قد يرث الأبناء عن آبائهم الكثير من السجايا والصفات والطبائع والسمات، ولكن أن يتوارثوا المبادئ والأفكار فهذا من النادر القليل، وأبو سلام واحد من هؤلاء، فقد ورث عن والده النفس السمحة الرضية، والوجه البشوش الباسم، والروح الهازئة المرحة، والدعابة اللطيفة المحببة، والصلابة والاندفاع إلى حد الجنون، وتشرب بالمبادئ السامية التي ناضل والده من أجلها وسعى لتحقيقها والذود عنها بروح مفعمة بالتفاؤل ونفس راضية بما تقدر الأقدار.

لقد آمن أبو سلام بالمبادئ الشيوعية منذ نعومة أظفاره، وتشرب بحب الوطن منذ الصبا والشباب، وآمن بإرادة الشعب، وكان لوالده أبلغ الأثر في هذه التربية، وهذه النشأة السليمة، ففي منزلهم تعقد الاجتماعات، وتقام الاحتفاليات الصغيرة في المناسبات الوطنية، بعيدا عن أعين السلطة، فلا عجب أن يكون الابن على سر أبيه، وأن ينهج نهجه، فانتمى لاتحاد الطلبة العام في سن مبكرة، ومارس العمل في صفوف الشبيبة لنشاطه واندفاعه الشديد، وأخذ طريقه إلى الحزب الشيوعي، فكان كثير المؤهلات، ونال شرف العضوية في وقت قياسي لنشاطه الدائب وحرصه الشديد على تنفيذ ما يناط به من مهام ، ويكلف بواجبات، وأخذ سهمه من النضال والذود عن كرامة الوطن وشرف المبادئ، وأندفع بروح جهادية عالية لا يتسرب إليها الخوف ، ولا ينالها الوهن، فيصبح علما بين ألأعلام الكثيرة التي ترفرف في سماء القاسم المناضلة، وكان مثلا أعلى لأقرانه وأنداده في حسن السيرة ونقاء السريرة، والاجتهاد في كل ما أوكل إليه من مهام، فتراه قائدا وليس بقائد، وزعيما وليس بزعيم، فتجمع حوله الكثير من الشبيبة والطلبة ممن أعجبوا بمزاياه الرائعة، وتأثروا بأفكاره السديدة، فكان طريقهم لولوج باب الحزب الضيق تلك الأيام، عندما كان يتوخى النوعية في الاختيار ويخضع رفاقه للتجارب حتى يصقلهم النضال وتعركهم الأيام ليأخذوا طريقهم لنيل شرف العضوية، وعندما أصبح معلما كان مثالا للمعلم الجاد الملتزم، فأعطى الكثير من وقته لعمله، والأكثر لمهامه النضالية، ويزاوج بين الاثنين فلا يتحيف جانبا على جانب، وكان له النشاط المتميز في نقابة المعلمين، والدور المشهود في التظاهر والمسيرات، ولصق المنشورات وتوزيعه، والروح الاقتحامية التي لا يأخذ الخوف طريقه إليها في أحلك الظروف، مما أدى به أن يكون الزبون الدائم لدوائر الأمن، والهدف الأمثل لرقابتهم، فكانوا يحصون عليه أنفاسه وتحركاته، ولكنه بما عرف عنه من قدرة على المناورة والمراوغة يستطيع الإفلات منهم والتخلص من رقابتهم ليؤدي ما عليه من واجبات وما يوكل له من مهام، فيؤدي دوره على أحسن ما يكون الأداء، وكان في أوائل المعتقلين عندما يلصق منشور على عمود، أو يوزع بيان في شارع، فما أسرع ما يداهم الأمن منزله ليكون في أوائل المعتقلين، لذلك كان فراشه مهيئا لينتقل من سكنه المؤقت إلى سكنه الدائم في سجون النظام وأقبيته وزنازينه العفنة.

وكان لوالده السيد الجليل ، والخطيب الحسيني المعروف أثره الكبير في هذا الاندفاع، فقد أعفاه من مسؤولية الأسرة، وما تتطلبه العائلة، فكان حصنه الحصين في ساعات الشدة والرخاء، وما أن يعتقل حتى يرتدي لباسه المحترم ويتمنطق حزامه الأخضر وينطلق لمتابعة أمره بما يمتلك من مهابة واحترام وتقدير، لمركزه الديني وشكله المهيب ووجهه المنير المنبئ عن ورعه وتقواه ، فيكون سبيله للخروج من سجنه.

وبعد أن ضاقت عليه المسالك ورأى في بقائه في القاسم مصدر خطر عليه ارتأى الابتعاد عن الأضواء والانتقال إلى مدينة الحلة والخروج عن دائرة الضوء وأعين السلطة التي تحصي عليه حركاته وسكناته، ليضيع في عباب المدينة الكبيرة، ولكن الأقدار  لا تألوا جهدها في دفعه لمصيره المقرر، فكانت انتفاضة آذار الباسلة التي أنتفض فيها الشعب بمختلف قواه الوطنية، فطاف على خياله طائف أخيه الشهيد الرفيق صاحب الذي تناولناه في حلقة سابقة، وأطياف الأحبة من رفاقه الذين غيبهم النظام الدكتاتوري المهان، فأنبعث ما كان خزينا في داخله ليطرح بكل المخاوف وما تتطلبه مسئولية الأسرة من تحرز، فيشارك باندفاعه المعروفة، فقد آن  الأوان للانطلاق ومواجهة الحكم الدكتاتوري الأهوج، فكان في أوائل المناضلين الذين لعبوا دورا مشرفا في الانتفاضة الشعبية الباسلة، ويؤدي واجبه الوطني على أحسن ما يكون الأداء، فها هو اليوم الذي أنتظره كثيرا وآن له أن يوفي بما في ذمته من دين لشعبه وحزبه، فأندفع بتلك الروح الاقتحامية التي تحملت الكثير في سنوات القهر والاستبداد، وتفشل الانتفاضة لعوامل كثيرة أهمها رغبة الإمبريالية العالمية بإبقاء النظام، ومحاولة البعض تجييرها لصالحهم والاستفادة منها في تمرير مخططاتهم، فأنقض أزلام السلطة العفنة للانتقام ممن بقي من رجال الانتفاضة الشجعان، وكان أبو سلام ممن قبض عليهم، وغابت آثاره في دهاليز وأزقة الأمن العفنة، وبعد سقوط النظام الجائر عثر على جثمانه في مقابر المحاويل الجماعية، وأقيم له العزاء بحضور رفاقه النجباء وأصدقائه الأوفياء، وقيادة الحزب في بابل.

 فأبكيك يا أبا سلام أخا ورفيقا ومربيا ومناضلا باسل، فنم قرير العين فها هو ولدك الدكتور (سلام) شعلة وضاءة على الدرب الذي سرت عليه واستشهدت من أجله، وستبقى في الذاكرة ما بقي حزبك العتيد خالدا في ضمير رفاقك وزملائك وأصدقائك، يستلهمون العزم في نضالهم العتيد لبناء وطن حر وشعب سعيد.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com