أثارت قصيدة المجرشة المشهورة الكثير من الخلافات والأجتهادات بين المعنيين بالأدب الشعبي ودارسيه، ونسبت إلى أكثر من شاعر وشاعرة، وظلت مثار نقاشات تثار بين فترة وأخرى، ولتسليط الضوء على هذه الاختلافات، لابد لنا من استعراض كل ما قيل أو كتب عنه، وطرح الآراء المختلفة، للخروج برأي حوله، بعد أن ذهب من نسبت أليهم إلى العالم الآخر، وأصبحوا ملكا للتاريخ.وقد لا تدخل في هذه النتائج المجاملات المعروفة بين المتعاصرين، أو يكون للأغراض أثر في الحكم، لانعدام العلائق بين المتخاصمين وصاحب الرأي، لذلك سيكون الرأي المجرد وراء ما سنخرج به من نتائج.

  وتكمن أهمية المجرشة في كونها عالجت هموم المرأة العراقية العاملة بصورة خاصة، ومعانات العاملين العراقيين بصورة عامة، وتقع القصيدة في مائة وخمسين بيت، وترجمت إلى الفارسية، ويقال أنها طبعت في كراس سنة 1924 ، ثم نشرت في جريدتي العراق والكرخ، وأذيعت من دار الإذاعة العراقية، ثم نشرت في دواوين الكرخي المطبوعة، وغناها مطرب العراق الأول محمد القبانجي، وتناقلتها الإذاعات العربية على أنها للملا عبود الكرخي، وطبعت على أسطوانات بيعت على نطاق واسع.

  ورغم ذلك فقد أدعاها الكثيرون، ونسبت إلى شعراء آخرين، وشاعرات مجهولات ، على عادة تلك الأيام في عدم إذاعة أسماء قائلات الشعر لأسباب ليس هنا محلها.فقد:

(1)نسبها المرحوم عبد الكريم العلاف في كتابه الطرب عند العرب المطبوع سنة1945 إلى الملا نور الحاج شبيب، وأكد هذه النسبة المرحوم الشيخ علي الخاقاني في الجزء التاسع من موسوعته فنون الأدب الشعبي وذكر منها 12 مقطع، وأعاد نسبتها لذات الشاعر شيخ المؤرخين الأستاذ عبد الرزاق الحسني في كتابه(الأغاني الشعبية)المطبوع سنة1929 وكذلك نسبها له العلامة الأب (أنستاس ماري الكرملي ) في كتابه(مجموعة الأغاني العامية العراقية)سنة 1933.

(2) ذكر الخاقاني في الجزء (11)من فنون الأدب الشعبي، أنها للشاعر علي بن السيد حيدر الحلي، وأورد منها ثمانية مقاطع.

(3)ذكر الأستاذ عبد الحميد الكنين في العدد الأول من مجلة التراث الشعبي الصادرة سنة 1963 أنه سمع قصيدة المجرشة من الشاعر ناجي الحلاوي، في مجلس ضمه والشاعر معروف الرصافي ومحمد الشاوي وسالم الخيون، في ديوان السيد محمد سعيد مصطفى الخليل سنة 1925 ، ثم طالعها منشورة بأسم الكرخي بعد أن أضاف إليها الكثير من المقاطع.

(4) فيما ذكر الأستاذ عطا رفعت أنها لشاعرة عمارية مجهولة، أضاف الكرخي إليها بعض المقاطع ونشرها بأسمه.

(5)وشكك الأستاذ محمود العبطة بنسبة القصيدة للكرخي، ونسبها إلى امرأة من الديوانية، والعبطة من المعنيين بالتراث الشعبي العراقي بعامة والبغدادي على وجه الخصوص، وله علاقة وثيقة بالكرخي ومن المعاصرين له ورواد مجلسه.

(6)وذكر الأستاذ الشاعر محمد بسيم الذويب في العدد772 الصادر في7/12/1966 من جريدة البلد التي يصدرها المرحوم عبد القادر البراك، أنها لشاعرة مجهولة أنتحلها الكرخي وأضاف إليها ونشرها بأسمه.

(7)نشرت صحيفة (صدى الحقائق) بعددها الصادر بتاريخ3/4/1927 (وردتنا هذه القصيدة من الشاعر المشهور الشيخ حسين الحلي العذاري، الذي نظم قصيدة المجرشة المشهورة وغيرها من القصائد الرنانة).

  أما ما ورد من نسبتها إلى الملا عبود الكرخي:

(1)طبعت في كراس مستقل على ما ذكر حفيده حسين الكرخي سنة 1924، ونشرت في جريدتي العراق والكرخ، ونشرت في  الجزء الأول من ديوانه المطبوع سنة1956.

(2)نشر قسم منها الشيخ على الخاقاني في الجزء التاسع من موسوعة فنون الأدب الشعبي، ونسبها له.

(3)غناها الأستاذ محمد القبانجي من دار الإذاعة وطبعها على أسطوانات، وصرح أكثر من مرة في لقاآت صحفية على أنها للكرخي.

(5)خاطب الشاعر معروف الرصافي الملا عبود الكرخي بقصيدة منشورة في ديوانه ، أشار فيها لقصيدة المجرشة بقوله:

الشعر ما قلت يا عبود فأنح بــــه      مدح الصناديد أو هجو الرعاديد

وصف أنيسة بؤس ذات مجرشة       تقطع الليل فــــي هــــم وتسهيد

(5) أكد الأستاذ حسين الكرخي قريب الشاعر وناشر ديوانه ومتابع آثاره، نسبتها له معتمدا على أسبقية نشرها من قبل الكرخي، نافيا كلما يشير إلى نظمها من قبل سواه.

  أمام هذه الاختلاف في نسبتها إلى الكرخي  أو غيره، نبين الحقائق التالية في محاولة أثبات أن الكرخي قد بارى هذه القصيدة، وأنها ليست من ابتكاره، وقد أخذ مطلعها ومقاطع منه، فنسج على غراره، ونسبها لنفسه لأنها من الشعر المجهول القائل، والمتداول بين الناس في تلك الفترة، وأن نشرها بأسمه وأذاعتها من دار الإذاعة وغناءها من قبل الأستاذ القبانجي، أثبت نسبتها إليه، لأن المبتكر الأول كان مجهولا أو غير معروف، وكانت قصيدته تداولها الناس شفاه، وبذلك يكون للكرخي الأسبقية في  نشرها في الصحف، رغم عدم ابتكاره له، فقد قدم لها عند نشرها في جريدة الكرخ بعددها العاشر الصادر بتاريخ21/3/1927 (هذه هي القصيدة الذائعة الصيت التي تحدث بها الركبان، وقد رأى الشاعر الكرخي أن يباريها منفعة للقراء وإرضاء، لما حوته من الفكاهات وحسن النظم والسبك)وهذا دليل على أن القصيدة الأصلية ليست للكرخي، ولها شهرة واسعة في الأوساط الأدبية، رغم مجهولية  الشاعر الأصلي.

 كما ذكر في العدد(11) من ذات الجريدة(لقد التبس الأمر على البعض من القراء، فظنوا أن قصيدة المجرشة المنشورة في الأسبوع الماضي ليست للكرخي، ولإظهار الحقيقة، أنها من نظم الكرخي سوى المطلع وبيتين أوليين) وهذا يفند ما ذكره حسين حاتم الكرخي أنها نشرت في كراس مستقل سنة 1924، لعدم تداول مثل هذا الكراس، أو وجوده لدى المعنيين بالأدب الشعبي، واعتراف بأن الكرخي مسبوق به، وأنه جاراها أو باراها ونظم على غرارها بعد اقتباسه لمطلعها ومقاطع منه، ولماذا أثيرت حول هذه القصيدة هذه الآراء ولم تثار حول قصائده الأخرى لو لم يكن للأمر شيء من الحقيقة.

  وقد نسب المرحوم عبد الرزاق الحسني في كتابه الأغاني الشعبية المطبوع سنة 1929 القصيدة إلى الملا نور الحاج شبيب، فلماذا لم يعترض الكرخي، وهو المطلع على كل ما ينشر من كتب حول الشعر الشعبي على وجه الخصوص، ولو لم يكن الأمر صحيحا لأثار الدنيا ولم يقعدها بما عرف عنه كثرة الخصومات، وإثارة المعارك مع الأدباء والشعراء والصحفيين، ووصول الأمر إلى القضاء، كما حدث مع شاعر العرب الأكبر ألجواهري  عندما  دخل في محاكمات طويلة مع الكرخي والمرحوم نوري ثابت بسبب تهجمهم على أسرة ألجواهري ، وصدور الحكم بتغريمهم مبلغا من المال.

  وقد نشرت جريدة صدى الحقائق بعددها الصادر في 3/4/1927 قصيدة للشاعر المشهور حسين الحلي العذاري  وقدمته على أنه(صاحب قصيدة المجرشة المشهورة، وغيرها من القصائد الرنانة) ولو كانت المجرشة من ابتكارات الكرخي لما سكت عن هذا التقديم، وهو المطلع على ما يصدر من صحف بغداد بحكم اشتغاله بالصحافة لأعوام طويلة.وعندما نشر المرحوم العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي  كتابه(مجموعة الأغاني العامية العراقية) سنة 1933 ونسب المجرشة إلى نور الحاج شبيب، لم يعترض الكرخي على هذه النسبة، رغم كونه من أصحاب الكرملي والمواظبين على حضور مجلسه واللصيقين به.

  وقد نشر الكرخي المجرشة مرات متعددة ، فقد نشرها في جريدة الكرخ في 21/7/1927 ب (26) مقطع، ثم أعاد نشرها في ذات الجريدة بتاريخ3/6/1929 بعد أن أضاف إليها وجعلها(51) مقطع ثم نشرها في ديوانه ب (74) مقطع، وتوجد الكثير من الاختلافات بين الطبعات المتعددة بعدد المقاطع والنصوص، مما يدل على أنه يعاود التغيير والتبديل والإضافة عندما ينشرها مجددا.

 ولو طالعنا القصيدة بعيدا عن الرأي المسبق، لخرجنا بنتيجة مفادها أن المجرشة يمكن اعتبارها لون من ألوان الشعر بما لها من خصوصية بعيدة عن المألوف فيما سبقها من شعر، مما دفع الآخرين لمجاراتها والنسج على منواله، ولنا في ذلك دليل في (الميمر) الذي نظم على غراره الكثير من الشعراء، واستعانوا بمطلعه في قصائدهم، وبدئوا بمطلعه المعروف:عالميمر وعالميمر وعالميمر       بيض النواهي على سميجه حدر

وكذلك التجليبة التي نظم الشعراء مبارين لمطلعها الأول:

أجلبنك يليلي أثنعش تجليبه   تنام ألمسعده وتگول مد ريبه

أو ألموليه(ياعين موليتين يا عين موليه) و(أهنا يمن جنه وجنت) وغيرها من القصائد المبتكرة الخالدة في الموروث الشعبي العراقي، مما يؤكد أن الكرخي قد نظم على غرار القصيدة الأم، وتابعه الآخرين في هذا النظم، ولو تتبعنا ما نشر على غرار المجرشة لتوفر لدينا ديوان كبير، وكذلك الألوان الأخرى، لذلك يمكن اعتبار الكرخي تابعا لغيره في هذا وليس متبوعا أو مبتكر، كما يحاول تأكيده المغالين بشاعرية الكرخي، والأمر الثاني لغة القصيدة، فلو قارنا بين المفردات الواردة في قصيدة الكرخي لوجدنا الكثير الذي يثبت نسبتها إليه، وقد كتبها بطريقته المعروفة التي يستعين بها بالكلام الفصيح، أو إدخال المفردات الأجنبية، وأسلوبه المتميز في الربط بين بيتين متتاليين كقوله:

ساعة وأكسر المجر شــــه       وأصعد على الطور "الجبل

سينا"وأناجي مـــــثل مــــا       ناجاه موسى وأنذهـــــــــل

وأشجيله همي وسوء حظي      جرحي خزن واندمـــــــــل

باللي جرحــــــها ألمهجتي        لابــــد أن يداويهــــــــــــا

فالبيت الأول لا يكتمل معناه ألا بإضافة(سينا )التي في أول البيت الثاني، وكذلك نهاية البيت الثالث التي ربطها بالكلمة الأولى من نهاية المقطع لتكون (والأمل باللي جرحها ألمهجتي)، وما يؤكد أن بعض المقاطع ليست من نظم الكرخي، وجود الكثير من المفردات الفراتية البحتة التي لا توجد في أشعار الكرخي، وما فيها من عمق لا يتوفر في قصائده المتسمة بالبساطة والمباشرة والسطحية والافتقار للمعاني الموحية ، واستعماله لمترادفات فصيحة لا يستعملها شعراء الفرات الشعبيين، والمقطع التالي لا يمكن نسبته للكرخي لابتعاده عن روحية الكرخي، وبروز الكثير من السمات الفراتية فيه، مما يدل على أن الكرخي أقتبسه من القصيدة الأصلية دون الإشارة أليه:

ساعة وكسر المجرشة             وأنعــــــل أبو لسواها

أشجم سفينة بالبحــــــر            يمشي بعكسها أهواها

أيصير أظلن يا خلـگ             متگابله أنه وياهــــــا

كلما يجيرها النــــــذل             بحيلي أنـــــــه أبريها

***

ساعة وكـــــسر المجر شه       بحرگه وأشد حزامي

وأركض وره ألذبها الوكت       وأنشد على جسامي

لام عطب بالجمجه يغرف        وآنه الگطب جدامي

عشره يشاركها برحــــــل        وحده مطــي ينطيها

ولو أردنا الاسترسال في أيراد المقاطع التي تثبت فراتيتها لطال بنا المطال ، ناهيك عن  النكهة النسائية الواضحة على سياق القصيدة، مما يجعلنا نميل إلى الرأي القائل بأن قائلتها امرأة فراتية أضناها العمل، لوجود الكثير من المقاطع التي تشير إلى معاناة المرأة العاملة، وأن وصف هذه المعاناة بهذه الحرارة والمصداقية لا يمكن صدوره عن رجل مهما كانت قدرته الشعرية، ولم نجد في شعرنا الشعبي من تقمص صورة امرأة وكتب  عن معاناته، لوجود الكثير من المعايير الاجتماعية الرادعة عن سلوك هذا السبيل،  مما يجعلنا نرجح أن هذه المقاطع مما ضمنه قصيدته بعد أن استعارها من القصيدة الأصلية:

ساعة وأكســر المجر شه       وأنعل أبو اليجرش بعد

حظي يهل الـــــوادم نزل       والجايفه حظها گعــــــد

سلمت أمــــــري وسكتت        للي وعدني بهــــا الوعد

                نصبر على الدنيه غصب        للحـــــــــــــــــد ونباريها    اللحد:القبر

ساعة وكســـر المجر شه        وأنعل أبو راعي الجرش

گعدت يد اده أم البخــــت        خلخالها يــــــدوي ويدش

وآني ستادي لــــــو زعل        يمعش شعر راسي معش

هم هاي دنيــه وتنگــضي       وحساب أكـــــــــو تاليها

  لذلك يمكن القول، وبدون تردد أن الكرخي قد أقتبس المطلع وبعض المقاطع من القصيدة الأصلية، ونظم على غراره باستلهام المعاني المعبرة عن معانات العاملات في المجار ش تلك الأيام، وأنه أستطاع مجاراة الحالة النفسية فجاءت قصيدته تعبر عن بعض من هذه المعانات ، وواضب على إضافة مقاطع أخرى كلما أعاد نشره، لذلك كان أسلوبه مختلفا في مقطع عنه في آخر، ولعله استفاد من قصائد الآخرين في اقتباس الكثير من الألفاظ عندما كتب إضافاته، وعلى ذلك يكون التشكيك ليس في نسبة كامل القصيدة له، وإنما في بعض منه، وأنه ليس المبتكر لهذا النوع من الشعر، فقد سبقه آخرون من شعراء الفرات، ولولا الإطالة لناقشنا القصيدة بصورة مفصلة، وأثبتنا الكثير من الدلالات التي تؤيد ما ذهبنا إليه، ولا يسعني في الختام ألا أيراد المحاورة اللطيفة بين أمير الشعراء أحمد شوقي، ومطرب العراق الأول محمد القبانجي، لما فيها من دلالة على روعة القصيدة وصدق شعوره، فقد ذكر في حوار معه نشرته جريدة المنار البغدادية سنة 1964 قال(طلب شوقي إلي أن أغني له شيئا من الشعر الشعبي العراقي، فقرأت له أبياتا من المجرشة، فما أن أستوعبها حتى جن لسحرها وروعة بلاغتها وأبياته، فطلب المزيد فغنيت:  ساعة وأكسر المجر شه       وأنعل أبو راعي الجرش

          گعدت يداده أم البخــــت       خلخالها يدوي ويــــــدش

 فمال علي الرجل العظيم، بعد أن فهم المعنى وقال(ده عتاب شريف مع ربنا يا محمد)

 وخلاصة ما أريد الوصول إليه أن قصيدة المجرشة فراتية بحتة أن لم تكن (حلية) خالصة، وأن الشعراء الذين جاروها أو باروها ومنهم الكرخي، لم يكونوا مبتكرين له، لأنها نابعة عن معاناة حقيقية لم يكن الكرخي قد عاناها في حياته المترفة اللاهية، أضف إلى ذلك أن غرر الشعر الشعبي العراقي وروائعه المختلفة صدرت عن منطقة الفرات الأوسط، المعروفة ببلاغتها الشعرية، على مر العصور والأزمان، وهم المبتكرون للكثير من الألوان الشعرية المعروفة في الأدب الشعبي العراقي.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com