لا... لن يموت العراق ...!

 

د. مراد الصوادقي

alsawadiqi@maktoob.com

الكتابة بمداد اليأس والقنوط وبأقلام الجزع لا تعبر عن حقيقة وطن حضاري له دوره الإنساني البعيد جدا في أعماق الحياة الأرضية. وطن خطى على ترابه البشر في بدء عهده بالدنيا, ومارس أول تأملاته وانطلق بلغته واكتشف الحروف وكتب بها أفكاره, لكي يحافظ على انتقال المعرفة من جيل إلى جيل. لأنه وقف متحديا ومتحيرا أمام سلطة الموت وجبروت الفناء وقرر أن ينازله بسيوف البقاء، وبأدواته التي اخترعها وأبدع في صياغتها لتؤمن له استمرار إرادته وتواصل جيناته الآدمية.

العراق تتشابك في ترابه عروق الحضارات وتبدو على أرضه آثارها وبصمات مسيراتها المتنوعة, بأمواج أجيالها التي مرت عليه كما يمر النهران العظيمان دجلة والفرات منذ الأزل, في رحلة الديمومة الخلاقة والعطاء الحي الأصيل. وستبقى تمر على جسده الأجيال من مختلف الأمم والعصور لكي تساهم في بناء الوجود الأرضي الكبير, لأنها تعجز عن ذلك من غير العراق. وما تمكنت قوة في الأرض إلا وكان العراق أحد أهم أهدافها وأكبر غنائمها الحضارية. ولا يعرف سر ذلك إلا مبدع الأكوان العظيم.

العراق أرادته الأرض أن يكون قلبها وصوتها وشلال تفاعلات خلقها ومعين انطلاقهم إلى رحاب التقدم والمعاصرة الزمنية المتجددة في آفاق الوجود المطلق. سيبقى كذلك, فهذا هو قدره ودوره الذي يعرفه منذ أبعد الأزمان. فما استقر طويلا إلا في زمن بني العباس عندما كانت بغداد مركزا للقوة والحضارة المتألقة والتي استمرت لما يقرب من أربعة قرون متوهجة بالقوة والإبداع والتجدد العالي للفكر والثقافة وجواهر العلوم.

العراق يتوطن بقعة تحيطها أمواج الحضارات العريقة في الشرق والشمال والغرب، وجذب واديه السيول البشرية بكل ما عندها من طاقات، لتؤسس على ترابه ما يمكنها من عناصر الإضافات الجديدة للحياة. وهو في أيامنا هذه يجتذب القدرات من أعلاها ويمسكها ويريد أن يتخلق بها، ويتأكد كقدرة أرضية لا تعرف التأخر والجمود بل تغري قمتها وقوتها بالحضور إليه والتفاعل الحي بين يديه.

العراق مرت عليه الويلات تلو الويلات وحكمت فيه دول ودويلات لكنها ذهبت مع الريح وما يزال كما نعرفه ومثلما يريد . فهل تمكن كسرى من العراق, وهل تمكن الاسكندر المقدوني من العراق؟ لا، لم يتمكن أحد منه بل هو الذي تمكن منهم جميعا, وقد ذهبوا وغابوا ولازال العراق حيا متألقا.

العراق أقوى من الأشخاص والقِوى والأنظمة والأحزاب, ويحطم الكراسي ويردي الأطماع ويطعم الجياع ويسقى العطاشى ويمد الدنيا بالوقود اللازم للحياة والقوة والمقدرة على الغلبة والنماء.

العراق المولود من رحم آلاف السنين يحمل على ظهره  مسيرات المواكب الحضارية العاتية, وتقاتلت على ترابه معظم قِوى الأرض، وعسكرت فيه الأزمنة بمختلف عصورها, وانطلقت منه جحافل الفتوحات والأنوار, وتأسست على أرضه أولى دور المعرفة والعلم والمستشفيات والجامعات.

العراق متأصل في أعماق الاقتدار الأرضي ولا يمكنه أن يفنى ويتفتت، كما يزعم البعض المتأثر بزوابع التضليل والبهتان والتحريف والخسران, والذين تمكن منهم القنوط وأرداهم الانكسار في وديان الغشاوة والسراب, وجعلهم يكتبون عن العراق ويحسبونه بلا إرادة وكأنهم يكتبون عن جثة في مشرحة الطب العدلي.

العراق ليس كما تظنون بأنه سيموت وبأن فلان سيقطع أوصاله وعلان سيحقق مآربه فيه ويتأكد ويتسيد على ترابه. فلا هذا ولا ذاك, لأن منطق العراق واضح ودوره صريح, ولن يتنازل عن منهجه وأخلاقه الحضارية مهما توهم الواهمون. فالعراق يبقى عراقا واحدا موحدا, حتى ولو استمر ما يجري على أرضه لعقود أخرى قادمة. ولن يسمح بالتفريط بشبر واحد من بدنه الذي يضمه إلى قلبه، ويتفاعل بكل ذرات ترابه مع أنوار زمانه وحشود قدرات العقل البشري التي وصلت إلى أقصاها.

فلن تكون للعراق أربعينية, ولن يقرأ أحد الفاتحة عليه, بل أن الجميع سيذهب إلى حيث يذهب البشر، ولن يبقى إلا العراق بنهريه ونخيله وأشجاره الجميلة. ولن تكون للعراق مواكب تشييع، بل سيشيع الجميع ويمضي حيا متوقدا بقدرته على المطاولة والمطاوعة والبقاء.

لأن العراق يكنز أسرار التأريخ ويعمل بقوانينه التي لا يراها المصابون بداء الانفعال والسوداوية والسلبية، والكآبة الشاملة التي تغلف أبصارهم وتستلب عقولهم وتخرجهم من عالم الأنوار المعرفية, وتلقي بهم في وديان انحراف الرؤى وتشوه التصورات ليروا الواقع وفقا لما فيهم . فلا يميزون بين الزوابع الترابية الهابة من هنا وهناك وبين الغيوم المدلهمة التي ستلقي بحملها ويتخلص الفضاء من عتمتها، فتنير الشمس أركانه وتسطع مشرقة في أرجائه. فحطموا أقلامكم اليائسة واسكبوا دواتكم في الرمال ولا تحدثونا بلغة العجز والضياع والخسران, فلن يُغلب العراق, ولن ينتصر إلا العراق, وتلك هي أخلاقه وطبيعة سلوكه الحضاري والتاريخي, ولا تقبل الأرض بشيء سواه. فاسألوا جلجامش ونبوخذ نصر وحمورابي, ونقبوا في أعماق تاريخه وستتأسفون عما تكتبونه عن وطنٍ بحجم العراق.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com