تركمان العراق بين المعادلة العراقية- العراقية والمعادلة العراقية- الدولية

 

 علي توركمن اوغلو

sanaelgerawy@hotmail.com

الجزء الثاني

 لقد اختارت بريطانيا، الجزيرة المتعددة الاعراق والمذاهب، والمنتشية بكأس الانتصار ان تطبق النظام الملكي الدستوري البريطاني على العراق، لاعتقادها بأن ما حققته من انجاز مذهل في الحرب العالمية الاولى ما هو الا انعكاس عسكري لنجاح نموذج ادارتها الخاص والمبني على قيادة العرق الانكليزي ذو النزعة الحربية القومية للاسكتلنديين والايرلنديين والولزيين، ضمن نظام ديمقراطي برلماني ليبرالي صناعي متطور.  

واذا ما نظرنا للامور من الوجهة الانكليزية لاتضح لنا بأنه لم يكن لبريطانيا العظمى خيار اخر غير الذي اختارته، فتقارير الاستخبارات البريطانية عن ضباطها التي زرعتهم في العراق والخليج منذ نهاية القرن التاسع عشر والتي كانت تصنف الفئات العرقية حسب امزجتها وانتمائاتها السياسية تؤكد بما لايدع مكان للشك بأن بدو السنة العرب في صحراء الدليم وسهب الجزيرة وبحكم مزاجهم الحاد ونظامهم العشائري ذو التقاليد العسكرية الصارمة وتوسطهم ارض مابين النهرين هم الاكثر ميلا للاستقلال ضمن اطار خاص، وهم الوحيدون القادرون على قيادة العراق الذي تصورته بريطانيا، وهم الوحيدون الذين يمكنهم تبني الافكار القومية العربية متحالفين مع المثقفين العرب القوميين، وبالتالي يمكن الاعتماد عليهم في تأسيس دولة قومية وفقا للنموذج الاوربي الحديث للدول القومية. وبعبارة اخرى رأت في بدو العرب السنة مثيلا ومشابها للقومية الانكليزية التي نجحت في رحلتها السياسية ابتداءا من توحيد الجزيرة البريطانية وانتهاءا الى تأسيس امبراطورية لاتغيب عنها الشمس .

غير أن بريطانيا العظمى غفلت عن حقيقة تاريخية حينما بدأت في مشروع تأسيس العراق وفقا لنموذجها الناجح، وهي انه لايمكن تعميم تجربة اجتماعية- سياسية لشعب ما على شعب اخر، فالتجارب السياسية للامم انما هي حصيلة لعوامل اجتماعية واقتصادية وتاريخية وجغرافية وفلسفية وعرقية ودينية ونفسية، اي بألأختصار انها نتاج ثقافة بعينها عبر سنوات طويلة من الانصهار والتفاعل . ولما كانت الشعوب تنتمي الى قوميات مختلفة وتسكن في جغرافيات مختلفة وتمر بمراحل تاريخية متباينة وتتدين بأديان ومذاهب مختلفة والى اخره من التجارب البشرية المتعددة، اذن هذا التباين يجعل من تطبيق تجربة سياسية هي في الاساس محصلة لثقافة مختلفة غير قابلة للتطبيق في مجتمع اخر.

ولرب سائل يسأل سؤالا مشروعا الا وهو: لماذا نجحت التجربة البريطانية في الاردن مع بدو الاردن السنة اذن، في حين لم تنجح التجربة مع العراق ؟            

 وبالفعل نجحت التجربة البريطانية في الاردن والتي ابتدأتها مع التجربة العراقية في الوقت نفسه، فجلب لها النظام الملكي الدستوري(الى حد ما) الرخاء والاستقرار والتقدم بحيث اصبحت هذه الدولة قبلة انظار المهاجرين واللاجئين العراقيين في مثال واضح  لسخرية الاقدار . والتجربة البريطانية لم تنجح في الاردن فحسب بل نجحت نجاحا مذهلا مع الملكيات التقليدية غيرالدستورية والاميريات التي انشأت في الجزيرة العربية ودول وامارات الخليج العربي، اذ تحولت تلك البقاع الجرداء الى جنان يهفو اليها قلوب السياح من كل ارجاء العالم، واصبحت شعوبها ترفل في الرخاء مطمئنة الى غدها وغد اجيالها تحت نظام سياسي مستقر.  

غير ان التجربة البريطانية أو لنقل عنها الرؤية البريطانية لم تنجح وبدرجات متفاوتة في العراق ومصر- السودان واليمن.  ولما كانت البدايات الخاطئة تؤدي في أغلب الاحوال الى نهايات خاطئة والبدايات الصحيحة تفضي الى نهايات صحيحة في اكثر الاحيان، كانت البداية الخاطئة في التجارب الثلاثة التي أوردتها تكمن في رأيي الشخصي في ثلاثة اسباب رئيسة تشترك كل منها فيه وبدرجات مختلفة وهي، اولا انعدام التجانس العرقي والديني والمذهبي والجغرافي والثقافي، وثانيا  أمكانية وقابلية التأثر بالعوامل الخارجية (التأثيرات الجيوبوليتكية)، وثالثا الوقوع تحت ضغط وتأثير تركة الماضي!

فبغداد الرشيد لم يكن بأمكانها أن تنسى انها كانت لسنوات طويلة عاصمة العالم الاسلامي المتوسطي للخلافة العباسية، وقبلة انظار المفكرين والعلماء والفنانين، وانها تكفلت بحماية المشرق الاسلامي وكانت رأس حربتها في الشرق الادنى وشمال افريقيا، وكذلك الحال مع قاهرة مصر، عاصمة الخلافة الفاطمية ومركز الاشعاع الفكري والعلمي والفني وزعيمة العالم العربي ورائدة حركة التغيير والثورة العربية والتنوير للسنوات المائتين الاخيرة . لقد كان الثمن الباهض الذي دفعته كل من بغداد والقاهرة لعدم تمكنهما من التخلص من تركات الماضي وبالتالي عدم امكانها التخلص من الالتزامات التاريخية  تورط مصر والعراق في حرب فلسطين 1948، وما نتج عنها من خسارة مادية ومعنوية لمصر بالدرجة الاولى تمخضت في انهيار النموذج الملكي صبيحة اليوم الثالث والعشرون من يوليو تموز 1952، والعراقي  بالدرجة الثانية صبيحة اليوم الرابع عشر من تموز 1958.    

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com