بإرتكاب جرائم وحملات إبادة جماعية في كردستان لا مثيل لها سابقاً، علاوة على إضراب الطلبة المفتعل من قبل العفالقة وكذلك إضراب البنزين اللذَين لم تواجهما الحكومة بحزام وقوة لصدها وإيقاف التجاوزات المرافقة لها، إذ كانت تشكل نقطة بداية في العد التنازلي لتنفيذ الإنقلاب ونجاحه خلال سويعات قليلة بفضل إستخدام المكر والدهاء والخديعة والتضليل والكذب والغدر والمراوغة وغيرها من الأساليب القذرة التي تعبر عن وجوه المتأمرين الحقيقية بأقنعتهم الزائفة كلصق صور الزعيم على دباباتهم كي لا يصيبها غضب الجماهير وسيطرتهم على مرسلات الأذاعة وبثهم بيانات مُلفقة للقضاء على معنويات وعزيمة المدافعين، لتنطلق أفواج مسعورة من مليشيات الحرس اللاقومي {المؤسس بموجب القانون رقم (35) لسنة 1963} كعصابات مسلحة شرسة غير منضبطة التي أصبحت أوكاراً للقمع والإرهاب في تطبيق جرائمها الدموية الشنعاء في عروس الثورات {الأسم الذي أطلقه البعثيون على إنقلابهم الأسود} وكانت هذه العناصر المنحرفة لا تتوانى عن إرتكاب المحرمات والإنتهاكات، وقد ظهر ذلك جلياً بعد إزاحة البعث النازي عن مقاليد السلطة بعد تسعة أشهر فقط أثر إنقلاب القومجيين العروبيين في 18 تشرين الثاني من العام ذاته، وتم الكشف عن فضائع جسيمة لا يمكن تصورها (سحل حتى الموت، تعذيب وحشي، إعتقالات كيفية، إعتداءات سافرة، مقابر جماعية، إعدامات فورية) وبهدف تبرءة إنقلابيوا 18 تشرين الثاني من تلك الأحداث الدامية...فقد إصدرت الحكومة في سنة 1964 كتاب (المنحرفون) توثيقاً لتلك الممارسات الإجرامية والوحشية وعلى صورة {تقارير، وبرقيات سرية وفورية، وكتب رسمية، وقرارات، وشكاوى، وأفادات المتهمين، ومعلومات، وحقائق، وأدوات والآت التعذيب، وتفاصيل عن القتل في الأحواض الحامضية والمفروشات، وأسماء الضحايا الأبرياء قبل محاكمتهم) فكانوا بحق هولاكو العصر والذي بلغ عدد ضحاياهم ما بين (12000 إلى 16000) مواطن عراقي، إلا أنه بقيت مقاومة بطولية بشجاعتها النادرة وبأسها الجريء وإيمانها القوي صامدة بوجه الإنقلابيين والمتأمرين وتصارع عصاباتهم الغاشمة وتحرق دباباتها بزجاجيات البنزين وأسلحة بسيطة متواضعة وما يملكتوه من عصي وفؤوس وأسلحة بيضاء في منطقة (عكد الأكراد) في باب الشيخ معقل الحركات الوطنية ومسكن التجار الفيلية لكونها أحدى مصادر الخطر المحدق بالنظام البعثي، فصمدت لمدة أسبوع كامل بلياليه بوجه الظلاميين ولتدفع ثمنها الباهض أكثر من خمسمائة شهيد من أبناء المنطقة ومعظمهم من الأكراد الفيلية أثر تصديهم البطولي بكل بسالة وإقتدار، وأذهل دفاعهم الفاشيين الذين لم يتورعوا عن إرتكاب أفضع جرائم بحق كل مقاوم، ليساق بعدها من بقى على قيد الحياة إلى غياهب المعتقلات القاسية وعلى رأسها قصر النهاية إيذاناً ببدء عصر الأنفالات السيئة الصيت، وظلت مقاومة هذه الشريحة المظلومة راسخة في أذهان البعثيين وقلوبهم المريضة، ولتصبح إساساً معتمداً لإضطهاد الأكراد الفيلية في فترات لاحقة كتهجير عام/1970 والتهجير الداخلي لعام/1975 وأخيراً التهجيرات العظمى في عام/1980 وما صاحبته من مصادرة عامة لأموال المهجرين وممتلكاتهم وتغييب أبنائهم وإسقاط الجنسية العراقية عنهم علاوة على الكثير من المآسي والمحن والإختفاء القسري في المقابر الجماعية، ولكن قصر مدة حكم النازيين في عصرهم الأول لم يمهلهم طويلاً والتي أشار إليها السيد (كاظم محمد أحمد) بدراسته القيّمة بعنوان {نبذة عن المليشيات في العراق} بما يأتي:-{تكررت هذه الأعمال القذرة بيد البعثيين ضد الفيلية حيث تمثل الفترة السوداء في تأريخ العراق، وهي منذ توقيع إتفاقية آذار عام/1970 وحتى عام/1988 حيث قام نظام البعث بقيادة صدام بممارسة أبشع صنوف الإضطهاد والجرائم المحرمة دولياً ضد شعب آمن مسالم يحب الحياة والحرية، فقد قامت السلطات القمعية بتهجير وإخفاء مئات الآلاف من البشر بلغ عددهم ما يقارب مليون إنسان دون ذنب سوى أنهم من خيرة أبناء العراق لا يسجدون لصنم ولأنهم من الكرد ومن أتباع آل البيت وهم يمسكون عصب الحياة التجارية والإقتصاد الوطني في العراق ولهم دور كبير في الحركة الوطنية العراقية، وإختفى جراء ذلك مئات الألوف وغيب وفقد في سجون النظام المقبور، كما أصبح العديد منهم حقولاً للتجارب بالأسلحة البايولوجية والكيماوية وفقاً للوثائق التي تم العثور عليها، ومنها ما قامت به الوحدة العسكرية رقم (5013) من الصنف الكيماوي التابعة لقوات الحرس الجمهوري}، وفي 30/5/1963 صدر قانون الجنسية الجديد ذي الرقم (43) وكان أشد وطأة من سابقه، أي صدر بعد ثلاثة أشهر فقط من وقوع الإنقلاب الأسود لغرض الأنتقام من الفيليين بسبب مقاومتهم السالفة الذكر والتنكيل بهم عبر سن الكثير من التشريعات الجائرة وعلى رأسها قرار التجهير القسري رقم (666) لسنة 1980 السيئ الصيت الذي لم يلغى إلا بموجب المادة (11/هـ) من قانون إدارة الدولة لعام 2004، وحالياً بعد سقوط الصنم ما الذي تحقق للكرد الفيلية في العراق الجديد فسابقاً تعرضوا للتقتيل والتغييب والآن للأقصاء والتهميش وكأن تضحياتهم الجسام ذهبت سداً أدراج الرياح وهباءً منثوراً ودون أن ينالوا إستحقاقهم العادل في الحقوق والحريات والمشاركة في العملية السياسية وإتخاذ القرار بإعتبارهم مواطنين عراقيين أصلاء وجزء لا يتجزأ من الشعب العراقي..فمتى يصبح الميزان عادلُ!؟.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com