المــــرأة ومسايرة روح العصـــــــر

 

خالص عزمي

al_shaker@maktoob.com

منذ بدء الخليقة، وهي الشريك الازلي والابدي، لا تستقيم الحياة الا بوجودها،هكذا سجل الواقع وهكذا قال الفلاسقة والحكماء، وتغنى الشعراء والمطربون، وتناقل الرواة والمؤرخون . حقيقة لا تدحض ما دام هناك نسل وتوارث . ولكن شيئا في هذا الاثبات يختلف من مكان الى آخر، الا هوالمساواة في الحقوق فما دامت هناك عادات وتقاليد تفرض الهيمنة والتسلط، وتمجد الذكورة، وتزدري الانوثة، فتلك المساواة لن يكتب لها الاستقرار على كفتي ميزان العدل والانصاف الا على ايدي المفكرين والمصلحين الكبار المؤمنين حقيقة بالعدالة، والعاملين بذات الوقت على تثبيت ركائزها وسننها بأداة فاعلة منفذة .

كان العالم الذي نطلق عليه صفة التحضر قد مر ايضا بمراحل من هذا التخلف التسلطي المشبع بالانانية المفرطة، ولكنه استطاع ان يتجاوز هذا التمايز بنبذه الشجاع لكثيرمن التقاليد والعادات والاعراف غير الملائمة للعصر، وذلك عن طريق التخطيط المتوازن في العلاقات ما بين قطبي الوجود الانساني، فتمكن بالتالي من تحقيق النجاح في فرض المساوة عن طريق الاقناع اولا ومن ثم تطبيقها فعليا، بحيث اصبحت المجتمعات واثقة (وتمشيا مع تجاربها وممارساتها الواقعية) من عدم وجود مبرر حقيقي في تغليب فئة الذكور على الاناث الا في بعض الحالات الاستثنائية البايلوجية والجندرية (بمعنى مفهوم الذكر والانثى اجتماعيا) . وحينما استقر الشأن على اسس هذه القاعدة الذهبية، رحنا نرى المرأة وقد تربعت على العروش، وتولت سدة الحكم والوزارة والنيابة، الى جانب اخذها مواقعها (الند للند) في مجالات اشمل كالهندسة والقانون والرياضة والفن والادب والتعليم والزراعة والطب والصناعة والصيدلة والمخترعات الحديثة وغيرها . بعد ان تأكد لتلك المجتمعات ان المساوة تجلب التطور والتقدم، وان اللاعدالة في تلك اللامساواة تجلب التخلف والنكوص، فالمرأة لم تخلق لكي تقبع في عقر دارها لتنجب وتطعم وتربي وحسب؛ ذلك ان الانجاب بحد ذاته دليل ابداعي على خلق صيغة متجددة لمسيرة ا لحياة .

ان ترجيح الذكورية اجتماعيا، معناه خـنق الامكانيات الانثوية ودفنها في قبور العدم، وكم في ذلك من اجحاف للمرأة بل واجحاف للمجتمع في الافادة من كل ذلك الكم والكيف الهائل من القدرات وتعطيل مكنتها وابداعاتها . ان مجتمعاتنا المتخلفة لم تكتف بذلك الاجحاف وحسب، بل زادت عليه في فرض التمايز المذل ووفرض العقوبات المعنوية والجسدية على المرأة واستعمال القسوة المتناهية بالضرب المبرح، ودفن الهوايات، وكبت الرغبات الطبيعية، والتشجيع غير المباشر على ايجاد العلاقات المثلية غير السوية بحجة الحماية من الانزلاق المحرم . ان فرض هذا العقاب الصارم على المرأة دون الرجل، انما هومخالفة صريحة للشرع والاخلاق والعدالة، وان هذا التناقض الفردي في الاحكام، انما هوجزء من تناقض اعم واوسع، انه تناقض بين توقيع دول تلك المجتمعات المتخلفة على وثيقة حقوق الانسان الصادرة عن الامم المتحدة عام 1948 والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع اشكال التمييز ضد المرأة الصادرة عام 1979؛ وبين تكريس وتشجيع كل التقاليد والعادات والممارسات الغارقة في رجعيتها ضد المرأة وحقوقها، بل وضد وجودها وحريتها ككائن حي . ومن هذه النقطة بالذات يمكن تسليط الضوء على مسببات العنف ضد المرأة والذي يعزى في كثير من الاحيان الى الاضطراب النفسي والعقلي والبدني، بينما يهمل الباحثون عناصر خارجية كثيرة اخرى، ومنها ما نلمسه اليوم على سبيل المثال،من ان جل دوافع العنف يعود الى الفوضى الضاربة اطنابها في كل مكان، كالعوز الاقتصادي، والبطالة، وجوالخوف والرعب، وتفكك الاسر، والهجرة القسرية داخلا وخارجا، والاختطاف والاغتصاب والقتل بحجة غسل العار ...الخ فهذه العوامل الاضافية والتي تبرز جلية في العراق اليوم تتعدى العنف الذكوري الى العنف المتبـادل آنيا والمكبوت الى حين،مؤسسة قاعدتها على قانون فيزياوي مشهور (لكل فعل رد فعل مسوله في المقدار ومضاد له في الاتجاه)؛ وفي احيان يكون رد الفعل اقوى في المقدار، حينما يطفح الكيل وتختل المقاييس، ويتغلب مفهوم القوة البدنية على التوازن العقلي.

 لوعدنا بالزمن الى نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات من القرن الماضي لوجدنا ان هذا المجتمع العراقي ذاته، وحينما احسن تعليمه وتهذيبه وتوجيهه وتماسكت ايدي ابنائه من اجل تقدمه ورفعته، بذل جهدا استثنائيا لكي يرتقى بمكانة المرأة الى مصاف ما تستحقه من تقدم ورقي ضمن حقوقها المشروعة. حيث تمسكت منظماته المدنية كافة بدعم مطامحها لكي تأخذ موقعها في النشاطات المهنية والعلمية والفنية والرياضية، وفعلا فقد وصلت المرأة ـ وفي فترة زمنية قصيرة جدا ـ الى مركزرفيع من التقدم كان مضرب المثل ليس على مستوى النطاق المحلي وحسب بل وعلى مستوى منطقة الشرق الاوسط .

ان القاء نظرة واحدة على سجل ذلك التطور المدهش، نجدان المرأة العراقية قد تصدرت، وبكفاءة متميزة، مناصب لم تصلها غيرها في أكثر البلاد العربية، كتلك التي احتلتها في الدبلوماسية والتعليم والفنون والعلوم والاداب والاقتصاد والقانون والاعلام والرياضة ... الخ، وهوما دلل على مدى التطور الذي احرزته المرأة، بعد جهد ونضال كلفها ومن ورائها المجتمع تضحيات جسيمة، خلخلت اثناءها من تلك التقاليد التي كانت عائقا دون ذلك التقدم. لقد انبهر المجتمع العراقي وافتخر وهويرى فتياته الشابات يتقدمن صفوف طلائع التطور العصري، كمعزز برتومديرة مدرسة البارودية وهي تقود سربا من كشافات العراق في شارع الرشيد، ونعمة سلطان وهي تترأس اول نادي باسم (النهضة النسائية)، وبولينا حسون وهي تترأس اول مجلة نسائية باسم (ليلى)، وعفيفة رؤوف وهي تترأس اول جمعية نسوية باسم (جمعية المرأ ة العراقية)، ومديحة سعيد وهي اول من تصعد بكل جرأة خشبة المسرح، وصبيحة الشيخ داود وهي تدخل كلية الحقوق ثم لتتبوء بعدئذ منصب القضاء، وبياتريس اوهانسيان وهي تعزفا ا لبيانووتجوب صالات الدنيا باسم العراق، وفكتوريا نعمان وهي اول مذيعة تعلن من الاذاعة العراقية (هنا بغداد)، ومديحة عمر وهي اول رائدة تشكيلية تعلق لوحاتها في قاعات عالمية، ثم يرى اول سائقة سيارة، واول ضابطة مهنية في الجيش العراقي، واول قائدة طائرة، واول دليلة سياحة واول فارسة، واول سباحة، واول طبيبة، واول ممرضة، واول مهندسة .؛ واول موسيقية ..الخ

ولواردنا تقصي الحقائق وعدنا الى تاريخ كل واحدة من هذه الكوكبة النسائية التي كسرت حاجز الخوف بكل شجاعة وثقة بالنفس، لاكتشفنا ان وراء كل واحدة منهن اسرة شدت من الازر وقوت من العزيمة ووقفت بحزم ضد الظلم والتهريج والتخلف، هذا بالاضافة الى اسناد جاد حقيقي من قبل المجتمع الذي فتح ابواب المستقبل امامهن وناصرهن وشجعهن على مواكبة ابداعات العصر الذي يعشنه وليقدمن صورة مشرفة للمرأة العراقية المثقفة وهي تتقدم صفوف التطور بكل طاقاتها وأمكانياتها .

اما اليوم وبعد خمس سنوات عجاف، فلا نجد امامنا غير انهيارات شتى جرفت من امامها كل ذلك الصبر والجلد والجهاد وسنوات العمل والمثابرة من اجل التطور، لتحل بدلا عنه قسرا صفحة سوداء من الجهل والتراجع المخجل تحت سمع وبصر المجتمع المدني وتحت ظل قوانين رجعية وتعليمات سلطوية فردية لا يمكن لها ان تعيد للمرأة حقا نالته بشق الانفس ولا تمنحها نسمات حرية نظيفة تستنشقها .

وازاء هذا التدهور المريع ونحن نحتفل بيوم المرأة العالمي لسنة 2008، يتوجب على جميع الافراد المؤمنين بمساواة المرأة وكذلك منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية العمل الجاد والحازم في سبيل ايقاف نزيف الدم والاضطهاد اللاأنساني الذي تتعرض له المرأة اولا،وكذلك الاسراع بوضع خطة منهجية واقعية عصرية تتعاون على تنفيذها جميع تلك الاطراف لتمكين المرأة من نيل حقوقها المشروعة طبقا للاعراف والتشريعات والمواثيق الدولية، وفسح المجال امامها لكي تتقدم مجددا وتأخذ موقعها الجدير بها، فتعطي الوطن والانسانية ما يتماشى ومتطلبات وتطور هذا العصر التكنولوجي الفضائي الهائل أسوة بالمتحضرات والرائدات من نساء العالم في كل مكان . 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com