|
انتمى كاظم الجاسم إلى الحزب الشيوعي أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، وربما كان الفلاح الوحيد في لواء الحلة آنذاك، وكما بينا سابقا كان لانحداره الطبقي تأثيره في هذا الانتماء، لذلك ما أن وفد إلى قرية الإبراهيمية (الدبلة) المعلم الشيوعي محمد حسن الوائلي حتى توطدت علاقاته به فكان له تأثيره المباشر على تحديد توجهاته المستقبلية، فتمكن من كسبه للحزب، وأصبح الركيزة الأولى في المنطقة ومن خلاله أخذ التنظيم مدياته في الريف، وبدأ بالأعداد لتشكيل النواتات الأولى في المنطقة، وقد التحق بهم في تلك الفترة من مدينة النجف الشيوعي(أيوب طه ألنجفي )الذي أنكشف أمره هناك وأصبح في عداد المطلوبين ، فكانت قرية البو شناوة الملاذ الآمن له، حيث أصبحت بمرور الزمن الحصن الأمين للمطلوبين، والوكر الحزبي للشيوعيين الذين وجدوا في بيت كاظم الجاسم الملجأ الذي يقيهم من السلطة آنذاك، وبعد أن التأم شمل هؤلاء، بدئوا في التحرك للكسب وإيجاد المرتكزات التنظيمية وسط الريف ، فكان لعلاقات كاظم الجاسم في الوسط ألفلاحي أثرها في بلورة التوجهات الشعبية، فاستغلوا هذه المكانة لبث الوعي في صفوف الفلاحين من خلال الجلسات اليومية في المضيف أو المناسبات الاجتماعية المختلفة، فكانت البدايات الأولى لنشر الوعي تمهيدا لبدء الصفحة الجديدة في الكسب الحزبي التي أتت ثمارها كاملة بعد ثورة الرابع عشر من تموز حيث أستطاع رادة الرعيل الأول بناء الأرضية المناسبة لتقبل الفكر الشيوعي والحصول على مكانة متميزة في التفكير الشعبي ، بما تردهم من أخبار عن نشاطات الحزب المختلفة في سوح النضال، وكانت التجربة الأولى لمعرفة قدرة التحرك ألفلاحي في انتفاضة كانون 1948، حيث مارس الفلاحين نشاطهم الأول في التحرك الجماهيري من خلال مشاركتهم في المظاهرات التي عمت مدينة الحلة لاستنكار المعاهدة والمطالبة بإسقاطها. لقد أستطاع هذا الثلاثي تهيئة الأرض المناسبة للتحرك، ولكن الحركة النشطة لأبي قيود جلبت أنظار رجال الإقطاع وأتباع السلطة، فرصدوا حركاته، رغم المكانة الاجتماعية التي يحتلها في منطقته لما توفرت فيه من صفات محببة جعلته يحضا باحترام الناس ومحبتهم، فقد كان بسيطا متواضعا إلى أقصى درجات التواضع يسلم على الصغير ويحترم الكبير، ويحاول ما وسعه السعي تقديم الخدمة لمن يحتاجه، وقد حدثني من عمل معه أنه كان يتعامل مع الطفل بما يحببه إليه ويجمع لهم ما يتساقط من تمر ليوزعه عليهم على أنه هدية لهم جلبها من أهله، ويقول لهم أنتم الجيل الجديد الذي سيكون على يديه تغيير الواقع، لذلك كان له في نفوسهم المكان المناسب. وقد تفرغ للعمل الحزبي أواسط الأربعينيات، وتميز بنشاطه المؤثر مما جعله هدفا للسلطة آنذاك، ومثار تساؤلات الشرطة السرية التي كثفت من مراقبتها لتحركاته فأضطر للتخفي ، والتحرك بحذر خوفا من وقوعه بأيدي البوليس. وتميزت تلك الفترة بالنهوض الثوري، والتحرك الواسع للحزب بعد أن وجهت له السلطة الملكية العميلة ضربة مباشرة وألقت القبض على قادته، والكثير من كوادره وتمكنت من تعطيل عمل منظماته، وعندما حاول الاستعمار البريطاني تجديد معاهداته واتفاقياته مع الحكومة الملكية مما أثر بشكل كبير على الوضع الاقتصادي للبلاد، فأخذت السلطة