لعلي من الموقنين بأن الأزمة التي يعيشها العراق الجديد ولنقل أزماته الآنية المختلفة، هي ذات خلفية سياسية بالأساس.. وبلا شك إن المعالجة الموضوعية لأي (مشكل كان) تستوجب معرفة السبب وراء المشكل ذاته.. لاتخاذ تدابير الحل.. كما هوالحال في الطب على سبيل المثال.. فالطبيب لن يتمكن من إعطاء أي علاج من دون معرفة سبب العلة.. ومن هنا أرى إن علة العراق وواحدة من أهم علله وبعبارة أخرى (أكثر يسرا) العلة الأكثر ضرراً على البلاد هي علة ومشكل وأزمة وخلاف سياسي.. سمها كما شئت من دون أن تغفل إنها سياسية.

أصل المشكل ليس وليد اليوم بالمطلق بل هوذوخلفية تاريخية تستمد جذورها منذ عدة قرون سابقة..

حيث إن واقع البلاد منذ ما يقارب الأربعة عشر قرناً مضت ظل فيها العراق تحت مختلف الحكومات غير العراقية (إمبراطوريات، دول، ممالك، وغيرها) ساهمت في تغذية روحية المشكل السياسي التاريخي.. وهنا قد يتبادر للذهن إن وجود حكام وحكومات غير عراقية على ارض العراق، صنعت أزمة قد نسميها (المواطن يحكم من أجنبي) على أساس إن الحكومات لم تكن ممثلة للشعب بل كانت معادية له اغلب الأحيان (وهذا ليس بالخطأ) ولكن المشكل الحقيقي في وجود حكومات غير عراقية كان من خلال (الفجوة بين الحاكم والمحكوم) المتسعة دوماً.. فالعراقي في بلده لم يستطع أن يشارك في رسم مسيرة بلاده وسياساتها (بل بقي لفترات متعاقبة مسيرا لا مخيرا) وهذا السبب انعكس في الثورات والانتفاضات وحالات العصيان التي زخر بها العراق كثيراً على مر العصور.

إن الأصل التاريخي للمشكلة السياسية في البلاد متشعبة ولا احسب إن تدارسها في هذا المحل من الشأن اليسير.. ولكن اليقين والحقائق تؤكد إن المشكل السياسي عميق التأثير وقديم الوجود وتركته لا تزال تحفر في النفسية العراقية.. وحتى لا نطيل بالسرد في الموضوع، احسب إن تناول أصل الأزمة السياسية في عراق اليوم بشيء من الاختصار يفرض علي أن أبين إن أصل المشكلة السياسية في عراق اليوم واحدى دعائمها مع تسليمنا إن المشكل السياسي ليس الوحيد، يعود إلى مرحلة الحكم الفردي الشمولي الذي خيم على العراق طوال حكم (حزب البعث) (المحظور حالياً) بالفترة بين العامين 1968 و2003 حيث عانت المشاركة السياسية في عراق البعث أسوأ مراحلها وأشدها ظلمة.. فحكومة البعث لم تكتف بالتفرد بالسلطة بل قمعت معارضيها بأشد الوسائل قسوة.. واعتمدت نظام الحزب الواحد ثم تطورت نحوالفرد الواحد.. ومن ثم عاش العراق مرة أخرى في مرحلة يفتقد بها المواطن مواطنته من خلال سلب حريته الفكرية خاصة، ومن ثم انتهى مصير معظم الساسة العراقيين المعارضين لفكر وتوجه البعث تحت أتربة المقابر الجماعية وفي غياهب السجون حالكة الظلمة ومرة التعذيب.

انفتاح العراق الجديد على حياة التعددية الحزبية والنظام البرلماني النيابي حمل في ثناياه ايجابيات كبيرة ولكن لم يخل من السلبيات.. ومن البديهي أن نتفهم إن من يقبع في حجرة مظلمة ثم يخرج على أشعة الشمس اللاهبة لن يستطيع النظر وسيغمض عينيه.. وهذا عينه ما حل بالعراق الجديد، فمن حضن الاستبداد والعزلة انطلقت البلاد إلى أوسع فضاءات الحرية والانفتاح.. (أنها تجربة عالمية فريدة بلا شك).

سلبيات الواقع السياسي الجديد تكرست في عدة ظواهر لعل أشدها تأثيراً على الشارع العراقي (حداثة التجربة) فالممارسة السياسية واحدة من معايير النجاح والامتهان.. وعلى الرغم من إن معظم الأحزاب العراقية التي طفت على الشاطئ العراقي الجديد وخاصة المشاركة اليوم في العملية السياسية الجارية.. هي أحزاب ليست بالجديدة بل هي وليدة عقود طويلة ولها تجارب وفيرة بالعمل السياسي المعارض.. ولكن تجاربها لم تكن على أساس التعددية والممارسة الفعلية للسلطة وللعمل السياسي والنيابي، بل جل دورها تمحور في العمل المعارض.. وهنا لنا وقفة.. إن السلوك السياسي المعارض هوبطبيعة الحال ليس السلوك السياسي الممارس والحاكم، وخاصة بالأخذ بنظر الاعتبار إن المعارضة لنظام البعث لم تكن معارضة برلمانية سياسية ايجابية بل كانت معارضة مهاجرة عسكرية احياناً وتتعامل مع احد أكثر الأنظمة العالمية قمعاً واقتصاصاً.. كما إن الواقع الداخلي للمعارضة المهاجرة والمواجهة للأنظمة الدكتاتورية المتجبرة، ليس توافقياً ومنسجماً تحت رأي واحد.. بل على العكس تحتدم الخلافات والآراء المتنوعة والرؤى والطروحات الطوباوية احياناً.. على العكس من جوالممارسة الحقيقية الذي لابد له أن يكون واقعياً وجاداً ومحاوراً وتوافقياً كي ينموويستمر.. وقمعياً تعسفياً كما فعل البعث أبان فترة حكمه السوداوية.

أطراف معارضة الأمس (حكام اليوم)، لم يكونوا بطبيعة الحال يمثلون فكراً وتوجهاً واحداً.. وان كان قاسمهم المشترك هوإيجاد نظام بديل للدكتاتورية في بلادهم إلا إن سبل البديل وسبيل التغير وآلية العمل لم تكن متفقة بل عند البعض لم تكن موجودة اصلاً.. ثم إن الحركات السياسية المعارضة كانت مختلفة التوجهات الفكرية.. ومتفاوتة الشعبية والنفوذ في الشارع العراقي. ومنها الوطني والقومي والديني والعلماني، اليساري واليميني وحتى الوسطي منها.

العراق الجديد فتح بابه على مصراعيه للجميع ولم يستثن احداً.. وشهدت الأشهر الأولى من التغيير السياسي في العراق (منذ 9 نيسان 2003) فتح عدة مقرات حزبية وتجمعات سياسية ولمختلف التوجهات والأفكار.. كما ازدحمت عناوين الصحف على أرصفة بغداد من دون أن تجد أي (مقص رقيب) بل بكامل حريتها.. والعراقيون من هم قاطنون في بلادهم، ومن هم قدموا من الخارج بعد رحلات الغربة الطويلة..عملوا في الكثير من الأنشطة السياسية في رغبة جادة للمشاركة في حكم بلادهم.. ولتعويض حرمانهم الطويل من المشاركة.. فأزمة المشاركة السياسية في البلاد لم تكن وليدة اليوم كما قد يتفهمها البعض.. بل إنها أزمة قديمة كما أسلفت.

مراحل صناعة العراق الجديد سياسياً، منذ تأسيس مجلس الحكم مروراً بالحكومات الانتقالية والمؤقتة ثم الدائمة.. شهدت احتداماً للخلافات ضمن الرغبة لولوج العمل السياسي والمشاركة فيه.. ومن ثم وجدت أزمات سياسية تقع في أعماقها تحت معيار المشاركة.. وبعبارة أخرى هي أزمات من اجل الرغبة في المشاركة والرغبة في توسيع المشاركة، وبشكل أكثر طمعاً بالرغبة في الاستئثار بالسلطة.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com