|
تجارب الشعوب لا تعاد مرة اخرى بل العبرة بالاستفادة من تلكم التجارب اما تكرارها فغير وارد بطبيعة الحال.. ففي احدى الحوارات الصحفية مع الملك الاسباني (خوان كارلوس) في العقد الثمانيني من القرن العشرين طرح احد الصحفين سؤالا للملك حول التجربة الملكية الاسبانية هل هي تكرارا لتجربة شعب اخر و هل يمكن ان تكرر في بلد اخر ؟ فأجاب الملك (انني اعرف ان لكل بلد خصائصه ولكل بلد ضروفه واعرف ان تجارب الشعوب غير قابلة للنقل والتقليد ، ولكنها بالتأكيد قابلة للدرس والاستيعاب ، ثم إنني اعرف إن القياس بالغير له مزالق لان القياس الصحيح لا يصدق الا في حالة التماثل التام وهو مستحيل من شعب الى اخر) ، وقد قال ماركس قبل ذلك بأكثر من قرن (ان التاريخ لا يعيد نفسه وان فعل فسيكون في المرة الاولى مأساة وفي الثانية ملهاة).. وبلا شك قد اصاب الرجلان بطرحيهما حول عدم امكانية تكرار اي تجربة في بلد اخر او لشعب اخر ، ولكن العبرة بالاستفادة من تجارب الاخرين وخاصة بالتحديات المتقاربة التي قد تكون خاضها شعب قبل اخر وبضروف مختلفة حتماً. عراق اليوم يعيش في مرحلة انتقالية عصيبة وتزدحم فيه الامال بأختناق للخروج من عنق زجاجة التحديات.. وساسة البلاد وجدوا ان الحلول العراقية ستكون عبر اجراء مصالحة وطنية لا غير واعتبروها المسيح المخلص للعراق.. وهنا لنا وقفة.. اي البلدان والشعوب القريبة اقليميا قد مر بتجربة متشابهة ولو بحدود مع تجربة المصالحة العراقية ، عسى أن وجدناه نستفد من صوابه واخطائه في تعاطيه مع تجربته وتحدياته التي نعيش مرادفاً لها اليوم. بلا شك ان لبنان وتجربته بالمصالحة الوطنية هو الاقرب للعراق جغرافيا وبقالب الاحداث والتحديات التي مر بها وبمأسيه التي عاشها. فكيف نستطيع الاستفادة من التجربة اللبنانية لانجاح التجربة العراقية بالمصالحة الوطنية ؟ لبنان سياسيا صنع على اساس المحاصصة الطائفية العلنية وبأسلوب العرف الدستوري غير المكتوب الذي عرف تاريخيا بأسم (الميثاق الوطني) والذي يعتبره بعض المؤرخون المتخصصون بالشأن اللبناني بأنه مؤامرة فرنسية – مسيحية – سنية للسيطرة على حكم البلاد وسلطاته ووضائفه الرئيسية في مقابل اقصاء وتحجيم المكونان الرئيسيان الاخريان للبنان الشيعة والدروز ، وكيفما كانت مؤامرة ام توافق انتهى الموضوع بالموافقة على الميثاق الوطني في العام 1943 واعطي من خلاله رئاسة الجمهورية للمسيح الموارنة ورئاسة الوزراء للمسلمين السنة ورئاسة مجلس النواب للمسلمين الشيعة ، ووزع ايضاً الوظائف الرسمية والهامة بالبلاد على اساس المحاصصة ايضا فمثلاً قائد الجيش يجب ان يكون مسيحي ماروني. وقد اكد الميثاق على استقلال لبنان بسياسته الخارجية واكد على ان يكف المسلمون المطالبة بالوحدة مع سوريا مقابل التزام المسيحين بعدم طلب الحماية الاجنبية. صناعة لبنان السياسية على اساس المحاصصة استمرت على اساس اشبه بالمقدس ولكنها لم تحقق للبلاد الاستقرار الداخلي او الخارجي وبالتالي ضعف تطور البلاد العصرية، بل ساهم بحصول احتقانات لعب العامل الاقليمي دور الاسد بأثارتها وخاصة وقدر لبنان وضعه بين مجموعة متنافرين متجاورين تكللت مع اسباب اخرى كثيرة.. في نيسان 1975 عندما اندلعت الحرب الاهلية اللبنانية التي استمرت لخمسة عشر سنة متواصله ملئها الدم والدموع والدمار، وكانت النهاية عام 1990 فيما عرف بأتفاق الوفاق الوطني او (بأتفاق الطائف) الذي جرى تحت المظلة الامريكية وبرعاية سعودية وعربية وبمشاركة قيادات دينية وسياسية لبنانية وبجيش سوري ضاغط على الارض اللبنانية.. كان اتفاق الطائف مصالحة وطنية ولكن ليس على اساس الوحدة الوطنية بل من اجل ايقاف نزيف الدم ، واتفاق الطائف حصل بوجود قوات اجنبية داخل لبنان (الجيش السوري) اي بسيادة منقوصة.. وعلى الرغم من ان اتفاق الطائف وضع حدا للحرب الاهلية الدموية ، وبواسطة القوات السورية ابعد الكثير من القيادات اللبنانين المناوئين لسوريا وقادة المليشيات لخارج البلاد. بعبارة اخرى ان الذراع السوري بلبنان ساهم بأيقاف الحرب الاهلية.. ولكن بعد ايقاف الحرب الاهلية نزيف الدم لم يتوقف والوفاق الوطني لم يكتمل والوحدة الوطنية بقيت غير مستقرة وضواهر الاغتيال السياسي استمرت بمأساوية عالية ولازال لبنان غير مستقرة سياسية واجتماعيا ليومنا هذا. ما ذا اعطت المحاصصة للبنان : اول مأسي المحاصصة كانت ضياع الولاء للوطن والتركيز بالولاء للطائفة او الحزب او المليشيا ، وقد كان أعظم الكوارث التي اتت بها المحاصصة هو الاستعانة بالغرباء للحماية بالتالي انفتاح البلاد وضياعها. فقد وجدت على الاراضي اللبنانية قوات سورية واسرائيلية وفلسطينية وامريكية وايرانية وقوات دولية متعددة الجنسيات وجيوش عربية لحفظ السلام واخرون. وقد تدخلت دول عديدة بالنزاع اما بصب الزيت على النار مباشرتا او بشكل غير مباشر حتى استبيحت البلاد وانهارت الوحدة الوطنية، ليستمر بلد الارز مظلوما حزينا. اما العراق فبعد انهيار حكم البعث الفردي في العام 2003 والشروع بصناعة سياسية جديدة للبلاد ، وضع للعراق جدولاً زمنياً يمر بمراحل تبدأ بمجلس للحكم يضم عدة قيادات عراقية كبرى الى نقل السلطة من الامريكان للعراقين الى حكومة انتقالية فبرلمان انتقالي فانتخابات فبرلمان دائم ثم حكومة دائمة.. بديهيا ان التسلسل الزمني هو منطقي فكريا في صناعة نظام سياسي جديد , ولكن تأسيس مجلس الحكم العراقي الانتقالي في تموز 2003 كأول خطوة في تأسيس النظام السياسي العراقي بني على اساس المحاصصة الطائفية وبشكل غير مباشر وتحت تسمية (مشاركة الجميع) من خلال توزيع حقائب المجلس على اساس مكونات العراق العرقية والقومية والدينية. كيف بدت المحاصصة العراقية : كانت البداية كما اسلفنا من خلال حقائب مجلس الحكم الخمسة وعشرون حيث وزعت ثلاثة عشر منها للشيعة و خمسة حقائب للكرد و خمسة حقائب للسنة وواحد لكل من التركمان والمسيح الاشوريين.. التوزيع في مجلس الحكم برر على انه انعكاس للتركيبة العراقية الديمغرافية.. وبعد اتفاقية نقل السلطة للعراقيين وتأسيس الحكومة المؤقتة والبرلمان المؤقت الممهد للبرلمان و الحكومة الدائمة انحسرت فكرة المحاصصة الطائفية ووضعت القوائم الانتخابية في بادء الامر على اساس سياسي عراقي لا بأسلوب المحاصصة (حيث راهن بعض الساسة والمكونات العراقية على فشل الانتخابات المؤقتة فلم يشارك)، نجاح الانتخابات العراقية للبرلمان المؤقت في كانون الثاني 2005 بشكل كبير اجبر الساسة المعارضون للعملية السياسية الدخول بها وخاصة بعد ضغط قواعدهم الجماهيرية التي وجدت انها لازمت كتل واحزاب وشخصيات بقوا في اماكنهم في حين المشاركين بالانتخابات والحكومة الانتقالية والبرلمان وغيرها بدئوا يثبتون نفسهم وبصورة شرعية سياسية واضحة ، وساد لدى معادي العملية السياسية العراقية وهم يرون نجاحها شعور بالغبن والاقصاء مما دفعهم لتبني العنف أو تأيده والسعي لدخول العملية السياسية من خلال صنع قوائم انتخابية للمشاركة بالانتخابات الممهدة للبرلمان الدائم. المحاصصة لم تعد موجودة فالقوائم الانتخابية تضم من كل فسيفساء الشعب العراقي وبدون اساس طائفي ، إلا إن دخول المكونات المعارضة سابقا للعملية السياسية وخاصة وهي قد اكدت ان دخولها للحيلولة دون ظلمها او تميزها قد عمق فكرة المحاصصة واوجدها بقوة بعدما ازيلت لعدم رغبة الشعب العراقي بالانغماس بالانتمائات الثانوية على حساب انتمائهم الوطني العراقي ، وخاصة وقد برزت المكونات الجديدة بقوائم لاتمثل الا تخندقها الطائفي بل اكثر من ذلك ابتدئت بسحب الشخصيات التي تمثلها بالانتماء الطائفي ولكنها بقوائم لا طائفية اما تحت الضغط او الاغراء بالتالي تكرست الطائفية السياسية ودخل العراق الانتخابات للبرلمان الدائم والقوائم الكبرى ليست الا تمثيلاً طائفياً صرفاً فقائمة (الائتلاف العراقي الموحد) الحائزة على الاغلبية البرلمانية انسحبت منها معضم الاطراف الكردية والسنية والعلمانية لتبدو بشكلها النهائي قائمة شيعية اسلامية، وقائمة (الاتحاد الكردستاني) ضمت قطبي الكرد الكبار والاكثر نفوذا (الحزب الديمقراطي الكردستاني) و(حزب الاتحاد الكردستاني) اي ان القائمة اصبحت كردية صرفة ، وإما القائمة الثالثة (جبهة التوافق العراقية) التي دخلت جديداً للعملية السياسية بأساس سني وقامت بأجتذاب الشخصيات السنية بالقوائم الاخرى لتخلص لقائمة سنية خالصة، و القائمة الرابعة والأخيرة من ناحية الثقل الشعبي هي القائمة (العراقية الوطنية) وهي القائمة الوحيدة التي احتفضت بكونها قائمة وطنية لا طائفية ولكنها اتهمت بالسعي لاجتذاب البعثيين السابقين لاحتوائهم والاستفادة من اصواتهم، ولكن واقعياً كانت القائمة العراقية تضم شخصيات من مختلف المذاهب والقوميات العراقية ولكنها كانت محدودة النفوذ مع المد الذي استحصلته القوائم الثلاث الاولى لكونها مثلت اكبر ثلاث مكونات بالعراق من النواحي الطائفية. لم تقف المحاصصة عند هذه النقطة بل برزت بشكلها المقيت المخيف مع تأسيس الحكومة الدائمة واصبحت كلمة (محاصصة) التي كانت في يوم قريب خط احمر لايصله المتحاورون، انتقلت بعد ذلك لكي تتصدر النقاشات والندوات والحوارات ويتحدث بها كبار المسؤلون وعلى المحطات الفضائية وكأنها هدف وليست خطاً احمر كما كانت منذ مدة !! وجدت الكتل خاصة الاقل حجما بالبرلمان ان المحاصصة ستحميها من التميز والاقصاء الذي لم يكن له وجود او مخططات مكتشفة بل ساهمت عوامل اخرى بأذكائه خاصة ابعاد واقصاء منتسبي الدوائر الامنية والعسكرية والحزبية من النظام السابق عن مناصبهم بالتالي خلق معارضين بل وارهابين احياناً بعدما فقدوا مصادر رزقهم ونفوذهم ورغبة بعض القوائم بأجتذابهم لكسب اصواتهم ولكن تحت مضلات الشعار الطائفي وبنظرية المحاصصة ، العامل الإقليمي كان له قوله حتماً وبالنسبة للرؤية المذهبية والدينية والقومية لانظمة الجوار الاقليمي فحدث بلا حرج وما دفع لبنان ثمنه كان في اقساط كثيرة بسبب هذه النزعة الاقليمية.. جلسات البرلمان الدائم في الحكومة الدائمة تناولت موضوع المحاصصة وكأنه (الضمان) وعندما ندرس فكرة نعت الضمان نجد ان السبب بلا شك ازمة الثقة وهي موجودة فعلا.. المحاصصة بدئت تطرح بشكل كبير وعلني وبغيض وتجاوزت السلطات الكبرى رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب لتنتقل الى الوزارات فوكلاء الوزارات فالمدراء العامين حتى اصبحت اقرب بالمهزلة عندما طرح تأكيد المحاصصة بالمفوضيات المستقلة كمفوضية الانتخابات ثم تطور ليكون مهزلة حقيقية عندما طرح مثلا ان يكن هناك محاصصة في السفارة العراقية الواحدة بدولة ما بمعنى السفير من فئة والقنصل من فئة والقائم بالاعمال من فئة وهلم جرى. ما مستقبل ما يحدث بضوء التجربة اللبنانية : في العراق كما لبنان هناك ازمة ثقة بين الاطراف.. في العراق كما لبنان اصبح هناك محاصصة طائفية للمناصب الحكومية والسيادية المختلفة.. في العراق كما لبنان هناك اشكالات متعلقة بالدول الاقليمية والمجاورة من ناحية الولائات والتدخلات والمصالح. ولكن في العراق هناك وحدة وطنية لم يجد لبنان مثلها في بلاده بسبب التنازع الطائفي المتجدد دوماً هناك والتاريخي حتماً والذي لعب العامل الاقليمي به دور الاسد. ان المحاصصة زائداً العامل الإقليمي السلبي زائداً الاحتقان الطائفي الذي ينشئه القتل الجماعي الانتقامي للابرياء سيولد حتماً صراعاً أهلياً لا سامح الله. في لبنان لم يكن التوقع ان الوضع سيصل هكذا.. بل ارتكبوا أشنع خطأ واعترفوا به لاحقا وهو الاستعانة بقوى اجنبية اقليمية كانت او ابعد ، للمساعدة والحماية حتى استباحت بلدهم ودمرته ودمرتهم ايضاً. ان التجربة اللبنانية تعطي درساً بعدم إشراك الغير بالمسائل الداخلية وخاصة في قضايا الحماية والتدخل العسكري والدعم بالمقاتلين وغيرهم ولكم دفعت لبنان ثمن دخول الجيوش والمقاتلين غير اللبنانين. في لبنان فكروا بالمصالحة الوطنية بعد خمسة عشر عام من القتال.. في العراق وجد ساسة البلاد ان المصالحة يجب ان تبدء بسرعة وقبل ان تصل الامور لا سامح الله الى الحرب وهذه نقطة ايجابية تسجل للحكومة. ولا داعي لوضع استنتاجات وفرضيات.. فالرسالة واضحة.. نحن في العراق على مشارف الطريق ، ولسنا في عرضه أو أخره ، فلنستفد من أخطاء تجارب أخرى كما الحال في لبنان كي لا نقع بمثلها.. ونبحر نحو الأمان...
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |