|
الارض الكلاسيكية : الجذور الاولى للعالم العراق هو الارض الكلاسيكية كما وصفتها في دراستي لرحلة جوستن بيركنس، أو الارض الطيبة كما وصفتها في دراسة اخرى .والعراق في جغرافيته المركزية من العالم كله، هو انتاج لعبقرية المكان الذي سماه الاغريق ببلاد وادي الرافدين .. انه ميزوبوتيميا العريقة جدا بين النهرين العظيمين الأزليين : دجلة والفرات حيث بدأ الإنسان في وجوده وتفكيره واستقراره وتنظيمه .. فلا غرابة ان تكون هذه النقطة او الفجوة المركزية في جيو تاريخية العالم كله بؤرة للتوتر والصراع ، نظرا لكونها نقطة للتجمع والالتقاء . وعليه، فان ميزوبوتيميا العراق كانت على امتداد الاحقاب مركزية جاذبة وطاردة لمختلف العناصر والثقافات والمعاني والاشياء . هذا هو الرد الطبيعي على الذين يصفون أهل العراق باوصاف سيئة وباطلة وغير صحيحة، وحاشا أن يكون اهل العراق الاصلاء كذلك .. وهو رد على الذين يتهمون مناخه القاري بشتى النعوت والصفات، فاذا كان مناخ العراق قد أثر في الامزجة والعواطف والمواقف، الا أنه منح أصحابه القوة والجلد وخصب التفكير والانشداد والانفة والكبرياء ـ كما يشير الى ذلك اغلب الذين درسوا العراق من مكان بعيد ـ .. وهو رد حقيقي ـ ايضا ـ على من يقول بأن اللعنة الازلية لاحقت وسوف تلاحق العراقيين دوما على امتداد التاريخ .. لا أبدا ! فهم ليسوا من عجينة واحدة، وهم ليسوا من بيئة جرداء، وهم ليسوا من ارض خاملة، وهم ليسوا بلا ثقافات وتواريخ وحضارات ، وهم ليسوا بلا تواصل او بلا علاقات او بلا مسالك او بلا ارتباطات !! النخلة والشمس : الرمز .. التوصيف والمعنى أرض السواد من اعالي بلاد الجزيرة الفراتية وجبال كردستان وحتى أعماق البحر جنوبا داكنة الاخضرار، ويكفي أن ملايين اشجار النخيل قد عرفت منذ عهود السومريين، وكانت " النخلة " ولم تزل عنوان العراق ورمزه في الوجود، وهي الشجرة الوحيدة التي بحاجة ان تمد جذورها في الاعماق، وتعمّر طويلا بسيقانها العالية، وجدائلها المدورة وفسائلها الجميلة، لأن العراق غنّّي بثرواته المائية منذ القدم . وان الماء يجري في الفراتين والزابين وعشرات الانهر والشطوط والبحيرات والاهوار .. وعليه، فقد تنوعت الطبيعة العراقية ورسمت لوحاتها على نحو متنوع وغاية في الجمالية والتصوير الخلاق : جبال وسهول وسهوب وهضاب وشواطىء وصحراوات وواحات .. وكانت الشمس العراقية متميزة هي الاخرى بحيث كانت اله عبادة وتقديس عند العراقيين القدماء، كما وعد شهر تموز شهرا عراقيا تنجذب اليه احداث الحياة والتاريخ المريرة منذ العصور الغابرة . وكانت الشمس ولم تزل رمزا عراقيا للحياة . البلاد المركزية للثقافة البشرية: انها الارض الكلاسيكية العريقة التي عرفت نفسها لاول مرة في العالم كونها (بلاد) في العالمين .. فهي بلاد عرفت استقرار الانسان لأول مرة في وجوده عند ضفاف الانهار المركزية للعالم . وقد اكتشفت فيها الزراعة، ونشأت فيها أول تجارب اجتماعية، اذ عمّرت اول قرية فيها فتطورت اولى التجمعات الانسانية .. بلاد انبثقت فيها أول مدينة ممثلة بأور، وأول دولة في التاريخ ممثلة بالسومريين الذين عرفوا العجلة والري .. بلاد اكتشفت فيها الكتابة لأول مرة، ومنها الكتابات المسمارية القديمة التي سجلوا بها تاريخهم الاول .. بلاد اكتشف فيها القانون لأول مرة ممثلا بقانون حمورابي ومسلّته الشهيرة، بلاد عرفت الثقافة والابداع في النصوص والخطوط والرسوم والطهي والتنظيم والتسلح وفن العلاقات .. بلاد عرفت فيها الموسيقى لاول مرة في التاريخ، ذلك ان السومريين اول من اكتشف آلة العود بوترين، بلاد عرفت المكتبات في الوجود، فكان فيها مكتبة آشوربانيبال بنينوى العاصمة الثالثة الكبرى للاشوريين، بلاد اكتشف فيها الجيش وتنظيماته الحربية لأول مرة في التاريخ، بلاد الجنائن المعلقة احدى عجائب الدنيا السبع في بابل، بلاد عرفت منذ القدم بالملاحم والمدونات والاساطير، بلاد فيها أول قصة للطوفان التي ترويها ملحمة كلكامش الاسطورية . وهي بلاد امتدت منها اغلب الاديان، اذ أنبثق فيها أبو الانبياء ابراهيم، ثم غدت قاعدة مركزية أساسية لانطلاق الاسلام نحو العالم . المركزية السياسية والحضارية للعالم الاسلامي بلاد غدت مركزية من خلال عاصمتها التي اسميت بـ " سيدة البلاد " للعالم الاسلامي برمته، وعمّرت فيها اطول واغنى حضارة عربية اسلامية، واستقطبت كل انواع العلوم والاداب والفنون بلاد برز فيها أعتى شعراء العربية وعمالقتها، بلاد برز فيها أبرز أئمة المذاهب الاسلامية، ونبت فيها أعظم علماء الكلام والفلسفة والترجمة والمنطق، وظهرت فيها أعظم مدارس النحو العربي واللغة العربية، وبلاد انجبت أعظم العمالقة من العلماء والمترجمين العراقيين السريان والعرب والمسلمين، بلاد استقطبت كبار المؤرخين والجغرافيين والمفسرين والفقهاء والاطباء والرحالة والكتاب والفلكيين والكيميائيين واللغويين والموسيقيين .. بلاد تكاثر فيها عدد الزهاد والمتصوفة في العديد من طرائقهم واساليبهم ومنتجاتهم . انها البلاد المركزية للثقافة البشرية الاولى منذ جذور التاريخ القديم، وانها البلاد المركزية للثقافة العربية والاسلامية على امتداد العصور الوسطى، وغدت مركزا لكل الخصب والنماء والشمس والماء ولكل الطاقة في الظاهر والباطن، وقد انتجت وازهرت على امتداد القرون جملة من الوان الثقافات نظرا لمن تعايش فيها من اصناف الطوائف والمذاهب والديانات والعناصر والملل والنحل والقوميات، ولكنها بلاد حلت بها اقسى التحديات والآفات، ومرت باعتى الكوارث والنكبات، وتعرضت لاشرس عوامل القهر والحملات والحروب والحصارات، وعانى الانسان في العراق أقسى أنواع المعاناة، وما زال يحمل على كاهله ثقل التاريخ وسطوة الجغرافية ولعب السياسات وآثار الحروب الصعبة . زهرات الامل ستينع قريبا اننا ننادي بأن بلادنا بلاد الشمس تعاني اليوم من اقسى التحديات، وقد اختفت كل الالوان اللامعة وهاجرت الطيور من كل اعشاشها، ويطوف الحزن والاسى في كل النفوس .. وحّلت الانقسامات والتشظيات في كل ارجاء بلاد وادي الرافدين .. وانتجت كل السياسات البليدة كل الحروب وتوالدت كل الحروب والصراعات .. من يسعى لانقاذ بلادنا من كل الحصارات والاحتلالات ؟ من يزرع الامل ؟ متى يفوح الورد ؟ متى يرحل الغزاة ؟ متى يستعيد القلب نبضاته الحية ؟ متى تزول كل الادران ؟ متى تتبدد كل الاحزان ؟ ليس لهذه البلاد الا ابنائها الاصلاء وبناتها الكريمات .. ان الشمس ستشرق يوما، وستسطع المنائر والقباب الذهبية من جديد .. وستدق الكنائس كل اجراسها .. وسيفرح العراق يوما !
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |