|
نعم، لم يبقَ من دور للاتجاهات غير الدينية في الحياة العامة العربية! هذه اجابة مختزلة حقيقية عن بقايا اي دور للاتجاهات المدنية بمختلف تياراتها غير الدينية. ولكن لنعلم ان ما قدمته تلك "الاتجاهات" للفكر السياسي والاجتماعي العربيين يبدو كبيرا، ولكنه منفوخ وخيالي وطوباوي مثلته الاحزاب المدنية ولما تزل بقاياها تعيش على ادبيات ومفاهيم مستعارة او مسروقة نظرا الى خوائها من اي برامج ومضامين سياسية حديثة. ان من اكبر اخطائها انها دخلت صراعات مخيفة في ما بينها، لتجد نفسها في النهاية خارج كل من الواقع والتاريخ. لقد كانت الايديولوجيات التي استعيرت من مصادر لا علاقة لها بنا سببا في تشبث المجتمع بعاداته وتقاليده باسم التراث مرة وباسم الاصالة مرات، وفجأة وجد المجتمع نفسه في قبضة القوى الدينية التي كانت تسعى للسلطة بشتى الوسائل. بل كانت الولايات المتحدة الاميركية احد ابرز تلك الوسائل التي جعلت التيارات الدينية تهيمن على مقاليد الحياة في عموم الشرق الاوسط! وعليه، فان الظاهرة المدنية برمتها مستعارة والظاهرة الدينية كلها مصنوعة، وان الوعي لم يستنبط حتى يومنا هذا بأن دول الشرق الاوسط قاطبة كانت ولمّا تزل فاقدة استقلاليتها وارادتها وان الشرق الاوسط برمته كان وسيبقى في رعاية الغرب. الصراعات السياسية والفكرية ان الصراع الفكري والسياسي غير المتوازن بين الاحزاب الليبرالية (اليمين) وقابلتها الاحزاب الشيوعية (اليسار) فيما تبلورت الاحزاب القومية التي مالت ذات اليمين وذات اليسار، وكلها عملت ضد الليبراليين اليمينيين باسم الثورية والاشتراكية، قد سبب شرخا عميقا في التفكير. علما بأن مجتمعاتنا لم تتقّبل الثورة على التقاليد لا بالترغيب ولا بالتهديد. ودخلت في صراعات لا معنى لها ابدا تحت مانشيت صراع اليمين واليسار. لم تكن الاحزاب الاصلاحية والقومية وسطا بل انها نادت ايضا بالثورة القومية والاشتراكية العربية والتحرر العربي وتحرير فلسطين من دون برامج علمية، بل من خلال شعارات ايديولوجية. ولكنها وازنت بين المِشيتين لكسب الناس فقالت بالاصالة والمعاصرة او التراث والتقدم. انها بهذه الازدواجية عاشت زمنا ثم انتهت عمليا مع العام 1979، فكان هناك من جاء على اكتافها ليزيحها عن الطريق ويسيطر على المجتمع. لقد تبلورت الاتجاهات الدينية وتفاقمت مخاطرها بسرعة. لقد استمدت الاتجاهات الدينية ترسبات الاتجاهات غير الدينية وبقاياها، فالوعي القاصر والمشوه كانت قد خلقته التيارات المعاصرة نفسها، وهي التي ساعدت على نمو التيارات المتخلفة. كيف؟ رواسب التفكير الايديولوجي ان التفكير الايديولوجي الذي سيطر على حياتنا منذ خمسين سنة، لم تزل ترسباته راسخة في عقول وضمائر الكثير من المثقفين والسياسيين والاكاديميين العرب، بل وعند العديد من ابناء منطقتنا رسوخا كامنا، وليس باستطاعتهم ابدا التخّلي عنه او التخلص منه برغم كل التحولات التي طرأت على حياتنا كاملة في السنوات العشر الاخيرة. ان حياتنا السياسية في منطقتنا كلها تعيش اليوم فراغا سياسيا وفكريا هائلا بسبب انسحاب تيارين اساسيين فاشلين من الساحة، اي بمعنى انسحابهما من تفكيرنا وواقعنا: أولهما: الفكر القومي العربي الذي سيطر على عواطف الناس لمدة 30 سنة (1949 – 1979)، لكي يحّل بدلاً منه الاسلام السياسي الذي سيكمل مع العام 2009، ثلاثين سنة من حياته وسينفرج الوضع عن تفكير مختلف، لا ادري، ربما سيقود الى مأساة تاريخية وربما سينتج حالة خلاص. ولكننا نجهل طبيعته وعناصره حتى الآن. اما ثانيهما: فكان يتمّثل بالشيوعية العالمية التي سادت في منطقتنا على مرحلتين: مرحلة التأسيس (1917- 1947) ومرحلة الحرب الباردة التي تبلورت لما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى العام 1979 مرورا بعهد الوفاق بين المعسكرين. وقد ختم حياته بانهيار المنظومة الاشتراكية في مطلع تسعينات القرن العشرين. ولم يكن هناك من بدائل الا السيطرة الكابيتالية (هيمنة الرساميل) التي تسارعت تاريخيا عن مرحلة الامبريالزم (الهيمنة السياسية). وفي كل من هذه المراحل يعيش العالم الاسلامي برمته (في عالم الجنوب) في حالة اخفاق لا في حالة صراع. فلا القومية العربية، ولا الشيوعية العالمية، ولا الاسلام السياسي بقادرة منفردة أو معاً على الوقوف امام هذا المارد الجديد الذي غيّر حياتنا. علينا ألاّ نكابر، ذلك ان عالم الجنوب ليس لديه القدرة على ان يبقى 24 ساعة واقفا على رجليه لوحده من دون عالم الشمال. والاخير يجثم على مصادر الطاقة وثروات الارض ويهيمن على علاقات الانتاج باختراق الشركات ورؤوس الاموال عموم الارض وكل المنتجات والصناعات والاغذية والادوية والادوات والمنتجات والمواصلات وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. الخ هل ينفع معه ما تبقى لدينا نحن من فضلات ايديولوجية ومن احزاب دينية ومن استعراضات فارغة ومن شعارات طنانة ومن مؤتمرات قومية؟ هل تنفع معه هذه الاساليب المضحكة التي يزاولها القادة وتمارسها النخب (المثقفة) وتؤمن بها المجتمعات التي تملأها التناقضات؟ العالم في قبضة المارد اي فكر نتشدق به باستطاعته ان يقاوم هذا المارد الكاسح الذي يبدو انه قابض على انفاس العالم كله؟ اية حقوق مضاعة على مدى مئة سنة يمكنها ان تعود الى قبضتنا ونحن لا ندري كيفية التعامل معه؟ اية اهداف واية امنيات واية احلام كتلك التي آمنا بها يمكن تحقيقها بعد ان ضيعنا طرقنا، وشتتنا جهودنا، وقتلنا مشروعاتنا؟ لماذا تعطلت قدراتنا، وتجمدت عقولنا، واصبحنا لا نفهم الا لغة الشتائم والتخوين والتكفير والكراهية والاحقاد؟ من علّم ملايين الناس هذه الاقانيم السوداء؟ من علمهم الكسل والتواكل والاستسلام للاقدار؟ ان الاتجاهات "المدنية" كانت قد بلورت ذلك قبل "الدينية". ان زمننا هذا قد خُلق للاذكياء والمبدعين الخلاقين والمكتشفين... وليس للاغبياء والكسالى والمقلدين والمرددين والمتكلسين والهائمين والخياليين والمتحجرّين. ان زمننا الذي يمضى نحو الامام سيصبح غير زمننا. وان المكان الذي نعيش فيه سيكون غير مكاننا(...).
المهم، ماذا نفعل اليوم ازاء العالم كله؟ سيكون الجواب حتما مجرد فوضى كلامية، وشعارات سياسية، واستعراضات انشائية، ومواعظ دينية، ومأثورات تاريخية، وخطابات عاطفية، واشعار وجدانية، ومؤتمرات فكرية، وندوات سياسية، واعلاميات تلفزيونية. وكلها لا تنفع ابدا. اننا ان جمعنا كل مقترحات ومشروعات ومطالبات وتظاهرات الدنيا كلها، فهي لا تساوي قلامة ظفر من قرار يوقعه حاكم من الحكام. او قانون تشرعه سلطة عليا. وعليه، فان النخب العليا في اي مجتمع مطالبة بالضغط على الحكومات من اجل التغيير والتبديل في المناهج السياسية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية. وكل ما من شأنه ان يبّدل الدساتير الى مدنية صرفة ويأخذ بالتحولات التاريخية من دون اي طفرة وراثية لا اساس لها من الصحة، ومن دون اي قفزة نوعية واهية، ومن دون أي حرق للمراحل على مستوى الحزب الحاكم. المطلوب تغيير جذري في النهج وانفتاح حقيقي على العصر بعد ان فشلت الاحزاب الايديولوجية والدينية. مطلوب ان نكون واضحين في مقاصدنا واهدافنا ومنهجنا بعيدا عن اللعب بالتناقضات وعن ازدواجية المعايير وعلينا ان نسلك طريق التفكير المدني وفرض القانون واحترام الماضي لا تقديسه بعد الخروج من صوامعه البائسة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |