|
كل الشموس والأقمار والقناديل تخلف وراءها ظلاما بعد انطفائها، وكل الأحياء تترك السكون والجمود بعد موتها، إلا الحسين، ففي غروب شمسه بكربلاء ان طلق شعاع راح يكبر وينمو حتى أصبح وهجه ينير قلوب المؤمنين ويغمر ربوع الإسلام بضياء الهداية ويغمر طرق التاريخ وأزقته بنعيم الحرية وحب التحدى وشغف الولاء للحق ومقارعة الظلم . لقد ماتت أباطرة وملوك وأسدل التاريخ عليها ستائر الفناء والنسيان، ومحاهم الزمن من دواوينه واقتلعهم الناس من الذاكره، إلا الحسين، فقد كان وما زال موته في (كربلاء) بداية لحياة أزلية حركية فاعله ومؤثرة اتخذت لها موقعا مكينا في وجدان الزمن وحُفرت على جبينه بإحرف من نور، عصي على الفناء، وأمسى لها وجود متواتر في كيان الأمة ومشاعرها، وجود اتخذ طابع العشق المفعم بالولاء، وليس ثمة أقوى من حب تؤطره الطاعة . إنها حياة الحسين التي تضمن موتها حياة إلهية وخلودا بشرياً. ولكن لماذا أحببنا الحسين هكذا بشكل أقوى من العشق وأقل من الجنون؟ أهو النسب من رسول الله أم طبيعة الثورة التي نهض بها ليكتسح بعاصفتها ركام القهر والذل الذي أثقل كاهل الإسلام وصدور المسلمين؟ أم هو الهدف الإنساني الكبير الذي تضمنته الثورة، أم هي التضحيات الجسام التي قدمها في يوم الطف مع أخلص أصحابه وأهل بيته؟ أم هو شيء آخر عصي على فهمنا وإدراكنا ؟ لقد فهم المسلمون – من غير اتباع أهل البيت – الحسين على أنه ابن بنت رسول الله وحسب، فكان حبهم واحترامهم لايتجاوز ما يستحقه إطار هذا النسب، كما فهمه البعض منهم على أنه أحد صحابة رسول الله وفرد من المسلمين ثار على إمام زمانه وقتل بسيف جده وفق ما لفق من حديث : من ثار على إمام زمانه فاقتلوه كائنا من كان . وفهمه كثير من (الشيعة) على أنه عليه السلام إمام معصوم وابن فاطمة التي يحبونها كحبهم لإبيها وأن مقتله قد أحزن النبي وفاطمة وهم يحزنون لحزنهما . لكن ماهو الفهم الحقيقي للحسين ولثورته ولإصراره على الشهادة وسبي نسائه وأطفاله ؟ من أجل أن ندرك ذلك جيدا علينا أن نفهم الحقائق التالية: 1- إن الحسين عليه السلام بشر مثلنا يمشي في الأسواق ويأكل ويشرب كأحدنا، إلا أن الله اختاره لمهمة مكملة لمهام الأنبياء والمرسلين وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وأله، وهو بذلك يتقلد موقعاً ليس بأدنى من موقع أي نبي سبقه، ولذا فإن الفهم الواعي لأتباع الحسين من الشيعة يدرك أن حب الحسين هو حب لله، وأن العلاقة الشرعية بالحسين تتجاوز كونه سبطا للنبي الى ماهو أبعد من ذلك بكثير، إنها العلاقة التي تمتد الى الرغبة الإلهية مرورا بالرسول صلى الله عليه وآله الذي رسم معالم تلك العلاقة وحدد أبعادها لأمته من خلال الأحاديث الكثيرة ومنها ( حسين مني وأنا من حسين) . 2- كان الحسين في حياته قد جسد المباديء الإسلامية بدقة متناهية، شأنه في ذلك شأن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي رفض الخلافة في قضية الشورى بعد مقتل عمر بن الخطاب وفضل أن يجلس في بيته يكابد مشاعر الظلم واستخفاف حفنة منافقة ممن تحايلوا على المسلمين وتولوا أمورهم، وكان في وسعه عليه السلام أن يتحاشى ذلك من خلال قبوله بعرض عبد الرحمن بن عوف في أن يحكم الناس بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين، ثم لايلتزم بسنة غيره وهو يعلم أن مثالب كثيرة في سنة الشيخين، تتعارض والإسلام وسنة النبي، مع ذلك رفض أن يقطع وعدا لمنافق كعبد الرحمن بن عوف ثم لا يلتزم به، وهذا التجسيد الدقيق للعقيدة هو درس بليغ للمسلمين بأهمية الإلتزام بالوعود مع كائنا من كان حتى وأن كان منافقاُ . لقد كان موقف الحسين شبيها الى حد بعيد بموقف أبيه عندما امتنع أن يثور في زمن معاوية لأن عهدا حسنيا سبق وأن قطع لمعاوية عند عملية الصلح، وقد حدثنا التاريخ أن أهل العراق سبق وأن كتبوا للحسين وأغروه بالثورة قبل هلاك معاوية فرفض، لكنه والتزاما منه بعهد الله في التحرك لإنقاذ الأمة عملاً بمسؤليته الشرعية، تحرك بعد هلاك معاوية، وبعد أن أصبح وجود يزيد على رأس الدولة أمرا مخالفا لمواثيق الصلح بين أخيه ومعاوية، وإن هذا التجاوز من قبل الأمويين هو ليس تجاوزا على الإمام الحسين الذي تنص الإتفاقية على أن يتولى أمر المسلمين وليس يزيد، وأنما هو تجاوز على الدين الإسلامي والمباديء الإنسانية والقيم السماوية التي جاء بها، وهو تحد صارخ لكرامة المسلمين بعد أن عبثت بها رغبات معاوية الشيطانية وسلبتها وأصبح المسلمون بعلمائها ومفكريها تبعا لذلك، مجرد رعية لارأي لها، كل ذلك جعل الإمام الحسين يتجه نحو التقيد بمسؤوليته الشرعية بدقة متناهية وهذه المسؤولية تحتم عليه أن يفعل شيئا ينبه الأمة بخطورة ما يحصل من تجاوز رهيب على قيم السماء، ويستنهض مشاعرها التي أصابها الخدر والوهن نتيجة لسياسة معاوية الغارقة في حب الدنيا وزخرفها وشهواتها . 3- لقد كان الحسين عليه السلام مدركا تمام الإدراك بنتيجة ما سيحصل له، وهو في تحركه نحو العراق يعلم جيدا أنه سوف يقتل مع أهل بيته وتسبى عياله، وأن التاريخ يحدثنا أنه عليه السلام قد أخبر الذين حاولوا منعه من الخروج صوب العراق بما سيحل به، وقوله لأخية محمد بن الحنفية عندما اقترح عليه ترك نسائه : شاء ألله أن يراني قتيلا ويراهن سبايا . إن الحسين كان مأمورا بالذهاب الى العراق بمهمة إلهية لايمكن التخلي عنها . إنها مهمة تشبه في أحد فصولها قصة إبراهيم عليه السلام عندما أوحى له الله بذبح إبنه إسماعيل، ولم يتردد النبي إبراهيم في تنفيذ رغبة الله، وإذا كانت الحكمة الإلهية قد ارتأت بقاء إسماعيل حيا ليبقى الدين قائما بوجوده فإن الحكمة الإلهية ذاتها أرتأت أن يكون بقاء الدين حيا وفاعلاً في مقتل الإمام الحسين عليه السلام، وبتلك الطاعة الحسينية للأمر الإلهي يكون الإمام الحسين قد جسد في كربلاء طاعة أكثر صدقا من طاعة إبراهيم وصبرا أكثر عمقا من صبر إسماعيل . إذن هذا هو الحسين، ليس مجرد ثائر قتل في معركة، ولا هو مجرد داعية يدعو الناس الى دين جده، إنه اليد الإلهية التي صفع الله بها خد الأمة فأ يقضها من سكرة كادت أن تعصف بها وترميها في واد سحيق من الذل والهوان والمسخ، وما كان الله يريد لهذه الأمة أن تكون كذلك وقد جعل فيها تحقيق أهدافه من خلقه لبني آدم . ولم يكن ثمة من هو أجدر بتحقيق الرغبة الإلهية من الحسين عليه السلام، ولهذا كان أبو عبدالله خالدا .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |