قرأت الرد الممتع الذي تفضل به الدكتور عبد الجبار الملا صالح، عن ردي على مقال الأخ فيصل عبد الحسن، وقد أسترسل الدكتور في رده وصور أشياء لا تنسجم وطبيعة البحث التاريخي، لذلك سأحاول الاختصار قدر الإمكان في التعقيب على ما ورد في رده القيم، فقد بين في المقدمة أني اعتبرت السيد فيصل يمتلك معلومات سطحية عن العهد الملكي وهذا ما لم أذكره أو أستطيع قوله ، فالفترة المذكورة أخذت مداها في الدرس والتحليل وليس مثل الأخ الفاضل من يغفل عن دراستها أو الإلمام به، إما العواطف وتأثيرها على الإنسان فهذا ما لا يمكن إنكاره، فالعواطف والمصالح وراء الكثير من الكتابات التي تناولت أدوار مختلفة من التاريخ ولا أعتقد أن الدكتور الملا يستطيع مهما أوتي من قوة الحجة والبيان تنزيه العهد الملكي مما علق به من أوضار، وأن الإدعاء بالعصمة لا يتفق ومنهج كتابة التاريخ، والعصمة شيء يستحيل قبوله في الكثير من جوانب الحياة، أما عن قولي أنه ربيب الملكية وصاحب الجاه ، وما ذهب إليه الدكتور من تأويل للكلمة وتحميلها أكثر مما تحمل ، فالربيب سيدي الكريم هو من تربى على نهج وأتخذه سلوكا والبصام ملكي الهوى والرأي والاتجاه لذلك لا يمكن أن تسلبه هذه الصفة، وأما الجاه والمكانة الاجتماعية فلم يكن البصام نكرة في ذلك الزمان بل كان من أركان العهد القديم وصاحب العلاقات المتشعبة برجال السلطة والدليل علاقته المتميزة برأس النظام وواجهته نوري السعيد الذي لمس فيه الإخلاص والوفاء للعهد فأتخذ من داره مخبأ خوفا من عقاب الشعب، وهو ما سنتطرق إليه لاحقا.

أما عن كون الدكتور طبيبا ناجحا أو فاشلا فلسنا هنا في تقويم لمسيرته العلمية أو للترويج له في دعاية مجانية، ولم أطعن في كفاءته المهنية أو منزلته الاجتماعية ولكني قلت أنه على علاقات حميمة بالعهد البائد وهذا ما لا ينكره الدكتور البصام ذاته بل مما يفتخر به فكيف لسيدي الكريم التلاعب بالكلمات وإعطائها أكثر مما تحتمل، وحتى لو كنت أريد ما يريده الدكتور الملا في دفاعه المجيد عنه في تبرير اختفاء السعيد لديه على أنه من الشيم العربية التي عليها السلف في حماية الدخيل وما إلى ذلك من فلماذا لم يختبئ عند غيره لولا العلاقات الوثيقة بينهم وثقته التامة من حمايته له بحكم ما بينهم من أواصر وارتباطات، والعراق فيه مئات الدكاترة والشخصيات البارزة فلماذا الاختفاء لديه دون غيره من الأحبة والخلان والأصدقاء، أما أنه تكلم بخير عن النظام عن قناعة وشعور ذاتي فلا تثريب عليه في ذلك وليس لأحد الحق في منعه أو التشنيع عليه، وللكل الحق بأن تأخذ الوجهة التي تريد، أما عن جدارة هذه الأمور بالنشر من عدمه فليس للدكتور الكريم الحق بكتم الأنفاس وهو الذي يدعوا قبل قليل إلى عدم حجر الآراء، وهذا متروك لهيئة التحرير ومزاج القارئ وليس لذائقة هذا أو ذاك.

 ولكن الدكتور الملا عندما ينحى باللائمة على الآخرين لتحدثهم عن الدكتور البصام، يبيح لنفسه أن يمرغ سمعة شعب كامل ثار ضد ظالميه ويصفه بالغوغائيين، وهي المقولة الخالدة لمحتقري الشعوب من أصحاب الجاه والسطوة والتحكم برقاب العباد، وإلا كيف نحمل قوله(وخلاف ذلك فالدكتور صالح عرض حياته لخطر ما هو على الغوغائيين)فإذا كانت الجموع الزاحفة صبيحة الثورة هم الغوغاء والدهماء والرعاع كما يسميهم كتاب العرائض من توابع السلطان، فأن جميع الثوار على مر العصور هم غوغاء وجهلة، والأرض وما عليها ملك للملوك الذين أختارهم الله وصاروا ملوك الزمان.

أما ما حدث صبيحة الرابع عشر من تموز1958 من انطلاقة شعبية عبرت عن مشاعر الشعب اتجاه حكامه، والشعب هو الأكثرية التي رأت أن تعالج الأمر بما يتطابق وتطلعاتها ومراميه، وما تريده الشعوب هو تعبير عن أجماع اتجاه أقلية سامته العذاب، فليس لأحد الاعتراض على أرادة الشعوب، أما نسب نوري السعيد فالمعروف أنه تركي النسب عراقي السكن، وتركيته لا تضيره لو كان عاملا من أجل البلد الذي أواه وجعله شيئا مذكور، ونسبته لعشيرة القراغول لا تختلف عن نسبة صدام للرسول الكريم، وأما عن قوله أن صباح كان طيارا ماهرا فهذا لا يبرر أو ينفي ارتكابه للأعمال الطائشة التي جعلت الشعب يثأر لأعراضه صبيحة الثورة، ولم يكن الشعب في انتقامه اعتباطيا كما يتصور الدكتور الفاضل ، وإنما أختار الرموز التي كانت وراء الجرائم المرتكبة بحق العراقيين، ومن لمس منهم الأذى عند تسلمهم مقاليد السلطة في العراق، فيما كان للشخصيات المعروفة بنزاهتها ووطنيتها الإجلال والتقدير، ولعل إعدام عبد الكريم قاسم في 8 شباط 1963 وإخفاء جثته من قبل الجلادين خوفا من ردود الأفعال الشعبية خير دليل على التفريق بين حاكم وحاكم، وما ألفته الدكتورة عصمت السعيد عن والد زوجها فهذا لا يعدو أن يكون أراء عاطفية أملتها القرابة ولا يعتد بها في ميزان الدراسة والتاريخ، أما الخلط بين نسبة صباح التركي ونسبة الشيعة الصفويين ، فهذا ليس مجالا للمقارنة ، فصباح شخص واحد صح نسبه، أما الشيعة فهم ملايين من العرب شاءت تخرصات الأفاقين إقحامهم ظلما بهذه التسمية المقيتة التي لا يقرها الواقع ويرفضها التاريخ.

ومقارنة ما حدث للأسرة المالكة بمأساة كربلاء دغدغة للعواطف وأهاجة للمشاعر ليس لها محلها في البحث التاريخي أو الجدل السياسي، وشتان بين الموقفين فالحسين ثائر على طاغية زمانه، والأسرة الملكية حاكمة شاء سوء حظها أن تكون ضحية لتصرفات عبد الإله الشوهاء التي دفعت الضباط المداهمين للقصر على قتلهم دون أن يكون ذلك من تخطيط الثورة، وإذا كان الدكتور الفاضل يعتبر توصيفي لهم بالخيانة كبير، فهو أقل من القليل، فمن باع وطنه للأجنبي وعمل أجيرا لديه أقل ما يطلق عليه كلمة خائن أو عميل، ولم يكن الأمر خلافا في الرأي كما يحاول أن يصوره الكاتب الكريم ولكنه مصير وطن وشعب كامل لا يمكن وضعه موضع مزايدات، وما أثبتته الوقائع من ارتباطات لرجال العهد الملكي بالاستعمار البريطاني لا يمكن لأحد إنكارها إلا لمن أصيب بعمى الألوان.

ومن الظلم أن نرمي كل المآسي التي حدثت في العراق على عاتق ثورة تموز ورجاله، وهذا الرأي لا ينبئ عن وجهة نظر منطقية، وعشوائية في أطلاق الأحكام، فالجرائم التي حدثت عبر العصور والمذابح التي يذكرها التاريخ قبل الثورة هل كانت من أعمال الملائكة الأبرار، أو من تأثيرات الثورة العراقية، ولماذا لا نعزو ما يرتكب من جرائم إلى الأشخاص القائمين به، وهل لنا أن نعزوها إلى ولدي آدم الذين تقاتلا من أجل امرأة، وكان قابيل أول قاتل في التاريخ، وبذلك يكون مسئولا عن جميع الجرائم التي ارتكبت لأنه أوجد سنة القتل، وهل أن التاريخ العالمي يخلو من المذابح ، وتاريخ العراق بالذات حتى نرمي بكل شيء على عاتق ثورة تموز.

