اليوم الأخير من حياة عبد الكريم قاسم
 

 

حبيب تومي / اوسلو

habeebtomi@yahoo.com

9 شباط 1963 كان آخر يوم من حياة الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، كان اسم هذه الشخصية الكارزمية مصدر حراك الشارع العراقي من شماله الى جنوبه، وكنت شخصياً واحداً من الملايين الذين كانوا مستعدين عفوياً للتضحية والتفاني والذود عن حكم الزعيم عبد الكريم قاسم.

مواقف كثيرة كانت وراء التفاعل والتأييد العفوي الصادق الذي تكنه الجماهير للمرحوم عبد الكريم قاسم، فإضافة الى موقفه الثابت من مناصرة الطبقة الفقيرة، ومنح الحريات في العمل السياسي والصحافة وإطلاق سراح المسجونين السياسيين والسماح بعودة المنفيين وفي مقدمتهم ملا مصطفى البارزاني والبارزانيين المرافقين له من الأتحاد السوفياتي. كان موقفه الثابت من الهوية العراقية، فالرجل مع كل ما يحسب له او عليه كان مناصراً أميناً وثابتاً للانتماء العراقي والهوية العراقية، وكان هذا الموقف على وجه الخصوص يغيض القوى القومية ويثير حفيظتها منها أحزاب سياسية كحزب البعث والضباط الأحرار من العسكريين الذي شاركوه بثورة 14 تموز، الى درجة وصل الأمر بهؤلاء الى تدبير عدة محاولات انقلابية للقضاء عليه.

لم يكن في حكومة قاسم أي ممثل او وزير مسيحي إن كان من الكلدان او السريان او الآشوريين او الأرمن، لكن تعلق هذا الرجل بالهوية العراقية ورفع مكانتها الجليلة على ما سواها من الأنتماءات، كنا نشعر نحن الأقليات بأن حقوقنا مصانة لا خوف عليها، ولهذا كانت الصيغة العمومية لشعبنا هي ألأخلاص والذود عن الحكم الجمهوري.

في الحقيقة تعزز دور الجيش بعد القضاء على الملكية فتزايد دوره في مجريات الحياة فكان من وظائفه الرئيسية ايضاً مهمة تدبير الأنقلابات وقمع الأنتفاضات والتمردات القومية والدينية والأجتماعية مثبتاً قوته وتفوقه الساحق.

وفي مسلسل الوصول الى القصر الجمهوري سلك البعثيون وبمؤازرة الضباط ذوي الميول القومية وقوى قومية أخرى شتى الطرق. لقد كانت محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم واحدة منها.

في الساعة السادسة والنصف مساءً من يوم الأربعاء الموافق 7 / 10 / 1959 انهال على سيارة ( قاسم ) في منطقة رأس القرية وابل من نار الرشاشات والرمانات اثناء مرورها في شارع الرشيد في طريقها من وزارة الدفاع الى حفل الأستقبال في دار البعثة الدبلوماسية لألمانيا الشرقية في الباب الشرقي، قتل السائق وأصيب عبد الكريم قاسم في كتفه الأيسر. اشترك في هذه المحاولة ستة اشخاص اصائل في العملية وهم أياد سعيد ثابت وخالد علي الصالح واحمد طه العزوز وسليم عيسى الزيبق وعبد الحميد مرعي وسمير عزيز النجم وعبد الوهاب الغريري. أما الأعضاء المساندين لهم فهم كل من صدام حسين التكريتي وعبد الكريم الشيخلي وحاتم العزاوي وقد اصيب الأولان بجروح واستطاعا الهروب الى سورية.

حينما فشلت هذه المحاولة بالتخلص من قاسم بدأوا بنسج خيوط محاولة انقلابية اوسع وأشمل.

قبيل 8 شباط 1963 بعدة ايام كان عبد الكريم قاسم قد صرح لجريدة لوموند Le Monde بأنه يكتفي بالنوم لمدة ساعتين او ثلاث ساعات يومياً وهناك الكثير مما يجب عمله، وكانت تبدو عليه علامات القلق والتعب والأرهاق.

كان الأتفاق على صباح يوم الجمعة 14 رمضان الموافق 8 شباط يوم تنفيذ الأنقلاب، باعتبار ان الجمعة هو يوم وجود الضباط في الأجازات وهو يوم الأستراحة، وتكون الشوارع خالية او قليلة المرور.

في حدود الساعة الساعة الثامنة من يوم 8 شباط وصل عبد السلام عارف الى كتيبة الدبابات في ابو غريب وانضم الى العقيد احمد حسن البكر واستقل كلاهما دبابة وضعها تحت تصرفهما امر الكتيبة خالد مكي الهاشمي، فعادت بهما الى بغداد وتوجها الى دار الأذاعة وكان ضباط من حرس الأذاعة مشاركين بالمؤامرة، فسيطروا على الأذاعة وأبنيتها واجهزتها الأذاعية.
في الساعة الثامنة والنصف صباحاً من يوم 8 شباط اغتيل قائد القوة الجوية جلال الأوقاتي حسب الخطة وهذه اللحظة اعتبرت ساعة الصفر، وفي هذه الأثناء قصفت مدرجات معسكر الرشيد لمنع الطيارين الموالين لعبد الكريم قاسم من الطيران.

في الساعة 40 , 9 أذيع بيان رقم واحد الصادر من المجلس الوطني لقيادة الثورة بكلمات مفادها : قضي على ( الطاغية ) و( الخائن المجرم ) عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع، وكان هذا ادعاء مخالف للحقيقة إذ ان عبد الكريم قاسم في هذه الدقيقة كان في بيته، وخرج يشق طريقه وسط الحشود عبر شارع الرشيد وكانت الحشود التي كانت تطالبه بالسلاح وتنشد بإيقاع واحد ( ما كو زعيم ألا كريم ) ونجح في الوصول الى وزارة الدفاع في العاشرة والنصف صباحاً، ورفض الزعيم حتى اللحظة الأخيرة من تسليم السلاح للمدافعين عنه من الجماهير المحتشدة.

في الساعة الحادية عشر والنصف كانت دبابات الأنقلابين تطوق وزارة الدفاع المتحصنة وكانت هذه الدبابات بدأت تحصد بحشود المدافعين والتي دعاها الحزب الشيوعي للدفاع عن قيادة عبد الكريم قاسم.

في الثالثة بعد الظهر بدأت معركة قاسم من مقره في وزارة الدفاع وفي هذه الأثناء اسقطت احدى الطائرات المغيرة على تحصينات عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع.

في الساعة الخامسة والنصف اعلن العقيد نصرت في ادعاء استباقي ان المقاومة توقفت، لكن المعركة كانت مستمرة الى يوم 9 شباط.

يوم 9 شباط ظهراً بعد ان تدهورت الأمور، اتصل عبد الكريم قاسم بعبد السلام عارف في مبنى الأذاعة عن طريق الهاتف.

قاسم : عبد السلام انتصرتم، وانتهى دوري وأنا أريد ان أرحل خارج العراق حقناً للدماء. أعطوني كلمة شرف.

اجاب عبد السلام : والله يا كريم ليس بيدي بل بيد الأخوان مجلس قيادة الثورة، وهو الذي يقرر لم يبق زعيم اوحد.

قال عبد الكريم : تذكر اني حفظت لك حياتك. وانا قدمتك وغفرت لك كل ما قمت به تجاهي وتجاه البلد.

ـ هذا خارج الموضوع استسلم وسنحاكمك.

قاسم : ماهي شروطكم ؟

ـ تخرج من قاعة الشعب وترفع يديك وتسلم سلاحك وتنزع عنك رتبتك وشارات القيادة.

..............

في الساعة الثانية عشر والنصف من بعد ظهر يوم 9 شباط سلم عبد الكريم قاسم نفسه وكذلك فعل الضباط الذين اختاروا البقاء معه. فأصعد عبد الكريم قاسم وطه الشيخ احمد الى دبابة لوحدهما، وأصعد قاسم الجنابي وفاضل المهداوي وكنعان خليل حداد الى مدرعة واتجه الجميع الى دار الأذاعة.

عند الساعة الواحدة والدقيقة الثلاثين من بعد ظهر السبت 9 شباط اقتيد هو والمهداوي وطه وكنعان الى استوديو التلفزيون، وبلغوا بقرار المجلس الوطني لقيادة الثورة بأعدامهم رمياً بالرصاص واعتبرت المناقشة بينهم بمثابة محاكمة، وعند تنفيذ الأعدام رفضوا وضع عصابة على اعينهم.

في منتصف الليلة التي قضي على حياة عبد الكريم قاسم، نقلت جثته الى منطقة معامل الآجر الواقعة بين بغداد وبعقوبة، وحفرت له حفرة ووضع فيها ببزته العسكرية وأخفيت معالم الحفرة أخفاءً تاماً، إلا ان احد العمال شاهد ما جرى فاستعان برفاق له ليحملوا الجثة ويدفنوها في موضع ما بين المجمعات السكنية العمالية في المنطقة.

إلا ان الأمر لم يبق سراً فبلغ الأمر سلطات الأمن التي قامت بإلقاء القبض على المشاركين واحالتهم على المحاكم وقضت عليهم بأحكاتم ثقيلة، ثم استخرجت الجثة ووضعت في غرارة اثقلت بكتل من الحديد الصلب، وألقيت من فوق جسر ديالى في نقطة اتصال بغداد ـ سلمان باك.

بذلك كان حظ قاسم من تربة العراق التي احبها اقل بكثير من حظ الحكام الذين قضى عليهم في ثورة 14 تموز 1958، الذي نقلوا فيما بعد الى المقبرة الملكية في بغداد.

الخلاصة التي اود طرحها من وجهة نظري : أن عبد الكريم قاسم لم يتقن اللعبة السياسية، وإن الأخلاص ومحبة الفقراء ليسا ضمانة للحفاظ على الحكم. لم يحاول عبد الكريم قاسم تشكيل حزب سياسي فيه وسطية واعتدال فكان يجذب اليه جماهير كثيرة من المعتدلين وربما من جماهير الحزب الشيوعي او البعثي او من الأكراد، وبقي الناس المخلصون له يطلق عليهم تسمية القاسميين.

سعى الى خلق توازن سلبي بين القوى القومية التي تمثلت في حزب البعث والقوى اليسارية التي تمثلت بالحزب الشيوعي العراقي، ولم يسع الى التوفيق بين الحزبيين لأكمال مسيرة البناء والأعمار، وبدلاً من إخماد هذا الصراع، كان يسكت عليه، وربما يعتقد ان هذا الصراع سيجنبه الخطورة من الطرفين.

وفي الساعات الأخيرة امتنع عن تقديم السلاح للمدافعين عنه وليس في ذلك أية حكمة وليس لهذا الموقف تفسير معقول.

حين احتلال مكتبه في وزارة الدفاع عثر على مستندات مفادها ان الرجل كان يوزع راتبه على عوائل فقيرة، ولا اعتقد ان حاكماً في العراق تميز بنزاهة وشفافية عبد الكريم قاسم في المحافظة على اموال الدولة وثروة الشعب.

----------------------------------------------------------

المصادر المعتمدة للمعلومات الواردة في المقال كانت:

1 ـ اوريل دان: العراق في عهد قاسم، نقله الى العربية جرجيس فتح الله المحامي، ج 1، دار نبز 1989 السويد.

2 ـ جرجيس فتح الله المحامي: العراق في عهد قاسم ج2 دار نبز 1989 السويد

3 ـ حنا بطاطو: العراق ك 3 ترجمة عفيف الرزاز ط 1 منشورات فرصاد، ايران 2006

4 ـ سلام عبود: ثقافة العنف في العراق، منشورات الجمل، 2002 م، المانيا

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com