تسعى لتقوية نفوذها وأحكام سيطرتها فسعت لتجديد الاتفاقية السابقة وتكبيل العراق باتفاقية جديدة تضمن بقائها وتوسع من ارتباطها بالحليفة بريطاني، لذلك خلقت أجراآت السلطة تذمرا واسعا في الأوساط الشعبية، ومهدت الأرضية المناسبة ليأخذ الفكر اليساري طريقه في مجرى النضال الوطني، وعندما استقالت وزارة أرشد العمري، أصر البريطانيون على إسناد الوزارة إلى نوري السعيد رجلهم الأول في المنطقة، ليمهد الطريق لصالح جبر عميلهم الثاني لتمرير المعاهدة وإحكام الهيمنة البريطانية على العراق، وبعد استقالته أسندت رئاسة الوزارة إلى صالح جبر الذي وضع في سلم أولوياته توقيع المعاهدة وتمريره، فواجهت حكومته معارضة قوية دفعتها لإعلان الأحكام العرفية وإغلاق صحف الأحزاب المعارضة، وأصدر الأحكام بإعدام الضباط الأكراد، ومحاكمة قادة الحزب الشيوعي وإصدار أحكام الإعدام بحقهم، ، وقدم كامل الجادرجي للمحاكمة، وأعتقل عزيز شريف، وبدأت الحكومة تنشط لتمرير معاهدتها بعد ان خيل لها أنها استطاعت لجم الأصوات المعارضة، وتوجه صالح جبر على رأس وفد لتوقيعه، وفي 5 كانون الثاني 1948 خرج طلبة الكليات بمظاهرات عارمة ضد المعاهدة، مما جعل الحكومة تواجهها بالحديد والنار فأصيب بعضهم بجراح وأعتقل آخرين، فحاول صالح جبر تعطيل الدراسة وإحالة الطلبة إلى المحاكم، وسافر الوفد يوم 6 ك2 فأضرب طلبة الكليات والمعاهد، فعمدت قيادة الحزب إلى تشكيل لجنة في العاصمة للأشراف على الحركات الطلابية، وشكلت بالتعاون مع الأحزاب الوطنية لجنة التعاون التي أخذت على عاتقها العمل لقيادة التظاهرات وإفشال المعاهدة، فخرج الطلبة في مظاهرات حاشدة شاركت فيها مختلف الطبقات الشعبية، وزج الحزب بكوادره وأعضائه في آتون المعركة بإيعاز من قيادته التي لا زالت خلف القضبان، وعندما نشر نص المعاهدة في الصحف قوبلت بالرفض والاستنكار فخرجت المظاهرات الصاخبة وهي تهتف بسقوط حكومة صالح جبر، وسقوط المعاهدة، فأصدرت الحكومة أوامرها بمنع التظاهر وإحالة المشاركين إلى المحاكم، لكن الطلاب تحدوا السلطة، وفي يوم 20ك2 تقدم الشيوعي البطل جعفر اللبان ليتصدر التظاهرات ويهتف بسقوط الملكية ومعاهدتها الجائر وسقوط الحكومة في منطقة باب المعظم التي تشهد أكبر تجمع طلابي آنذاك، فردد آلاف المتظاهرين الهتاف لتطوف المظاهرة شوارع بغداد ويشارك فيها الكثير من الطبقات الشعبية من عمال وكسبة وفلاحين، وعندما حاولت الشرطة تفريقه، ظهرن مظاهرات في أماكن أخرى قام خلالها المتظاهرين بمهاجمة مبنى التحقيقات الجنائية، فوجه الشرطة نيران بنادقهم للجموع الطلابية فأستشهد عدد منهم وأصيب آخرين، وكان الحزب الشيوعي قد زج بكل قواه في هذه المظاهرات. وفي اليوم التالي قامت الجماهير بتشييع شهداء المظاهرة، فهاجمتهم الشرطة في داخل المستشفى فأستشهد أحد الطلبة مما دفع أساتذة الكليات والكادر الطبي إلى تقديم استقالتهم، وما أن سمعت الجماهير بهذه الجريمة انطلقت المظاهرات في العاصمة والمدن العراقية من الشمال إلى الجنوب، وما أن شعرت السلطة الحاكمة بأن الأرض بدأت تميد تحت أقدامها حتى سارع البلاط إلى دعوة مجلس النواب والأعيان ورؤساء الأحزاب إلى الاجتماع ليعلن رفض المعاهدة، فقوبل الأمر من الأحزاب البورجوازية بالارتياح ، إلا أن الحزب الشيوعي والأحزاب المتحالفة معه الذين يعرفون طبيعة السلطة ومناوراتها حذروا من التراخي وطالب الحزب باليقظة والحذر، وأن الدولة تحاول امتصاص النقمة الجماهيرية لتمرر المعاهدة مستقبل، وصرح صالح جبر عزمه على تمريرها وعدم الرضوخ لإرادة الجماهير، فانطلقت المظاهرات الشعبية ليصدح شاعر العرب ألجواهري بروائعه التي تلهب الجماهير، ويعتلي المنصة كامل قزانجي داعيا الجماهير للانتفاضة العارمة التي تفشل مخططات الاستعمار، ، وتواصلت المظاهرات في الأيام التالية، فحاولت ألأحزاب البرجوازية إيقاف التظاهرات، إلا أن الجماهير السائرة خلف راية حزبها الشيوعي لم تصغ لهذه النداآت لتموج بغداد بآلاف المتظاهرين الذين لم تخدعهم وعود الحكام الخونة، وشارك الجيش إلى جانب الجماهير، وفي يوم 24 ك2 خرجت المظاهرات الشعبية فحاولت السلطة الملكية من خلال عميلها ضياء جعفر وزير المواصلات إثارة النعرة الطائفية وبث السموم وتوزيع بيانات خالية من التوقيع تعطي للمظاهرة بعدا طائفي، فكانت سيارات الشرطة توزع تلك المناشير الطائفية، إلا أن الجماهير الواعية لم تخدعها هذه المناورة الرخيصة، وواصلت التظاهر، وعندما عاد صالح جبر حاول التلويح باستعمال القوة، إلا أن الجماهير الغاضبة نصبت المتاريس في الشوارع، واخذ الرصاص يلعلع في سماء بغداد، معلنين انتفاضة شعبية عارمة جعلت السلطة تتراجع وتحاول تهدئة الأمور، وحاول صالح جبر الاستقالة إلا أن الانجليز والوصي شجعوه على الصمود ومواجهة الانتفاضة. وفي صباح اليوم التالي 27/ك2 تحركت الجماهير في مختلف أنحاء العاصمة، وخرجت المظاهرات الجماهيرية الحاشدة، وهاجم بعض الغاضبين مراكز الشرطة، فقامت السلطة بالرد عليهم بإطلاق الرصاص وسقط عدد من الشهداء، وأصيب عشرات المتظاهرين، وكان بين الشهداء جعفر ألجواهري، شقيق شاعر العرب الأكبر وقيس الآلوسي، وعمدت قوات الشرطة لاستخدام الأسلحة المتوسطة ونصبها في أسطح البنايات، مما دفع الجماهير الغاضبة إلى مهاجمة جريدة التايمس البغدادية الناطقة باللغة الانكليزية، وإحراق المركز الثقافي البريطاني، وعندما حاولت الجماهير عبور الجسر القديم الذي سمي لاحقا بجسر الشهداء، قامت قوات الشرطة المتمركزة على سطوح البنايات والجوامع بإطلاق النار على المتظاهرين لإعاقة عبورهم الجسر فسقط العديد من الشهداء والجرحى، وتخلخلت المظاهرة بسبب القمع، وتصل الملحمة ذروتها عندما تقدمت الجموع فتاة شابة هازئة بالقوات المهاجمة، فتقدمت الجماهير مما أهاج ثائرتهم فاندفعوا بعزم وحماس شديدين لتلتقي جماهير الكرخ بجماهير الرصافة لقائها التاريخي الذي توج النضال الملحمي للشيوعيين العراقيين، وجسد الوحدة الوطنية ونضالها العتيد، ليفتح الطريق واسعا أمام إسقاط النظام الملكي العميل. وقد حاولت السلطة الملكية استخدام الجيش لقمع المظاهرات، ولكن خشيتهم من انقلاب الجيش عليهم ومشاركته الجماهير انتفاضتها دفعها للتروي، ، فاخذ الأمر مدى أوسع إذ انطلقت المظاهرات في جميع المدن العراقية، الموصل، السليمانية، كركوك، كربلاء النجف ، الحلة، البصرة الناصرية، بعقوبة، وقامت الجماهير بإحراق المكاتب الانكليزية، والاصطدام مع الشرطة، آراء ذلك قام بعض أعضاء مجلس النواب استقالتهم، واستقال وزيري المالية والشؤون الاجتماعية ، فأوعز البلاط إلى صالح جبر لتقديم استقالته، فكلف محمد الصدر بتشكيل وزارة من ذات الطبقة العميلة لرجال العهد المباد، ومنهم وزراء وطنيون مثل الشيخ رضا الشبيبي ورئيس حزب الاستقلال، وضمت رؤساء وزراء ووزراء سابقين، وكان رئيس الوزراء رجل دين لا يفقه في السياسة والإدارة شيئ، وجعله البلاط واجهة لتهدئة الأوضاع، لتملي عليه أرادتها لمعرفتها بإمكانياته وقدراته وجهله بطبيعة العمل الحكومي. وقد زج الحزب منذ بداية الانتفاضة بكل قواه، وأوعز لمنظماته في الألوية اتخاذ الأجراآت اللازمة للمساهمة في الانتفاضة، فعقدت محلية بابل اجتماعات مكثفة للاتفاق على السبل الواجب أتباعها في الإسهام الفاعل في المظاهرات، وكان للقوى الطلابية تأثيرها في العمل الجماهيري إذ كان للحزب ركائزه في الأوساط الطلابية والتعليمية، وقد حدد يوم 27ك2 لخروج تظاهرة كبرى، وتحركت منظمة المدينة لتبليغ الأعضاء والمؤازرين، فيما تحرك الرفيق مجيد الطعمة على منطقة المحاويل، وكان الرفيق محمد حسون ضمن قاطع المسيب، فيما كان الشهيد أبو قيود على الهاشمية والقاسم والجماهير الفلاحية، فتم تهيئة الجماهير للمشاركة في التظاهرة، وعقد اجتماعات جماهيرية في أماكن متعددة من المدينة منها اجتماع في حسينية السنية التي يوجد للشيوعيين ثقل كبير فيها حضره جمع غفير من الفلاحين فألقى الشاعر الشعبي عبد الصاحب عبيد الحلي قصيدة شعبية قوبلت بالهتاف والتصفيق، وألقى السيد محسن العميدي قصيدة لتعبئة الجماهير وكلمات تندد بالمعاهدة، لتنطلق المظاهرة صباح اليوم التالي يتصدرها الرفاق الشيوعيين مطالبين بسقوط الحكومة وإلغاء المعاهدة فخرج طلاب الأقسام الداخلية، بمشاركة واسعة من شغيلة المحافظة وفلاحيها الذين كانت أهازيجهم ترتفع لعنان السماء، وهاجم المتظاهرون مكتب الاستعلامات البريطاني الذي كان يتخذ من عمارة عبد القادر قاضي جبران مكانا له بالقرب من سينما الجمهورية، وكان رأس الهجوم الرفيق كاظم سعيد عبس الذي قام بإضرام النار في المبنى الذي كانت تبث منه السموم الاستعمارية، وتوزع منه الصحف والكتيبات البريطانية، وقد قام البعض من الرجعيين من أتباع حزب الاستقلال بمهاجمة جاسم العنيبي الحلي الأصيل بحجة أنه يهودي وجرح في أماكن متعددة من جسمه، وكان من الشيوعيين فحملته الجماهير الغاضبة ليهتف في الجموع منددا بالاستعمار والمعاهدة، وكان من الناشطين في المظاهرة الرفاق محمد عبد اللطيف وجواد كاظم وأخيه رفيق كاظم وجواد ملا كاظم الرهيمي وفخري مطلوب وموسى نادي علي الطائي الذي أعتقل بعد ذلك وولدت له أخت في الاعتقال أسميت(اعتقال) وهي مقدمة البرنامج المعروف السينما والناس الذي كان يقدم من تلفزيون بغداد واضطرت إلى الهجرة خارج العراق بعد توتر الأجواء السياسية في العراق أبان حكم البعث، وقد حدثت مصادمات مع الشرطة التي هاجمت المظاهرة في محاولة لتفريقها إلا أن الغضب الجماهيري كان كاسحا فأصيب بعض رجال لشرطة وأصيب بعض المتظاهرين، وبعد أن طافت المدينة الشوارع تفرق المتظاهرون، في الأزقة والشوارع الفرعية، وتمكنت السلطة من ألقاء القبض على الناشطين في التظاهرة وصدرت بحقهم أحكام مختلفة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |