|
(اذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا ان محمدا كان من أعظم عظماء التأريخ فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والاخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التأريخ كله./ المؤرخ المادي ول ديورانت/ قصة الحضارة/ ج 13/ص47/ ترجمة محمد بدران/ دار الجيل بيروت). ليس من السهل البحث عن (محمد) صاحب الرسالة الاسلامية الكبيرة وخاتم مشروع النبوة، وذالك لعدة اعتبارات جوهرية تأريخية وفكرية ودينية ودنيوية ونفسية وعقلية....، فمن الناحية التأريخية ف(محمد) ولد وترعرع في مجتمع لم تكن به مادة التدوين رائجة في سوق الاجتماع العربي آنذاك، مما يضعنا قبال أشكالية حداثة التدوين للشعب العربي وفقدان مادة التورخة الآنية للحدث التاريخي العربي سواء على مستوى الافراد بأعتبار ان ليس هناك تورخة للمواليد الانسانية لدى هذا الاجتماع العربي تشخّص الزمن الذي ولدت به الشخصيات العربية المؤثرة اجتماعيا وتأريخيا وكيفية هذه الولادة، أو على مستوى الاحداث الاجتماعية مما يضطرنا للجوء والاخذ بمادونته الاقلام من خلال النقل الشفهي في بداية الامر حتى استقرار التدوين والعمل به للاجتماع العربي بفضل الدعوة الاسلامية، ولاريب ان مثل هذا التدوين الشفهي في بداية حياة (محمد) سيدخل الكثير من عدم التوثيق والدقة على حياة منقذ ومؤسس العالم العربي والاسلامي فيما بعد ولعدة اسباب تقديسية او غيرها من الاسباب التي تبدو موضوعية مرة وذات نواية مشبوهة مرة اخرى، ولكن وعلى اي حال ستبقى بدايات وبواكير حياة (محمد) قبل البعثة والرسالة مجال جدال واخذ وردّ على المستوى التأريخي والنقلي، كما وانّه سيبقى بعض الغموض يلف البواكير الاولية لحياة اعظم من عرف التأريخ فيما بعد. كذالك ان قلنا انه ليس من السهل فكريا تناول حياة (محمد) الواسعة والمليئة بكل ماهو مثير للتساءل، ف(محمد) المفكر فيه تختلف صورته بين تلك المدرسة وهذه، كما ان (محمدا) في عيون انصاره ومحبيه هو مختلف عن (محمد) في عيون أعدائه ومبغضيه، ف (محمد) الاسلامي هو النموذج الاكمل في عالم الفكر والمعرفة، كما انّه الاكمل في عالم الرسالة والوحي، بخلاف (محمد) الذي انطلق من عمق الصحراء ليحمل سيفا وينطلق بغزوات وحروب ومقاتل كما يصوره الفكر السياسي الغربي الصليبي في القرون الوسطى وما تلاها، كذا القول ان (محمدا) في المدرسة الفكرية عميق وواسع وذو وجوه عدة ف (محمد) الرسول هو مختلف عنه الزوج والاب والصديق كما نّه المقاتل بخلاف الرؤوف الرحيم وكذا الكريم مختلف في شخصيته عن المعلّم والاستاذ والمزكي، وكذا (محمد) المبشّر والمنذر هو مختلف عن الهادي والسراج والمصطفى والمنتخب...........الخ. ولاريب ان هذه الزواية الواسعة لحياة (محمد) الرسول تضيف ابعادا اخرى معقدة لمشاريع البحث عن كل كيانه المحترم، لابل وعن كل انفاسه الشريفة ومارافقها زمانيا ومكانيا من احداث كبيرة او صغيرة لهذه الشخصية الفذة، فنحن هنا أمام تورخة تحاول التعرف على (محمد) نشأة وذوقا ونفسا ومعتقدا وعلما وعقلا وأخلاقا وعبادة وشجاعة ورجولة وزواجا وابوة ورسالة وتبشيرا وانذارا وهداية وحزنا وانسانا وهمّا وألما وحبا......الخ؟. ومثل هذا البحث لايتوقع انه ينجز من خلال اطلالات موجزة بل هو بحاجة - حقا - لجهد بشري فكري تهيئ له الظروف الفكرية والانسانية المناسبة لأنجازه كمشروع فكري يحاول البحث عن (محمد) العظيم في عيون اعدائه ومريديه، اما هنا فنحن نحاول البحث عن العناوين الرئيسة لحياة (محمد) كمداخل من خلالها نطلّ ولو بجزء بسيط على رياض حياة (محمد) العطرة والندية، وأمامنا ثلاث طرق للوصول لهذه المهمة الشاقة لأكتشاف الشخصية المحمدية، او لنقل ان بين ايدينا ثلاث مصادر رئيسية نتمكن من خلالها التعرف على حياة رسول الاسلام (محمد) وهي : أولا : المدونات التأريخية والسيرية لحياة (محمد) ثانيا : المدونات الحديثية (السنة النبوية) التي جمعت لنا الكثير مما كان يقوم به رسول الاسلام (محمد) من أعمال وأقوال وتقارير نبوية. ثالثا : القرءان الكريم ان المدونات التأريخية والسيرية كانت ولم تزل هي المرجع المعتبر لمعرفة حياة الرسول (محمد) وما تخلل هذه الحياة من أحداث كبيرة وصغيرة، منذ النشأة الاولى لولادة (محمد) وحتى آخر انفاسه في هذه الحياة، ولكن وكما هو معروف فقد تصدى الكثير ممن كتبوا في اشكاليات التورخة العربية بالمقال : من ان التاريخ العربي كتب متأخرا عن حياة صاحب الرسالة الاسلامية بسنوات طويلة، مما أدخل الكثير من الشك على الاحداث التي نقلت فيما بعد لحياة الرسالة الاسلامية وصاحبها المعظم، وكذالك عندما نقرر ان السنة النبوية بقت ولمدة طويلة من الزمن الاسلامي مجردة عن التدوين والكتابة - وكان هذا بأمر من الخليفة الاول والثاني - ومتناقلة من خلال المشافهة اللسانية والسمع فحسب الى حين اتخاذ القرار من قبل الاجتماع الاسلامي بتدوين السنة النبوية المحمدية وحفظها في المدونات الكتابية، مما عرّض السنة النبوية لكثير او قليل من الغموض والتشتت، ولكن يذكر بأنّ التشددّ في الاجتماع الاسلامي في حفظ حياة (محمد) واقواله واعماله... كان سببا مباشرا في الحفاظ على هذه السنة النبوية وايصالها للتدوين بكل أمانة ومصداقية مما وفر لنا سنة نبوية منقولة ومحفوظة بكل دقة؟. أما المصدر الثالث فلاريب ان القرءان الكريم هو المصدر الوحيد الذي لم تشوبه اي شائبة او نقص من انّه المصدر الاصدق لحياة (محمد) وعصره الذي تحرك به، وهذا بشهادة كل من اراد البحث في المصادر التأريخية المدونة في عهد (محمد) فالقرءان مازال ولم يزل من أهم المصادر والمراجع التي يمكن الاعتماد عليها بنسبة عالية جدا ومصداقية منقطعة النظير، وذالك بسبب ان العناية التي اولاها المسلمون لحفظ القران الكريم وتدوينه ونقله... لم يشهد مثلها التاريخ الانساني على الاطلاق في الحفظ والتدوين لكتاب آخر، بحيث ان حرفا واحدا من القرءان الكريم (في قوله سبحانه : والّذين يكنزون...) كان مادة لبحوث تاريخية مطولة واشكاليات فكرية وعقائدية عميقة تحاول التأكد من هذا الحرف هل هو قرءاني الاهي او هو بشري مندّس، وهكذا كان القرءان الكريم كتاب ديني عقائدي مقدس قبل ان يكون وثيقة تاريخية مهمة جدا أرخّت لعصر الرسالة الاسلامية بالنسبة للاجتماع الاسلامي مما رشح هذا الكتاب المقدس لأن يكون في المستوى الراقي جدا من المصداقية النقلية، ومعلوم والحال هذه ان الوثيقة القرانية المقدسة قد تناولت حياة (محمد) النفسية والروحية والعقلية والعاطفية والادارية والقتالية والاجتماعية والاسرية.....الخ بعمق وبشيئ من التركيز والسعة مما أدخل التناول القرءاني لحياة (محمد) الى مستوى المدونة الرئيسية لهذه الحياة المليئة بكل ماهو غريب وعظيم وكبير غيّر من مجرى التاريخ الانساني بشكل عميق، وهنا وهنا فحسب يمكننا البحث عن حياة (محمد) الحقيقية والتي لارتوش او منزلقات بشرية فيها والتي تحركت مع كل حرف قرءاني لنجد ان حياة (محمد) مرسومة بشكل لا لبس فيه بين سطور القرءان التي رافقته خطوة بخطوة حتى خروجه من هذه الحياة الدنيوية. نعم يبقى للتورخة والسيرة النبوية بعض الجوانب التي لم يتعرض لها النص القرءاني من حياة (محمد) الانسانية هي المعتمد الثاني والاهم في حياة الشخصية الرسالية المحمدية، كما ان للتورخة ميزات أخرى ليس هنا مجال البحث فيها. (ألانسان محمد) يذكر لنا التأريخ العربي الاسلامي صورتين لولادة (محمد) العظيم، الاولى تعتمد على البعد الاسطوري لولادة غير عادية في العرف الانساني - الاسطورية بمعنى الفوق الطبيعي من طبائع الاشياء في هذا العالم - ف(محمد) يولد ومعه شيئ غريب تحدثنا به كتب السير الاسلامية من خلال ماتناقلته عن أم (محمد) نفسه آمنه بنت وهب والدة (محمد) بالقول :(أن آمنة بنت وهب أم رسول الله أنها أتيت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها : انك قد حملت بسيد هذه الأمة، فاذا وقع الى الارض فقولي : أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى، من أرض الروم../ السيرة النبوية لابن هشام، ج 1، 157ص). أما الصورة الاخرى فهي صورة أكثر طبيعية وميلا الى التقاليد والعادات العربية المألوفة وهي الصورة الادبية للتأريخ العربي الاسلامي - يتناقلها أهل الادب واللغة العربية - ومفادها :(أن النبي ص لما ولد أمر عبد المطلب بجزور فنحرت ودعا رجال قريش وكانت سنتهم في المولود اذا ولد في استقبال الليل كفؤوا عليه قدرا حتى يصبح ففعلوا ذالك بالنبي فأصبحوا وقد انشقت عنه القدر وهو شاخص الى السماء فلما حضرت رجال قريش وطعموا قالوا لعبد المطلب : ماسميت ابنك هذا قال : سميته محمدا قالوا ماهذا من اسماء ابائك قال أردت ان يحمد في السموات والارض./ شرح المفصل/ ابن يعيش النحوي ج 1). الحقيقة يمكن الجمع بين الصورتين لولادة (محمد) لولا ان الصورة الاولى عليها الكثير من علامات الاستفهام التأريخية، ومنها النقل عن أم (محمد) آمنة بنت وهب وبلا سند تأريخي يذكر سوى مقولة ابن هشام (ويزعم) والتي تشير الى عدم ثقة ابن هشام نفسه بالرواية، أما الصورة الاخرى فهي الاقرب للحياة العربية المعاشة آنذاك بالاضافة الى أن أهل اللغة يكونون عادة أكثر دقة بالنقل التأريخي من أهل التواريخ المدونة باعتبار ان اهل اللغة حفاّظ حجة وتتبع لكل مايتصل باللغة العربية بغض النظر عن التأثيرات الايدلوجية للعقيدة الاسلامية على شخصية الرسول (محمد) فهم أهل نظر للسان العربي وقوانينه المنطوقة بعكس أهل التواريخ والسير فانهم من هنا او هناك ينقلون الحدث بكل مايحمل من تشويق تأريخي لاسيما منه التشويق التقديسي الذي يضيف هالة من القدسية على الحدث التاريخي او هالة من التضخيم للحدث التاريخي، ويذكر ايضا ان ولادة (محمد) كانت بعد حادثة الفيل التي تتناقلها العرب شفهيا كما هو عادتهم في ذكر الحوادث والتي ذكرها القرءان الكريم ايضا كحدث معروف ومشهور؟. وعلى أي حال ولد (محمد) في عائلة كريمة في أصول الاجتماع العربي، فله أب وأم ينحدران من الطبقة المتوسطة اقتصاديا والشريفة أخلاقيا، جده لابيه عبد المطلب كان سيد قومه في الشرف والعفة والرأي الحكيم، والده (عبدالله) كما هو معروف ومشهور، وللأسم صبغة توحيدية هذا الاسم (عبدالله) فهو ليس كأسم أخيه من والده (عبد العزى) المكنى بابي لهب، توفي عن ولده محمد وهو حمل وقيل ابن سنة، وبقي محمد في رعاية أمه آمنة التي ارسلته للرضاعة في بادية العرب خوفا عليه من امراض واوبئة المدن المفتوحة دينيا كمكة مركز التجارة والتعبد آنذاك حتى الوقت المعاصر، وعندما وصل (محمد) مرحلة الفطام رجع به أهل البادية لأمه وهم يروون بعض مالهذا الصبي (محمد) من سمات ملفتة للنظر ولاسيما في بعض شؤونه الصحية او النفسية فهو دائم الاطروقة والانعزال الا انه صاحب طلعة مبشرة بالخير كما هي عادة العرب في الفراسة والتفائل بوجوه الاخرين، وتذكر في التاريخ حادثة (شق الصدر) ل (محمد) وهو في بادية العرب (في بادية بني سعد مع مرضعته حليمة بنت ابي ذؤيب). وبقي مع أمه حتى السابعة لتغادره وحيدا يتيما لجده عبد المطلب لتنتقل من هذه الحياة الى الحياة الاخرى، وكان عبد المطلب شخصية بارزة في الاجتماع العربي، اعتنى ب (محمد) بشكل ملفت للنظر فهو يقربه من مجلسه ويتوسم به المستقبل الكبير ولكن سرعان ما وافت المنية أجل عبد المطلب ول (محمد) من العمر ثماني سنين، ليعهد به الى عمه (ابي طالب) اخ ابيه لأمه وابيه، والذي ضم (محمد) الى ابناءه الكثر، وقد اتسمت حياة (محمد) مع عمه ابي طالب بعناية فائقة وحتى مرافقة (محمد) لعمه الحنون في اسفاره القليلة نسبيا للتجارة المتواضعة لأبي طالب، وقد قضى (محمد) جلّ شبابه وبدايات رجولته مع عمه ابي طالب، وفي كنف زوج ابي طالب الذي كان (محمد) يرى بها الأم الثانية له بعد أمه الحقيقية، وقد اغدقت عليه زوج ابي طالب (فاطمة بنت أسد) حنانا ورعاية كبيرة جدا كما يذكر التاريخ ذالك، وبقي (محمد) تحت رعاية عمه حتى تزويجه بالمرأة الاولى لقريش (خديجة) والتي لقبت بالكبرى لعظمتها وشخصيتها القوية، وكانت أمرأة ثرية تزوجها محمد، او تزوجت (محمد) بعد أعجاب متبادل بين الشخصيتين سرعان ماتحوّل الى علاقة قوية، بدأت بالتجارة والعمل لتنتهي بالحب والايمان ل (محمد) وبرسالته الالهية، وبعد رحلة طويلة شكل الثنائي (ابو طالب وخديجة) ركني ارتكاز ل (محمد) عندما أعلن دعوته الرسالية، فأبو طالب كمدافع ومحامي ومناضل من أجل حرية (محمد) ودعوته، وخديجة بما تملك من أموال وحب وحنان وسكن..... ل(محمد) في الايام الاولى الصعبة لدعوته الاسلامية وبعد بضعة عشر سنة من دعوة (محمد) الاسلامية، فقد معها عمه الكافل له وزوجه المؤمنه بكل ماجاء به من رسالة ليجد (محمد) نفسه وحيدا في مكة وبدون ابي طالب وخديجة ومن ثم لتنتقل حياة (محمد) نقلة نوعية ليقرر الهجرة من مكة الى المدينة (يثرب) منزل خؤولة محمد لجده عبد المطلب ولأبيه عبد الله، ويثرب هذه مدينة شبه تجارية وتعدّ المنافس الاول لمكة تجاريا، وصاحبة تنوع بشري وفكري، ففي المدينة كانت هناك طوائف من أهل الكتب السماوية من يهود هاجروا ليثرب على أمل اللقاء برسول آخر الزمان كما يذكر التأريخ والقرءان، كما ان هناك من النصارى (الانصار) المسيحيين وباقي التنوعات الفكرية الاخرى، و موقع يثرب على الطريق التجارية لجزيرة العرب من الشمال لمكة، وواقعها الاداري كان ارقى بقليل من واقع مكة مدينة المقدس العربي، كما ان جغرافيتها الزراعية الهمتها بعض التحضر الاجتماعي والمخالطة التجارية هيئت لها المناخ الواسع لحياة المدن، اما منظومتها السياسية فكانت القبلية فيها تمرّ بحالة ولادة ومخاض للتحول الى الاجتماع العمراني الملكي فكان التفكير قائما بانشاء مملكة صغيرة يتوجّ بها احد قادة هذا الاجتماع كملك على المدينة، وفي هذه الاثناء جاءت دعوة (محمد) ورسالته السماوية لتحرك مجموعة من سكان يثرب للايمان ب(محمد) ورسالته ومن ثمّ دعوته للهجرة لديارهم وقيام نظامه الاسلامي على ربوع يثرب، وفعلا وبقليل من الزمن كانت دولة او نظام (محمد) الاسلامي قد شكل النظام الاداري والسياسي والاقتصادي ليثرب، لينتقل (محمد) من الداعية الى الأمة، وليتحول الى مشاكل البناء والتوحيد لهذه الامة والتي بدأت قوميا لأمة العرب في تحريرهم من السيطرة الاستعمارية لأمبراطوريتي الارض فارس والروم، ثم لتنتقل الى الفتح والتوسع على حسب القانون الدولي آنذاك الذي يجيز التوسع الاستعماري لأمم الارض، وخلال عشر سنوات من نضال (محمد) وأمته قامت الخلافة الاسلامية كأحد أنظمة الحكم العالمية الكبيرة لتأخذ حصتها من الوجود العالمي ليشكل عندها (محمد) معجزة بكل ما لمعنى المعجزة من ضخامة انسانية، فمن يتيم تنتقل كفالته ورعايته من يد ليد، الى رسول ومبشر وصانع أمة لم تزل ندائاتها العقائدية مرعبة للعالم الحضاري المعاصر، ومن فرد مستضعف ومتألم الى أنصار وصحابة ودولة وحضارة وتأثير كبير جدا...الخ؟. انتقل (محمد) من هذه الدنيا وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها سني العمل ومنها سني التعبد ومنها سني النضال والالم ومنها سني البناء والتشييد...، وترك بعد وفاته دعوة اسلامية عقائدية دينية، لها كتاب مقدس سمي (قرءان) بسبب انه من النوع المقروء على الناس اجمعين، يضم بين دفتيه العقيدة الفكرية للمسلمين والمنهاج العملي لحياتهم اليومية والاسرية والفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، واوصى (محمد) قبل وفاته بالخلافة من بعده وادارة شؤون الامة لأخيه في النشأة وابن عمه في النسب ابي طالب، وتلميذه في الرسالة، وزوج ابنته المدللة فاطمة وأب ابنيه الرساليين الحسن والحسين، علي ابن ابي طالب كأمام وخليفة من بعده، وبعدها دفن في المدينة التي احتضنته من قبل. (الرسول محمد) قد يتسأل الكثير عن حياة (محمد) ورسالته الاسلامية وما الذي اضافته من جديد للأنسانية في هذا العالم؟. كما انه قد يتسأل البعض الاخر عن صورتين لحياة (محمد) باعتبارهما صورتي جدل ونقاش، الاولى صورة (محمد) المناضل والمقاتل والمجاهد؟. والصورة الاخرى صورته الرسالية والتي تؤسس لصورة (محمد) الرؤوف الرحيم صاحب الرحمة المهداة، وانه (رحمة للعالمين) مامعناها الفكري؟. الحقيقة ان السؤال وبهذه الصيغة الاولية :(ما الجديد الذي أتى به محمد؟.) ينم عن غفلة كبيرة بما جاء به (محمد) من رسالة، كما انه سؤال يظهر مدى غفلة السائل وعدم ادراكه لفلسفة الاديان والنبوات في هذه الارض الانسانية؟. ولنفترض جدلا ان السائل يتسأل وهو مؤمن بالاديان السماوية والرسالات النبوية، ويهدف الى معرفة الاضافة الالهية التي اضافها الاسلام للاديان الاخرى، ومن هنا يحق التسأل عن الجديد الذي جاء به (محمد) ليضيفه الى باقي اديان العالم الانساني، فما الجديد الذي جاء به (محمد) ليبشربه العالم الانساني؟. وبمعنى آخر هل جاء (محمد) بالتبشير بالجنة والنار - مثلا -، فالجنة والنار مبشر بها من قبل؟. أم جاء بالاخلاق والاحسان للفقراء والمحتاجين فالاديان السابقة قد دعت لمثل هذه الاخلاقيات الانسانية؟. وكذا باقي تعاليم (محمد) ورسالته ما الشيئ الجديد الذي جاء به (محمد) لم يكن موجودا في باقي الاديان السابقة ليكون له الميزة على باقي الاديان الاخرى والرسالات السماوية المغايرة؟. عندما يطرح مثل هذا السؤال بين يدي الرسالة الاسلامية لتجيب هي نفسها عن هذه الاشكالية باعتبارها دعوة (محمد) الناطقة، فان للرسالة الاسلامية رؤية حول موضوع :(الجديد والتجديد) في فلسفة النبوة والوحي، فالمدرسة الاسلامية ومبدأيا لاترى لمفهوم (الجديد) اي منطق رسالي، واذا ما أخذنا الجديد بمعنى الاضافة الغير مسبوقة فأن الفكر الاسلامي الديني يرى ان هذه الاضافة قريبة لمفهوم (البدعة) وليس لمفهوم (التجديد) والمعترف به أسلاميا، فالجديد بمعناه الابداعي ليس له اي أساس في فلسفة الفكر الاسلامي حول النبوة والوحي، وانما ما له أساس ومرتكز هو القول : ان فلسفة الوحي والنبوة في الدعوة المحمدية ترى ان للاجتماع الانساني أصولا وقوانينا تتحكم بحركة هذا الاجتماع البشري، وقد ارسل الله الرسل برسالات وشرائع تحافظ على الانسجام القائم بين حركة الاجتماع الانساني وتلك الاصول والقوانين المؤسسة لهذا الوجود الاجتماعي، وعندما تشذ الحركة الاجتماعية العامة عن أصول (العدالة والتوحيد والاتصال بالسماء....الخ) يرسل الله رسولا جديدا ليذكر الاجتماع الانساني بضرورة العودة الى تلك الاصول الربانية، وليضخ روحا جديدة من التجديد لروح الاجتماع الانساني ويحثها على العودة الطوعية لاصول الدين الواحدة والغير مختلفة لكل الاديان السماوية الالهية، وهكذا كانت الرسالة السماوية وبعنوانها الكبير هي عملية يقوم بها نبي او رسول من قبل الله سبحانه ليذكر ويدعوا ويبشر وينذر الاجتماع الانساني بضرورة العودة الى الله؟. وهذه العودة هي ليست عملية ارتداد الى الخلف الاجتماعي بقدر ماهي رجوع الى منظومة القيم السليمة لأسس الاجتماع الانساني، وهذه القيم بطبيعتها صالحة لكل زمان ومكان لحياة البشر، فمفهوم مثل العدالة كأساس من أسس الاجتماع الانساني لايحده زمان ولايبلى بتغير المكان وانما هو أصل لقيام اي اجتماع سليم يريد ان يؤسس ويبني وجوده على اساس الحقوق والواجبات لكل افراد الاجتماع الانساني، وكذا التوحيد في الرؤية الاسلامية لعملية التجديد الرسالي، وكذا حرارة الاتصال الايماني بالله لأنشاء ضمير انساني متقد وحساّس بالاخرين....، فكل ذالك يعتبر من مبادئ الرسالات السماوية كلها والتي تدخل في عملية ادامة التجديد لها بين كل فترة واخرى حسب الرؤية الاسلامية لمفهوم التجديد، ولذالك جاء هذا المفهوم بهذه الصيغة أسلاميا :(ان الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها/ محمد رسول الله)اخرجه ابو داوود في سننه.؟. ومن هنا يكون السؤال عن الجديد الذي جاء به (محمد) سؤال غافل عن فلسفة الدعوات الدينية بشكل عام وعلى طول التاريخ، فليس هناك جديد في الاديان السماوية، وانما هناك (تجديد) لدعوة واحدة لكل الانبياء عندما ينحرف الاجتماع عن