إما الصفات التي رأى توفرها في الحاكم فهي خيال محض لا يمكن له الوجود إلا في العقول التي تعيش في عالم الأحلام، ولكن البلاد تحتاج إلى دولة المؤسسات التي تكون الأساس لتسيير أمور الدولة، وأن يكون الحاكم مسئولا أمام شعبه لا أمام ضميره، وليس في دولة يحكمها فرد أو حزب أو أسرة أو قبيلة، وأن حديثه عن فلسفة الحكم الملكي وما قدمه فيصل الأول عام 1932 يفصح عن نوايا لم يكن لها محل من التطبيق، وما جرى يتعارض مع أكثره، فالدولة بدلا من منح الأراضي للفلاحين العاملين في زراعة الأرض منحت آلاف الدونمات إلى شيوخ العشائر المرتبطين بسياسته، وأعطت لهؤلاء صلاحيات أدت إلى تسلطهم على رقاب الفلاحين، وإذا كان الملك لم يجد شعبا في العراق كان عليه استيراد بدو الصحراء من نجد والحجاز ليسكنوا العراق بدلا من أبناءه الأصليين، لأن بدو الصحراء أكثر تقدما ووعيا من أبناء وادي الراقدين.

أما حديثه عن رؤساء الوزارات العراقية الذين تنسموا مقاليد السلطة في العهد الملكي، فلسيدي الكريم أن يبين الانجازات التي قدمت، ويقارن بين المستوى ألمعاشي للمواطن في العهد الملكي وما أصبح عليه في العهد الجمهوري، بعد أن وزعت الأراضي على الفلاحين، وموقف الحكم الملكي من حرية المرأة، وقوانين العمل، وبناء المدارس، والإسكان والأعمار، وقطع الأراضي السكنية الموزعة على المواطنين، والأحلاف العسكرية، والعلاقات مع الشركات النفطية، والمعاهدات المبرمة مع بريطاني، والرفض الشعبي العارم لسياسة السلطة آنذاك، وهيمنة شخصيات وأسر في استحواذ عجيب على مقاليد السلطة إلى غير ذلك من أمور يطول شرحها ويعرفها الكثيرون.

أما قوله" أن النخبة السياسية لا يمكن أن تجتمع على خطأ أو ظلال، فهذا أطلاق يرفضه العقل والمنطق، والنخبة لا تمثل إلا نفسها لأنها لم تأت عن طريق انتخاب نزيه أو اختيار شعبي ، وما هؤلاء إلا شخصيات دفعت بها الأقدار إلى الواجهة لتتسلم المسؤولية، والدليل ما حدث من مظاهرات وانتفاضات وأعتصامات من أطياف الشعب المختلفة التي رفضت هذه الهيمنة فكانت السلطات الحاكمة تواجهها بالحديد والنار وسقط العديد من الشهداء والجرحى، وأمتلات السجون بالمعارضين، فهل هذه هي الديمقراطية التي يتشدق بها البعض في إنكار لجميع حقائق التاريخ، وأن انعزال الحكم تلك الأيام وهيمنة اليسار على الشارع العراقي، مما أدى إلى إسقاطه وإفشال مخططاته في التآمر والتعاون مع الأجنبي، دليل على عزلة النظام وابتعاده عن الشعب، ولسيدي الكريم النظر بعين مفتوحة إلى ارتباطات هؤلاء بالسفارة البريطانية وعلاقاتهم بالأطراف الخارجية، وعند ذلك له أن يقول ما يشاء، في الدفاع عنهم وتبرير أفعالهم، وما انتحار السعدون إلا دليل على مدى ارتباط هؤلاء بالأجنبي ومقولته الشهيرة لا أستطيع أرضاء الشعب أو أرضاء الانكليز دليل واضح على عمالة هؤلاء، وعمق العلاقات التي تربطهم بالمحتلين.

 وينعى أن العسكريين هم الذين استلموا زمام السلطة بعد سقوط الحكم الملكي، متناسيا ان جل وزراء ورؤساء الوزارات الملكية هم من العسكريين، وبقايا الجيش التركي والملتحقين بالشريف حسين بعد احتلال العراق، أما موكب عبد الكريم قاسم وحمايته فأتركها لمن أوتي شيء من الأنصاف ليقول كم عددهم وهل كان يسير بمواكب كما يسير مدير ناحية في الزمان الجديد، ولو كانت الحمايات التي يقولها الدكتور الكريم لما أستطاع نفر من الصبيان أمطار موكبه بالرصاص في محاولة اغتياله المعروفة، ولكن كما يقول المثل الشعبي"أكره وأحكي وحب وأحكي" وأخيرا وليس آخرا فقد كفاني الرد على سيدي الكريم قول الخالق العظيم أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أهلها أذلة، ولو كان الملوك هم خلفاء الله في أرضه لأوصى بهم الكتاب المجيد، وقد رفض الشعب الملكية في الانتخابات الأخيرة وقطع عليها طريق العودة للوثوب على السلطة من جديد.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com