سمعت لشاعر العرب الأكبر، محمد مهدي الجواهري، قصيدتين على لسان صديق لي كان عائدا من دمشق وقتها الى مدينة بنغازي الليبية التي كنت أنا وإياه نعمل ونعيش فيها، وقد نقل لي هذا الصديق، فيما نقل، أن الجواهري قد سمع نقدا أو لوما من أطراف المعارضة العراقية التي يعيش الكثير من رجالاتها في سورية قبل أن يعودوا الآن الى العراق، ليكونوا في استقبال جند المنصور بالمال السيد جورج بوش الابن!

كان مضمون هذا النقد، وذاك اللوم، هو سكوت الجواهري عن نظام صدام الذي ارتكب أفظع الجرائم بحق الناس في العراق، تلك الجرائم الوحشية التي تتضاءل وحشيتها اليوم عن الجرائم الرهيبة التي حدثت بعد سقوط حكمه وخلال زمن الاحتلال الأمريكي المتواصل للعراق، وذلك بسبب من أنه قد قتل من العراقيين للآن أكثر من مليون مواطن على ذمة إحصاءات الدوائر الانجليزية التي نشرت أيامنا هذه .

وما يزيد في هول هذه الفاجعة الرهيبة هو استمرارها الدائب كل يوم، ودونما انقطاع . وإذا كان صدام قد بطش بالناس في العراق فقد عاد اليوم أكثر من وحش يفترس هؤلاء الناس، ودونما ذنب اقترفوه في أغلب الأحوال.

أعود فأقول : من لسان صديقي ذاك حفظت ما تلا عليّ من أبيات تلك القصيدتين، وقد اعتدت أنا، وربما غيري، على حفظ أبيات من قصائد الجواهري من فمه وهو يتلوها، وما زلت أذكر كيف أجبرنا، نحن بعض من طلبة جامعة بغداد، سائق سيارة الأجرة التي حملتنا من مدينة الناصرية على التوقف أمام مقهى تقع في أطراف مدينة الحلة، مركز محافظة بابل، وقت أن كان الجواهري يطل من على شاشة تلفزيون بغداد بعد عودته الى العراق من مغتربه الذي طال لسنوات عدة، ليلقي ساعتها قصيدته التي مطلعها :

 أرح ركابك من أين ومن عثر ِ*** كفاك جيلان محمولا على خطر ِ

 هذه القصيدة التي حفظنا الكثير من أبياتها ساعة إلقائها، ورحنا نرددها فيما بيننا في الأيام التالية، كما أنني لا زلت أحمل في ذاكرتي صورة للناس التي لا تملك في بيوتها جهاز تلفزيون وهي تتدفق الى مقاهي بغداد لسماع الجواهري حين تعلم أنه سيلقي قصيدة في ساعة معلومة من يوم معلوم، والذي جلب انتباهي مرة هو أن الحمالين من الرجال الذي يعملون في أسواق الشورجة من بغداد كانوا يصلون الى تلك المقاهي قبل أن يصل لها الطلاب الدارسون في كليات ومعاهد جامعة بغداد . والكثير من هؤلاء الطلاب كان يحفظ البيت والبيتين والأبيات شفاهة من فم الشاعر، وذات مرة هز نفوسنا ونحن نغادر مقهى في شارع الأمين بيت للجواهري يهزأ فيه من حكام العراق يقول فيه :

وما تخاف وما ترجو وقد دلفت *** سبعون مثل خيول السبق تطردُ

 وعلى هذا ما كان للجواهري أن يسكت على ضر يمس العراق، ولكنه كان يرى بأم عينيه الحال المزري الذي وصل له رجال المعارضة العراقية في خارج العراق، تلك الحال التي لم تدفع الشاعر الى أن يمد يدا لهم ويقول بيتا من الشعر، وبدلا من ذلك فقد رد هو على هؤلاء المتفوهة من المعارضين، أولئك الذين أشرت لهم من قبل، بقصيدة قل عدد أبياتها عن مثيلاتها من قصائد الشاعر الطوال، وسبب هذه القلة، على ما اعتقد، هو أن شاعرنا بلغ من العمر عتيا، وضعف عن قول القصائد الطوال في السنوات الأخيرة من عمره المديد، وهذا الأمر يظهر بجلاء في قصيدة الرد تلك التي سأأتي عليها بعد قليل، كما يظهر كذلك في قصيدة قصيرة أخرى هبّ فيها الجواهري مستنكرا، على عادته في نصرة الدول العربية، الغارات الجوية التي شنتها الطائرات الأمريكية ليلا على مدينتي بنغازي وطرابلس زمن حكم الرئيس الأمريكي ريغن، تلك القصيدة التي حفظت بعض أبياتها أنا من فم صديقي المار الذكر، والتي تقول في أبياتها الأولى :

 يا أمتي يا عصبة الأمـم ِ*** لا تغضبي يا ثلج من ضرم

لا تغضبي ويدي معطلة *** أن أقذف اللعنات ملءَ فمي

 بعد ذلك يهاجم الحكام العرب فيقول :

 يا سوءَ حظ دمىً مرقصــــة *** يُلهى بها وتُداسُ بالقـــدم

إني لأسأل قادة أذنـــــــــــــا *** يتخارسون بحجة الصمم

فيمَ الحياة- ترى- إذا عَريت *** من أخذ ثأر عن دم بـــدم

 وأخيرا يهزأ من هؤلاء الحكام فيقول :

 فلئن تعابثت الجيوش بهم *** فلديهم جيش من الكلم!

 ولكنني سمعت هذه القصيدة فيما بعد من فم الشاعر الجواهري نفسه، وذلك حين ألقاها، من بين قصائد أخرى في مدينة بنغازي، على مسامع حشد جماهيري ضخم ضاقت عنه قاعة المسرح البلدي في تلك المدينة، وما كنت أنا أتصور أن للجواهري هذه الحضور الكبير الذي تزاحمت فيه النساء مع الرجال من أجل أن يسمع الجميع شعره بصوته، وأن يروا الشاعر بكيانه، وهو الذي أنشدهم قبلا عن بعد، وها هو اليوم ينشدهم عن قرب، ويقف معهم ضد العدوان والغطرسة العسكرية .

لقد أنشد الجواهري أهل بنغازي الكثير من قصائده، ومنها قصيدة قالها عن فلسطين كتبها في العشرينيات من القرن المنصرم، وقد كان ينشد هو تلك القصائد جميعها مشافهة بسبب من أن بصره قد ضعف كثيرا، وصار لا يقوى على قراءة الحروف .

بعد أن فرغ من إلقاء قصائده الوطنية والسياسية طلب ابن الثمانين سنة أن (يُملح) تلك الأمسية بقوله الذي انتقل به من الفصحى الى العامية العراقية : خلي نملحها! ساعتها ضحك الجمهور، وبدأ هو يقرأ قصائده الغزلية التي بدأها بقصيدة معروفة له مطلعها :

 بالذي صاغ واعتنى *** وبنى منك ما بنى

 وعلى إثر ذلك قامت فتاة ليبية ممشوقة القامة طويلتها من بين الحضور، وارتقت خشبة المسرح حيث الجواهري، وبادرته من فورها بطبع قبلة على خده، وقدمت له وردة غامقة الحمرة، فصفق لها الجمهور، بينما نزلت الغبطة كلها على الشاعر حينها، فرد هو على تكريمها هذا ملتجأ الى اللهجة العراقية قائلا : طال عمرك!!

أما قصيدته القصيرة الأخرى التي أشرت لها من قبل فهي تلك التي رد بها على المعارضين العراقيين القاطنين في سورية، أولئك الذين توسم فيهم الفشل حين كانوا في المعارضة، وحين أصبحوا في الحكم فيما بعد تحت فوهة المدفع الأمريكي، فالرجل المعارض الفاشل لا يمكن أن يكون رجلا حاكما ناجحا أبدا، ويبدو لي أن الفشل الذي عليه رجال الحكم في العراق اليوم هو صفة لازمتهم منذ أن كانوا في المعارضة، ومنذ أن وسمهم الجواهري بسمة (العطل) وبدليل أنهم لم يستطيعوا أن يزحزحوا صداما من كرسي حكمه قيد أنملة، ولكنهم صعدوا الى هذا الكرسي بعد أن جمعتهم مخابرات دولية، ثم حملهم إليه الرئيس الميمون بوش! فصاروا بذلك وعلى حد وصف الشاعر الجواهري (دمى مرقصة يلهى بها وتداس بالقدم)، ولكنهم مع هذا راحوا ينفشون ريشهم مثل الطواويس مزهوين بما سرقوا من أموال شعب نزل به بلاء عظيم، شعب أصبحت الملايين من نسائه مرملات، والملايين من أطفاله أيتاما، مثلما أصبحت ثرواته نهبا للقريب والبعيد، وعلى شاكلة وصل فيه هذا النهب الى سرقة خمس عشرة بئرا نفطا في منطقة الطيب العراقية من قبل جمهورية الإسلام في إيران! بعد أن استولت عليها وطردت العاملين العراقيين فيها . وعلى ذمة بعض المصادر الخبرية فأن الحكام المزهوين في العراق قد غضوا النظر عن هذه السرقة تعويضا عن الخسائر التي لحقت بإيران جراء الحرب التي قامت في الثمانينات من القرن الفائت بينها وبين العراق، تلك الخسائر التي قدرها السيد عبد العزيز الحكيم ذات مرة، وعوضا عن المسؤولين في إيران بمئة مليار دولار عدا ونقدا .

عن هؤلاء المعارضين ماضيا، والحاكمين حاضرا يصدر الجواهري حكمه دون أن يستثني أحدا منهم فيقول :

 قالوا سكت وأنت أفظع ملهـــب ***وعي الجموع لزندها قـــــــداح
فأجبتهم أنا ذاك حيث تشابكـــت ***هام الفوارس تحت غاب رماح

قد كنت أرقب أن أرى راحاتهم ***مُدت لأدفع عنهم بالــــــــــراح
لكن وجدتُ سلاحهم في عطلة *** فرميتُ في قعر الجحيم سلاحي

 أقول لو كان شاعرنا الجواهري حيا يرزق بيننا اليوم ماذا سيقول عن حكام في عراق محتل يحكمون باسم الرئيس المنصور بوش!؟ هل سيزيد في وصفهم عن قوله الذي قاله عنهم وهو في هذه الحياة :

 قد كنت أرقب أن أرى راحاتهم ** مُدت لأدفع عنهم بالـــــــراح
لكن وجدتُ سلاحهم في عطلة ** فرميتُ في قعر الجحيم سلاحي

 أو قوله :

يا سوءَ حظ دمىً مرقصة *** يُلهى بها وتُداسُ بالقدم ِ

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com