اصوله الاجتماعية التي توفر له الديمومة في المسير يبعث الله سبحانه من يعيد حركة الاجتماع الانساني الى الاصول الدينية العامة وفي كل الاديان؟. أما ان كان السؤال حول الجديد الذي ينبغي ان يأتي به (محمد) للانسانية باعتبار ان عملية التجديد تلك لابد لها من فلسفة خاصة تكون الدعوة الرسالية التالية متممة للدعوة الدينية السابقة، فان مثل هذه الرؤى هي الاقرب للصواب عندما يسأل عن ماهية الفلسفة التي تكون من خلالها حركة النبوة متجددة لكل عصر وزمان حتى وصولها الى الرسالة الخاتمة التي لاحاجة لرسالة بعدها، فهنا يكون السؤال بهذه الصيغة :(ماهي فلسفة التجديد الرسالية؟. ولماذا ختمت الرسالة والنبوة بالاسلام او وبصورة اخرى ما الذي نسخه الاسلام من بقايا الاديان السابقة وما الذي اضافه للحياة الانسانية؟). ان الدعوة المحمدية الاسلامية وبهذا المعنى من التجديد الرسالي وهبت للانسانية بعدين اساسيين في الحياة الاجتماعية الانسانية : الاول : بعد يتمثل بتحرير الانسان من عبودية العقيدة الدينية المنتهية صلاحيتها اللاهوتية. ثانيا : بعد الانفتاح على الاخر الانساني والقبول به وجوديا او بمعنى مبدأ حوار الحضارات. في الفكر الاسلامي حقيقة فكرية بارزة للعيان يجدها كل متأمل في الرسالة الاسلامية الخاتمة وهي القائلة : ان الاديان السماوية هي دعوة ثورية للتغيير الاجتماعي، ولكنها ومن الجانب الاخر او الوجه الاخر للعملة الدينية هي أغلال وسجون ومعتقلات فكرية ان تحولت هذه الاديان او حرفت الى اداة بايدي المنتفعين من رجال الدين والسلطان لتتحول الفكرة الدينية وعلى ايدي هذه الزمر الطاغوتية الى كوابيس مفزعة، وعندئذ يكون الدين وبهذا المعنى المزيف اكثر من وثن يعبد لغير الله سبحانه، ومعلوم في الاطروحة الاسلامية ان للدين سلطانا ونفوذا كبيرا على عقول الناس ومشاعرهم واحاسيسهم الروحية،وليس من السهل التخلص من اديان الظلام الا بثورة دينية مضادة تحطم اسطورة الاديان المزيفة وتستنقذ الانسان من بين براثنها المميته لتحرر عقله وقلبه ومشاعره من اغلال الاديان المزيفة ومن ثم لتخرجه من الظلمات الى النور بأذن الله سبحانه؟. ان القرءان يحدثنا ان دعوة (محمد) ورسالته السماوية أتت لتحرر الانسان من ظلامية الاديان المنغلقة وعبادة الانا والذات، ولترفع من جانب آخر الاغلال الفكرية والروحية والنفسية التي بنتها تلك الاديان الظلامية :(الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم، فالذين ءامنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون/ 157/ الاعراف). فهنا نحن أمام دعوة او رسالة سماوية تحاول انقاذ الانسان، واخراجه من الظلمات الى النور، كما وانها دعوة تحرير من قيود واغلال الجهل والتخلف الديني المعتقل لطاقة الانسان وحركته النشطة، وهي كذالك دعوة تحطم الخبائث وتفتح الرياح الطيبة وتأمر بالمعروف وتنهى عن كل ماهو منكر؟. ان الفكرة بهذا القالب ستقلب ميزان من يتسأل عن الاضافة الجديدية التي قدمها (محمد) للبشرية، فهنا نحن أمام عملية استطاعت انقاذ البشرية وتحريرهم بشكل فعلي من الاغلال الدينية التي كانت تحطم الانسان بأسم الدين وتشلّ من طاقته وفعله في هذه الحياة و بدون ان تذهب بهم بعيدا عن الحيز الايماني الالهي لعملية الثورة والتحرير، وهذا بعكس من حاول في التأريخ الاوربي الوسيط والمعاصر، عندما اكتشف الاغلال التي وضعها الدين على الطاقة الانسانية ليتحول الدين والتدين الى افيون واغلال وقيود ومعتقلات فكرية، فحاولت بعض الافكار المادية ان تصنع ثورة تحررية من التخلف الديني وماسببته تلك الاديان من ظلمة وألم للانسان، وحقا فعلت عندما حررت الانسان من الاغلال الدينية الكنسية، ولكنها ومع الاسف استبدلت نوعية الاغلال والظلمة بأغلال وظلمات مادية تخبط فيها الانسان حتى وصوله للضياع والقلق، فالانسان بلا دين كالوعاء الفارغ الذي بحاجة الى الايمان والحب، كما ان الانسان بدين تلاعبت به يد الخيانة الانسانية أشبه بدمية لاتجرأ على التحكيم لعقل الانسان ومبادئه الفطرية؟. ومن هنا نفهم عمق الانجاز الذي قدمته دعوة (محمد) الاسلامية ورسالته الخاتمة للانسانية عندما انتفضت لتبشر بثورة تحرر الانسان وتمرده على اديان الخرافة والظلمة والمقدس المزيف، ولتستبدل الانسان بأنسان التوحيد والعدل والعقل والعلم وبناء الحياة حرث الاخرة؟. اما من ناحية البعد الاخر الذي اضافته دعوة (محمد) الاسلامية لعقلية الانسان المسلم ومشاعره وكيانه، فيكفي ان يقال انها هي الدعوة الدينية الوحيدة في العالم الانساني التي اختلفت مع باقي اديان العالم الانساني ولكنها بنفس الوقت اعترفت لهم بوجودهم الحضاري والديني، واعتبرت ان ايمانهم الديني أمر متعلق بحياتهم الشخصية ولايجوز ارغامهم على التنازل عن ايمانهم الديني حتى ان كان هناك اختلاف عقائدي بينه كمنظومة عقائدية دينية توحيدية وبين باقي اديان العالم الانساني الاخرة؟. نحن عندما نقول ان الدعوة الاسلامية المحمدية هي الوحيدة التي بامكانها الادعاء على انها دعوة حوار حضاري فاننا لانفتري على باقي اديان ومعتقدات العالم البشري، وذالك من منطلق ان الدعوة الوحيدة الدينية التي اختلفت مع الاخر الحضاري بدون ان تلغي وجوده كدين هي الفكرة الاسلامية، كما انها الفكرة الوحيدة التي تقبل التعايش مع الاخر الحضاري واحترام معتقده والاعتراف به كدين يجب الاحترام والتوقير له، وهذا - حقيقة - بعكس تماما الاديان المتنافره التي تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة ونفي اي حقيقة لاي دين آخر سواء كان هذا الدين بشريا او الاهيا، ومثل هذه الرؤى التي تمتلكها هذه الاديان المغلقة على ذاتها لايمكن لها ان تدّعي انها تمتلك قواعدا للحوار الحضاري باعتبار انها اساسا لاتؤمن بالاخر كدين فكيف لها ان تدعي حواره واحترام معتقداتها الدينية؟. وهكذا نجد ان الاضافة الاسلامية الاخرى التي اضافتها دعوة (محمد) ورسالته للبشرية هي اضافة أمكانية التعايش مع الاخر الحضاري والاعتراف بوجوده الديني، ومن ثم حواره ودعوته لهذا الحوار الحضاري :(قل ياهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألانعبد الا الله ولانشرك به شيئا ولايتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فأن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون/ 64/ آلعمران). (وقولوا ءامنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون/ 46/ العنكبوت). الحقيقة انه ليس من السهل وجود افكار دينية بهذا الرقي من التحرر والانفتاح على الاخر وديمومة الحياة مع عدم الحرج على الانسان؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |