|
بعد إحكام سيطرة حكومة طالبان الإرهابية على العاصمة الأفغانية (كابل) في أواسط تسعينات القرن الماضي .. قام الإرهابيون بتدمير كل المرافق الحضارية والتاريخية في العاصمة كابول وعموم مدن أفغانستان الأخرى ، ولعل من راقب تلك الفترة عن كثب يتذكر الإحباط الثقافي العالمي عندما شهد العالم عبر شاشات التلفاز تفجير الطالبان لتماثيل بوذا العملاقة التاريخية الشهيرة في جبال أفغانستان .. منظمة الثقافة العالمية (اليونسكو) طالبت آنذاك ، الطالبان بأن يحافظوا على هذا المعلم الحضاري بل عرضوا عليهم أن يشتروه بأي ثمن مادي لوضعه بأي متحف حول العالم حفاظاً على التاريخ .. إلا إن الطالبان فجروه كما حطموا غيره من الصروح الحضارية والمعمارية التاريخية في أفغانستان ، حتى أمست الديار الأفغانية كالجزيرة البدائية التي ليس عليها أي معلم حضاري سوى جبالها وأشجارها والبشر .. ما الداعي وراء تفجير الصروح الحضارية .. وهل تدمير حضارة معينة كان وراءه إنشاء حضارة جديدة على أنقاض ما تحطم ؟ يحدثنا التاريخ إن الكثير من القادة العظام والجيوش الجبارة دمروا واحرقوا مدناً حضارية كبرى .. ولكنهم أقاموا بدلاً عنها مدن على طرازهم المعماري والحضاري و الفكري مما أدخلهم التاريخ ونشر أفكارهم وسياساتهم . وقد أطلق التاريخ على الذين دمروا دون بناء واحرقوا وحطموا صروح الحضارة دون أن يكون لهم حضارة بالبرابرة و الهمجيين و الوحوش البشرية . طالبان عندما حطموا تمثال بوذا على سبيل المثال هل أقاموا في مكانه وعلى أنقاضه مسجداً يذكر به الله (لو افترضنا إن تحطيمهم للتمثال بكونه لا يمثل الإسلام دين الطالبان) أم هل أنهم شيدوا مكانه جامعة للعلم أو نصباً يخلد مرحلة تاريخية ... باختصار لم و لن يقيموا شيئاً بل إنهم يحطمون صروح الحضارة الإنسانية التي تمثل تاريخ البشرية وتطور عصورها البنيوية ليذهبوا مساءاً للنوم بالكهوف المظلمة كأنما يعودون إلى عصور الإنسان البدائي (النياتردال) قبل ألاف السنين . ثم لنعود مرة أخرى لتساؤل هام .. وهو هل وجود اثر غير إسلامي في أي بلد إسلامي يعتبر طعناً للهوية الإسلامية للبلاد ؟ أم يعد فخراً لها في أن تكون بلاداً عتيدة التاريخ الحضاري . إن الآثار التاريخية والصروح الحضارية لا تمثل فقط فخراً تاريخياً ووارداً اقتصادياً واجتماعياً دولياً وخاصة من خلال اقتصاد السياحة ، بل لا ننسى أيضاً إن الحضارة هي المحرك الدائم للمستقبل والسمة النفسية الايجابية على سكان البلدان التاريخية ودافعهم نحو المستقبل . هل الإرهاب يرغب في قطع صلة الحاضر بالماضي .. أم انه يرغب بإقناع من حوله بأفكاره البدائية التي لن تنال القبول إلا إذا طرحت في أجواء العصور البدائية سحيقة القدم واللاحضارية . الإرهاب يستخدم عبارة (الجهاد) ومقاتلة الكفار منذ سنين عديدة , ولكني أقف عاجزاً عن تصنيف تفجير الصروح الحضارية في أي خانة من خانات الجهاد !! هل إن تفجير و إحراق شارع المتنبي (الشارع الذي يعد أقدم سوق وراقيين أي تجار الكتب في العالم) أي إن هذا الشارع رمز من رموز الثقافة البشرية العالمية .. وما الرسالة الجهادية في تفجير معلم من معالم بغداد الجميلة وهو جسر الصرافية الحديدي أقدم جسر عصري في بغداد وواحد من أجمل جسورها معمارياً . إن ضرب مثل هذه الصروح الحضارية وما سبقها من تفجيرات استهدفت المراقد المقدسة وفي عدة مدن , وتفجير وسرقة تماثيل بغداد الشهيرة كما الحال في تمثال عبد المحسن السعدون وتمثال أبو جعفر المنصور والملك فيصل الأول وغيرهم من صروح بغداد الجميلة وقبل كل هذا لابد أن لا ننسى ونعيد ربط الأحداث فأول كارثة تعرضت لها البلاد في مرحلة اللا قانون بعد انهيار حكم البعث الدكتاتوري كانت حادثة نهب المتحف الوطني العراقي أي تراث وحضارة الإنسانية . إن ما يحدث في العراق اليوم على مستوى الحضارة والثقافة هو مسار منظم ومخطط وواضح ويهدف إلى سلخ البلاد عن كل معالمها وصروحها الحضارية .. انه مخطط لإفراغ الحاضر العراقي من خزائنه التاريخية التي عضدت نشوء الفكر العراقي بنيوياً للوصول لفهم التاريخ ولولوج المستقبل بثقة كبيرة ، إلا إن ضرب الصروح الحضارية يحاول فصل الماضي ليخلق ضبابية فكرية هجينة بين الماضي والمستقبل .. وهذه الظروف الهجينة المسمومة لكم تتعايش بصحة مع الإرهاب ، فالضبابية والفراغ تسمح لفكر الإرهاب العفن بالنمو والتقدم .. إما في المجتمعات المفكرة والمستقرة (صحيحة الذهن والجسد كما يقال) فلا لفكر الإرهاب من مكان مطلقاً . الإرهاب يحاول قتل كل ما هو جميل ويستهدف أي متنفس للعائلة العراقية ليزيد في كبتها ويشجعها على ترك البلاد واللجوء للخارج .. لقد شاهدت الكثير من الأفلام العالمية خيالية القصص تتحدث عن فرضية العودة إلى الوراء تاريخياً وكل محاور هذه الأفلام (الهوليودية) هو معرفة كنه معينة أو الوصول لسر حضاري أو لتمجيد رواد الإنسانية وبناة صروحها ، بل حتى لخيال علمي تاريخي .. ولكن لم نرى وازعاً نحو تحطيم الحضارة بهذا الشكل العبثي .. الإرهاب الأعمى اليوم لا يحبذ كشف التاريخ أو العودة به بل يسعى لتمزيقه ومحوه وتفجيره وحرقه لينشروا فكرهم الكهوفي الدموي السادي ويسيروا حفاة وسط القوافر والحفر التي تصنعها نزعاتهم الهمجية .. فعجباً كل العجب على من يسوغ للإرهابيين أعمالهم أو يكنيهم بالمقاومين و المجاهدين أو الجماعات المسلحة محاولاً الاعتراف بهم، وهو يعي بشاعة ممارساتهم ، أو رغبة البعض منح أعمالهم الهمجية قالباً من الشرعية ، وآخر يقترح التصالح معهم وما شاكل .. هل كل هذا الإجرام الذي خرج عن النسق البشري ليتحول هذه المرة لإبادة تاريخية حضارية ثقافية أيضاً .. مبرر عند البعض!!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |