لم يجد المتلاعبين الكبار في مجريات أحداث الساحة العراقية سوى أسلوب الصفقات السياسية المشبوهة في الدهاليز المظلمة طريقا لتمرير القوانين العالقة منذ أشهر بسبب الاختلاف في تفاصيلها وصيغها القانونية بين الكتل السياسية في البرلمان العراقي وبالتأكيد أن سبب الاتفاق فيما بينها هو تحقيق المأرب والغايات التي فيها نفع ومكسب سياسي حزبي صرف لا غير .

ولم يكن محل اختلاف هؤلاء (الشركاء – الفرقاء) حول انجاز هذه القوانين نابع من الحرص على رفع جزء من معاناة شعب العراق المبتلى بأولئك السياسيين المهملين لشعبهم والناكرين الفضل عليه في إيصالهم إلى ما وصلوا اليه من مناصب السياسية ومراكز قيادية بل ويغضون الطرف عن السبل الكفيلة بانهاء هذه المعاناة مع استطاعتهم لذلك وامتلاكهم القدرة على ذلك ، بل إن السبب الرئيسي وراء تهافت هؤلاء الساسة على انجاز هذه القوانين بهذه الطرق الملتوية هو شكل من إشكال الالتفاف على التشريعات الدستورية والبرامج الانتخابية التي رفعوها شعارا لحملاتهم الانتخابية .

ولكي تتم عملية إمرار هذه القوانين وغيرها كما هو مخطط عمدوا إلى خلق الاحتجاجات وإثارة الإشكالات على مسودات هذه القوانين بشتى الحجج مما تسبب في تعطيل إصدار هذه القوانين لعدة أشهر وهي فترة طويلة قياسا للوقت الذي يداهم العراق وشعبه الذي هو في أمس الحاجة لاستغلاله بالبناء والأعمار (خصوصا وهو بعد لم تندمل جراحاته ولا تزال بناه التحتية تعاني من انهيار كامل في جميع القطاعات ولم شهد أي تغيير ملحوظ عد مرور خمس سنوات على سقوط نظام البعث) وبعد استهلاك الوقت من قبل اللاعبين الكبار وبعد تحقق الغايات والأهداف يبادرون إلى تغيير مواقفهم من تلك القوانين بمقدار 180 درجة .

إن أهم القوانين التي شملها التعطيل في مجلس النواب العراقي هو قانون الموازنة العامة الذي تأخر إصداره رغم مرور ثلاث أشهر من السنة الجديدة وبالتأكيد فأن هذا التأخير الغير مبرر أدى إلى عجز يضاف إلى الشلل الذي تعاني منه أجهزة الدولة ومفاصلها المهمة أصلاً وكان هذا التأخير خير ذريعة للمسؤولين عن صرف هذه المخصصات من الوزراء وقادة الحكومات المحلية في عدم التمكن من إنفاقها في مشاريع البناء وبالتالي إرجاعها إلى خزينة الدولة بعد إن تتعرض إلى النهب والسلب من قبل المفسدين وليتبجح المسؤولين في العام المقبل بزيادة الموازنة إلى مليارات إضافية .

وبدل إن يبادر الإخوة في مجلس النواب إلى محاسبة المسؤولين الحكوميين عن نسبة الانجاز الفعلية للمشاريع الإستراتيجية ونسبة المنفذ منها فعلا بالإضافة إلى مسألة الوزراء المتورطين في اختفاء مليارات الدولارات من موازنة العام 2007 ، تقوم بعض الجهات السياسية المتنفذة في الائتلاف العراقي الموحد بإثارة موضوع حصة إقليم كردستان من الموازنة العامة والتي تسببت الحكومة العاجزة والمعطلة في إشكالاتها بسبب عدم حسم موضوعها قبل إمرارها إلى قبة البرلمان العراقي وبعد التي واللتيا وبعد إن تحولت إلى قضية رئيسية تم من خلالها تجاوز على كل المؤاخذات والملاحظات والتساؤلات الأولية والمهمة على الموازنة ككل ولتقوم نفس الجهات التي أثارت موضوع حصة كردستان بالالتفاف على القوانين الدستورية من خلال الصفقة الثلاثية التي أعلن بعد طبخها عن حسم موضوع حصة كردستان العراق بإبقائها كما مرسوم لها دون أي تغيير .  

البند الثاني في الصفقة السياسية كان قانون مشروع مجالس المحافظات الذي شهد هو الأخر تأجيلا طويلا مع الحاجة الماسة لإقراره بسبب المشاكل والإحداث الدامية التي شهدنها محافظات العراق بسبب عدم وضوح الصلاحيات للسلطات التنفيذية والتشريعية في الحكومات المحلية ولم يكن التعطيل إلا لرغبة البعض من الأحزاب المستأثرة بالسلطة في تمرير بعض المواد التي تستهدف إحدى الجهات والمكونات السياسية الوطنية في جنوب العراق وطموح جهات أخرى في الحفاظ على مكتسباتها السياسية في المنطقة الغربية والتي قد يتسبب هذا القانون في الإطاحة بطموحاتها بالاستفراد بالقرار السياسي فيها خصوصا مع التغيرات التي أفرزت قوى جديدة في تلك المحافظات بالفترة الأخيرة .

وبعد شد وجذب ونتيجة للإجماع من قبل اغلب الكتل السياسية في البرلمان على عدم استغلال القانون لتحقيق المطامع والمصالح الحزبية الضيقة تقرر إن يتم إلزام الرئاسة بتحديد موعد للانتخابات القادمة على إن لا يكون أقصاه شهر تشرين الأول بالإضافة إلى ترك مسألة عزل المحافظين إلى السلطة التشريعية للبت فيه وهو الأمر الذي جوبه بالرفض التام من قبل المجلس الإسلامي الأعلى وتقرر على أثره إن يمتنع نواب الائتلاف عن الحضور إلى جلسات البرلمان لغاية رفع هاتين المادتين وكصفقة تم إبرامها مع القادة الكرد لغرض تمرير القانونين بصورة موحدة امتنعت كتلة التحالف الكردستاني هي الأخرى عن الحضور ولم تشهد جلسات البرلمان يوم الثلاثاء سوى حضور أربع نواب يمثلون كتلتي الائتلاف والتحالف .

ولإكمال أطراف الصفقة تم الاتفاق مع الحزب الإسلامي على تمرير قانون العفو العام وهو القانون موضع الجدل لدى كافة المكونات السياسية بسبب الاختلاف في ماهية المشمولين بهذا العفو واعتبره الكثير من السياسيين وأبناء الشعب العراقي كلمة (حق يراد بها باطل) كونه يستبطن في طياته شمول الكثير من المجرمين المتورطين في إزهاق أرواح ألاف العراقيين الأبرياء تحت عناوين المقاومة وغيرها من الشعارات التكفيرية وفي الوقت ذاته فأن هذا القانون يبقي مصير المئات من الأبرياء الذي تعرضوا للاعتقال بسبب معلومات مضللة وقضايا كيدية وتصفية حسابات سياسية لا تزال نيرانها مستعرة إلى الآن في وسط وجنوب العراق .

ولأن إصدار هذا القانون كان ولا يزال المطلب الرئيسي لجبهة التوافق والحزب الإسلامي على وجه الخصوص للدخول في التحالف السلطة الرباعي فلقد تقرر إدراجه إلى بنود الاتفاق والصفقة السياسية ليتم ضرب عصفور واحد بثلاث أحجار تضمن كتم أنفاسه إلى الأبد .

هذا هو الاستئثار السياسي الجديد الذي اتبعه قادة العملية السياسية في العراق من اجل الاستحواذ على مفاتيح اللعبة السياسية والقبض بيد من حديد على مقاليد السلطة والاطمئنان إلى التهميش الكامل لكل المكونات الأخرى على الساحة العراقية .

إضاءة :

وصف سماحة المرجع محمد اليعقوبي (دام ظله) ما يجري من استئثار في الساحة العراقية واهم النتائج المترتبة عليه بقوله :

 (توجد ظاهرتان في العلاقة بين السلطة والشعب هما السبب في حصول الفجوة والافتراق بينهما وتعمل عدة عوامل أخرى على توسيعها وتأجيجها هما استئثار الحكام وعدم صبر المحكوم فإذا التفت المتسلطون إلى أنانياتهم وكرّسوا جهدهم للتفرد بمغانم السلطة وجني المكاسب الشخصية مما يسبّب الحيف والظلم والجور على عامة الشعب الذين قد يصبرون على مستوى معين من الحرمان والتعسف لكن صبرهم لا يستمر إلى ما لانهاية وعندما يصل الحرمان من ابسط حقوق الحياة الإنسانية الكريمة إلى درجة لا تطاق فان الصبر والتصبّر لا يجدي حينئذٍ وينفجر الوضع وهذا ما عبر عنه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري (عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج شاهراً سيفه).

هاتان الظاهرتان جمعهما أمير المؤمنين (ع) حينما سُئِل عن قضية مقتل الخليفة عثمان فأجاب عليه السلام باختصار (استـأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع ، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع)

فلو لم تستأثر بطانة الخليفة بعائدات الدولة الإسلامية ووزعت الحقوق على أصحابها بعدالة وإنصاف أو على الأقل كفلت للرعية الحد المعقول من مستوى المعيشة لما حصلت الفتنة ، ولو أنَّ الناس حين حرمت من بعض حقوقها التي يمكن التنازل عنها صبرت على الحال وكظمت غيظها لتجنبت ما هو أسوا حيث حصل ذلك الجرح العميق في جسد الأمة الذي ظل ينزف دماً إلى اليوم).

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com