|
لا شك أن الانتخابات الأمريكية، الرئاسية منها والبرلمانية، تنال اهتمام الرأي العام العالمي أكثر من الانتخابات المماثلة في أي بلد آخر، ذلك لأن أمريكا هي الدولة العظمى الوحيدة في عصر العولمة، حيث صار العالم قرية كونية صغيرة، ولسياساتها تأثير كبير على مصالح الشعوب ومصائرها، وبالأخص على قضيتنا العراقية. وهذه المسألة لا يختلف فيها اثنان، ولا يتناطح فيها عنزان!! كما قالت العرب. في مقال له بعنوان (حوار مع الدكتور عبد الخالق حسين، الانتخابات الأمريكية ومشاهدها المرعبة في العراق!) كتب الصديق الدكتور كاظم حبيب رداً على مقال لي بعنوان (لو نجح أوباما)، ذكرت فيه السيناريوهات التي يمكن أن تحصل فيما لو أُنتخِبَ أوباما رئيساً للدولة العظمى ونفذ وعوده الانتخابية، وذكر الأخ الدكتور أموراً كثيرة أتفق مع بعضها وأختلف مع البعض الآخر. كما ومن المؤسف أنه نسَّب لي أقوالاً لم أقلها، سأناقشها لاحقاً. بدءً، أود التأكيد على أن الحوار مفيد، وخاصة مع إنسان مثقف من وزن الدكتور كاظم حبيب، فبالحوار الهادئ والجدل الموضوعي يمكن أن نتوصل إلى الحقيقة. طبعاً ليس عملياً مناقشة كل ما ورد في مقال الأخ الدكتور كاظم، لأنه يؤدي إلى الإطالة وبالتالي إلى ملل القارئ الكريم. يقول الأخ الكاتب: "وبدا لي أن الأخ الدكتور حسين كان في مقالته مرعوباً من تلك المشاهد التي قدمها لنا والتي رسمت في مخيلته أبشع الأمور، أكثر من قلق وخشية كل الشعب العراقي. واستخف بمن يعتبر بأن هذه المشاهد التي يقدمها محض خيال ومن صنع الخيال." انتهى. أولاً، المتوقع من الأخ الكاتب وهو أكاديمي ومفكر عراقي كبير، أن يكون دقيقاً في اختيار مفرداته. فأنا يا أخي لست مرعوباً كما تتصور، بل قلق على مصير العراق فيما لو فاز أوباما ونفذ برنامجه المعلن بترك العراق فوراً ليجعله ساحة تتقاتل فيها المنظمات الإرهابية لتبيد شعبه. وهذا القلق ليس "محض خيال" كما تتصور، بل يشاركني فيه معظم الحريصين على مستقبل العراق وأنت منهم. وهناك أمثلة في تاريخنا الحديث تؤكد تصوراتي، مثل الصومال ولبنان اللذين ما أن تركتهما الولايات المتحدة، حتى واشتعلت فيهما الحروب الأهلية الطاحنة لعقدين من السنين. ونفس السيناريو تكرر في أفغانستان بعد انسحاب القوات السوفيتية، حيث اشتعلت فيه الحروب الأهلية بين منظمات "المجاهدين" أنفسهم وأدى بالتالي إلى بروز حكومة طالبان وبمساعدة باكستان التي تدفع فاتورة أخطائها الآن. فهل هذا السيناريو هو "محض خيال " والذي لو قدر له أن يحصل في العراق لا يثير قلق (ولا نقول رعب) الدكتور كاظم حبيب؟ أشك في ذلك. المشكلة في زماننا هذا أن الذي يقول الحقيقة وخاصة عن أهمية دور أمريكا، يمكن أن يرمى بتهمة الخيانة الكبرى. إذ قد أبدو في هذا الحوار أني أدافع عن أمريكا، لأن في الثقافة السياسية العراقية خاصة، والعربية عامة، تتطلب شروط الغَيرة على الوطنية والقومية والدين، أن تكون معادياً لأمريكا وتشتمها ليل نهار، بغض النظر عن موقفها من مصالح بلدك الآن. فوطنية المواطن تتناسب طردياً مع ما يكيله من شتائم ويضمر من عداء لأمريكا والغرب. ولكن يا ترى، أين أوصلتنا هذه السياسة وهذه الثقافة الموروثة؟ ذكرت مراراً مقارنة بين الحكومات الثورجية التي تبنت سياسة العداء لأمريكا والمزايدة على ثقافة الكراهية لها، مثل حكومة صدام حسين والقذافي، والأسد الأول والأسد الثاني، ونظام الملالي في إيران الإسلامية، مقارنة مع الحكومات الخليجية التي يسمونها بالحكومات الرجعية والعميلة لأنها تبنت سياسة التعاون وتبادل المصالح مع الغرب. فنظام البعث الصدامي، مثلاً، أحال العراق من غابات النخيل الوارفة إلى صحراء قاحلة ومقابر جماعية، بينما نجح حكام الخليج "الرجعيون" في تحويل بلدانهم من صحارى قاحلة إلى جنات وارفة ومدن تنافس في عمرانها أكبر مدن الغرب. وثقافة العداء لأمريكا هي التي أنتجت لنا صدام حسين وأسامة بن لادن وغيرهما من الطغاة وقادة الإرهاب ودعاته. ونتائج هذه الثقافة والسياسة ملموسة الآن، تعيشها شعوبنا منذ عشرات السنين، وليس محض خيال كما تتصور. كان الدكتور حبيب قبل سقوط حكم البعث الفاشي، وربما ما يزال، مع الشعار (لا للحرب ولا للديكتاتورية) وضد أي تقارب مع أمريكا بسبب تاريخها وجرائمها ضد شعوب العالم الثالث أيام الحرب الباردة. فمن ضحايا هذا الصراع خلال الحرب الباردة كانت ثورتنا، ثورة 14 تموز المجيدة ومجيء البعث الفاشي إلى السلطة. نعم معظم الأنظمة الاستبدادية في العالم الثالث، ومنها نظام البعث في العراق، هي من نتاج المخابرات الغربية وأمريكا خاصة، ولكن كان ذلك خلال الصراع بين المعسكرين العملاقين، الشيوعي والرأسمالي إبان الحرب الباردة. وبانتهاء الحرب الباردة، وخاصة بعد جريمة 11 سبتمبر 2001، كل شيء تغيَّر، إذ انقلب السحر على الساحر، حيث انقلبت الأنظمة المستبدة والمنظمات الإرهابية على أمريكا نفسها، وهذا هو مكر التاريخ، ولأول مرة تتطابق مصالح أمريكا مع مصالح الشعوب في نشر الديمقراطية وشن الحرب على الأنظمة المستبدة والإرهاب، فلماذا لن ننتهز هذه الفرصة التاريخية ونتحالف نحن مع أمريكا ونستفيد منها خدمة لقضية شعوبنا؟ وهل التحالف مع أمريكا سبة وعار يجب علينا تجنبه؟ ألم يتحالف أشد غلاة الشيوعية، ستالين مع أمريكا وبريطانيا في الحرب العالمية الثانية عندما رأى بلاده ونظامه مهددين بالغزو النازي الألماني؟ وإذا جاز ذلك لستالين، فلماذا لا يجوز للمعارضة العراقية سابقاً والحكومة حالياً، التحالف مع هاتين الدولتين، أمريكا وبريطانيا، للقضاء على وحش فاشي أشد همجية من نازية هتلر، ألا وهما نظام البعث الصدامي قبل السقوط، والإرهاب البعثي-التكفيري الآن؟ كما لاحظت ومع الأسف الشديد أن الدكتور كاظم نسب لي قولاً لم أقله، وهذا غير مقبول من شخص أكاديمي، المتوقع منه أن يكون حريصاً على انتقاء مفرداته، إذ قال: "ورغم تأكيدات الدكتور حسين بأن الأمريكيين ما جاءوا إلى العراق حباً في النفط , بل حباً في سواد عيون العراقيات والعراقيين لينقذوهم من الدكتاتورية...الخ ". انتهى. أرجو من الدكتور كاظم أن يدلني والقارئ الكريم على مصدر هذا القول وأي مقال لي قلت فيه مثل هذا القول. فأنا دائماً أكرر القول أن السياسة لا تعترف بسواد العيون بل بالمصالح فقط. نغمة سواد العيون يكررها البعض مع الأسف في هجومهم على من يطالب بعلاقة جيدة مع الغرب. أقولها للمرة الألف أن أمريكا جاءت للعراق خدمة لمصالحها، ولكن لأول مرة في التاريخ تلتقي مصالح أمريكا مع مصالح شعبنا، وعليه يجب علينا أن ننسى الماضي ونستفيد من التحول التاريخي في سياسة أمريكا والاستفادة منها لإسقاط الفاشية في العراق. وهذا ما حصل والحمد لله. هذه الحقيقة لا يجهلها الدكتور كاظم حبيب، خاصة وقد ذكر في مقاله الحواري معي ما قلته مراراً وتكراً أن "السياسة لا تعرف صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، بل مصالح دائمة". وعليه لماذا نسجن أنفسنا بماضي أمريكا ونحرم شعوبنا من مساعدتها لنا الآن في إسقاط الأنظمة المستبدة والحرب على الإرهاب؟ يقول الدكتور كاظم: "إن وجود الأمريكيين في العراق لأسباب عدة، ولكن أحد أهم تلك الأسباب النفط الخام العراقي، إضافة إلى القرب من إيران والاستفادة من قوى مجاهدي خلق, والدفاع المبكر عن إسرائيل ...الخ. وهي أمور لا تزال لم تحل تماماً, وبالتالي فالوجود ضروري, بغض النظر عن مسألتين, وهما أي رئيس يصل إلى البيت الأبيض, وأي مقدار من القوات العسكرية سيبقى في العراق." مرة أخرى أطمئن الأخ الدكتور أن هذه الأفكار من بنات أفكاري، ذكرتها مراراً وتكراً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قلت في مقال لي عن الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، لخصتها بأربعة ثوابت: (أولاً، الدفاع عن أمن وسلامة إسرائيل، ثانياً، الدفاع عن أمن وسلامة الدول الخليجية، ثالثاً، ضمان تدفق النفط إلى الغرب، ورابعاً وأخيراً، منع أية دولة عدا إسرائيل من امتلاك السلاح النووي أو أي سلاح الدمار الشامل). لذا أعيد القول مرة أخرى، أن أمريكا أسقطت حكومة صدام لا لسواد عيوننا، ولا للاستيلاء على نفط العراق ومصادرته أو شرائه بسعر بخس كما يطبل كتاب اليسار الطفولي وأيتام صدام، إذ قامت أمريكا بإسقاط نظام طالبان في أفغانستان ولم يكن أي أثر للنفط في هذا البلد. كما وكررت القول في مقالات عديدة لي على أهمية ضمان تدفق النفط للغرب وليس الاستيلاء عليه. ولكن الدكتور كاظم، سامحه الله، أصر ومازال يصر ويعيد، أني ادعيت أن ليس للنفط أي دور في إسقاط صدام حسين. ضمان تدفق النفط، وليس الاستيلاء عليه، هو واحد من عدة أغراض أمريكية لإسقاط حكم البعث في العراق وليس لسواد عيون العراقيات والعراقيين!! الإشكالية هنا أن أمريكا تحتاج نفط والعراق يملك هذا النفط. وإذا كان النفط هو الذي أغرى أمريكا لإسقاط حكم البعث، فنحمد الله ونشكره على أن جعل في العراق ما يغري أمريكا على خلاصهم من شر أسوأ نظام إحرامي عرفه التاريخ. ولكن نؤكد مرة أخرى النفط ليس كل شيء في تحرير العراق، وضربنا مثلاً بأفغانستان الذي لا يوجد فيه نفط. أمريكا أرادت التخلص من شرور صدام حسين، ونحن كذلك أردنا التخلص منه. كل كان يسعى لمبتغاه، وهذا هو تطابق المصالح. فما الضير في ذلك؟ في الحقيقة جميع الأمور في الكون وبين المجتمعات والأفراد تسير بهذا الشكل، سواء بوعي أو بدونه. يضرب أحد الخبراء الاقتصاديين مثالاً حول تبادل المصالح. زيد وعمر جاران متعاديان. زيد يملك حديقة أزهار، وعمر (نحّال) يملك خلايا نحل العسل. نحل عمر تغزو يومياً حديقة زيد. وفي هذه العملية استفاد الاثنان دون علمهما وإرادتهما. ففي الوقت الذي ترتشف نحل عمر رحيق أزهار زيد، تقوم كذلك بتلقيح أزهار حديقته. هذه هي المصالح التي تحققت رغم خصومة الجارين. فإذا كنت تكره أمريكا لماضيها، إبق على كراهيتك لها، ولكن لا تحرم شعبك من المنافع التي يمكن أن تنتج من العلاقة البناءة معها. فمن مصلحة شعبنا العراقي وجميع شعوب العالم دحر الإرهاب. والدولة الوحيدة التي تمتلك القدرة والخبرة على تحقيق ذلك هي أمريكا وحلفائها. لذا من العقل والحكمة والصواب الترحيب بعلاقة تحالف بعيدة المدى بين العراق وأمريكا. يقول الدكتور كاظم: "وأتذكر أنه (أي عبدالخالق حسين) كتب مقالاً مماثلاً اعتقد فيه بأن الولايات المتحدة الأمريكية في حالة عدم فوز بوش للمرة الثانية ستسحب قواتها بسرعة من العراق وستحل المصيبة بالشعب والوطن." كما وادعى وأنه طمأنني بأن أمريكا سوف لن تنسحب ومهما كانت نتائج الانتخابات. أجل يا دكتور، أمريكا لم تنسحب لأنه لحسن حظنا فاز الرئيس بوش للمرة الثانية، ولو فاز منافسه جون كيري، المرشح الديمقراطي لربما انسحب وحلت الكارثة، من يدري!! ويضيف الدكتور كاظم في مكان آخر من مقاله (الحوار): أن "القوات الأمريكية جاءت إلى العراق لا لتخرج منه بسرعة. هذا ما قلته قبل الحرب وهذا ما أقوله الآن وستبرهن الأيام على ذلك." وبدوري أؤكد للدكتور كاظم أني كذلك قلت مثل هذا الكلام عدة مرات، واستشهدت بقيام أمريكا ببناء سفارتها في بغداد التي تعد أكبر سفارة في العالم، وبكلفة أكثر من مليار دولار، وهي عبارة عن مدينة مستقلة تستوعب إسكان 5500 شخص، فيها جميع مرافق الخدمات الإدارية والصحية والثقافية والرياضية، والدفاعية وغيرها. ولم تقدم أمريكا على بناء هكذا سفارة (مدينة) إلا لأنها قد خططت لبقاء دائم وعلاقة استراتيجية بعيدة المدى مع العراق، وهي علاقة في صالح العراق. كما وأتفق مع الأخ الكاتب، وهو ما ذكرت مراراً وتكراراً أيضاً، أن السياسية الخارجية الأمريكية لن تتبدل بتبدل الإدارة، لأن أمريكا دولة مؤسسات، وسياساتها تقررها جحافل من المفكرين وصناع القرار السياسي (Think tank) من وراء الكواليس، وليس الرئيس وحده. وهذا ما أكده الأخ الدكتور كاظم في (حواره معي) والحمد لله، ولذلك لا أعرف ما هي نقاط الخلاف والاختلاف بيني وبينه؟ ولكن في نفس الوقت، فإن ما أعلنه المرشح الديمقراطي أوباما من الإنسحاب الفوري من العراق لا يعبر عن موقفه الخاص، بل هو موقف الحزب الديمقراطي، لذلك فمن حقي أن أكون قلقاً إزاء تصريحاته بالنسحاب الفوري وترك العراق قبل اكتمال أجهزته الدفاعية. هل الطائفية صناعة أمريكية؟ يقول الدكتور كاظم حبيب عن أخطاء الإدارة الأمريكية في العراق ما نصه: "... فأن ما لا يمكن قبوله بالمرة أن الإدارة الأمريكية قد كرست في عراقنا الحبيب الطائفية السياسية في الحكم رسمياً" والسؤال هو: هل حقاً الإدارة الأمريكية كرست الطائفية في العراق؟ هذا الكلام مقبول من كاتب غير عراقي ولم يسمع بعالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي ودراساته ومؤلفاته العلمية الرصينة عن طبيعة المجتمع العراقي وتاريخه. ولكن ما أعرفه عن الدكتور كاظم أنه عراقي في الصميم، ويعرف جيداً طبيعة المجتمع العراقي، وهو مثلي من الذين قرؤوا جميع مؤلفات الوردي عن المجتمع العراقي. فكيف يحمَِّل أمريكا مسؤولية تفشي الطائفية في العراق وتكريسها! الحقيقة المرة هي أن الطائفية وجدت في العراق قبل اكتشاف أمريكا بأكثر من ألف عام. ولا نريد هنا العودة إلى فجر الإسلام، فهو معروف لدى المتابعين له، ولكن يكفي أن أقول أن الدولة العراقية الحديثة بنيت أساساً على التمييز الطائفي والعرقي، امتداداً لنهج الحكم العثماني التركي. وكان الوردي قد حذَّر مراراً، ومنذ الخمسينات من القرن الماضي من أن هناك بركان تحت السطح سينفجر يوماً ما لم تتخذ الحكومات إجراءات مناسبة لتلافي الكارثة، وذلك بتطبيق حكم ديمقراطي تدريجي، يسمح لجميع مكونات الشعب بالمشاركة في حكم البلاد. وهذا ما قاله المرحوم علي الوردي نصاً بهذا الخصوص: "إن الشعب العراقي منشق على نفسه وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر- باستثناء لبنان- وليس هناك من طريقة لعلاج هذا الانشقاق أجدى من تطبيق النظام الديمقراطي فيه، حيث يتاح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية. ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية، وهذا هو أوان الاعتبار! فهل من يسمع؟!" (على الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ص 382 383). وعليه، نؤكد للأخ الدكتور كاظم أنه من الخطأ اعتبار الصراع الطائفي الجاري الآن في العراق من صنع الإدارة الأمريكية. الإدارة الأمريكية كانت تريد فوز قائمة (العراقية) العلمانية التي يترأسها الدكتور أياد علاوي. ولكن كما اعترف الدكتور كاظم أن حكم البعث الفاشي ولعبته القذرة عند هزائمه وتبنيه ما سمي بالحملة الإيمانية واضطهاده للشيعة والكرد لأسباب طائفية وعرقية بشكل صريح، والطعن بعروبة شيعة العراق ووطنيتهم على مدى قرون، ورفعه لافتات طائفية استفزازية على ظهور الدبابات في كربلاء أيام سحق الانتفاضة مثل شعار (لا شيعة بعد اليوم)، كذلك وجود نظام إسلامي إيراني طائفي متطرف يغذي النزعة الطائفية، وغيرها من الأسباب المعروفة، كل ذلك أدى إلى تفشي الطائفية في العراق بوجهها الكالح الصريح. فالطائفية يا دكتور كاظم هي نتيجة ظروف موضوعية وتاريخية معقدة حصلت على جرعة منشطة جداً خلال حكم البعث الفاشي، ولم تأت به الإدارة الأمريكية، ولكن ليس هناك أسهل من نقد الإدارة الأمريكية وتعليق كل غسيلنا القذر على شماعتها. كما وأود هنا أن أضيف أنه مهما حصل في العراق، فإن لعنة الطائفية ستبقى ملتصقة بأية حكومة ومهما كانت ديمقراطية وعلمانية وتكنوقراطية، ما لم تعاد الأمور إلى ما قبل سقوط البعث الطائفي العنصري الفاشي. إذ أقرأ هذه الأيام مقالات من نتاج حزب البعث لكاتب بعثي انتحل لقب "البروفيسور"، على غرار سلسلة المقالات التي نشرت غداة انتفاضة آذار عام 1991 في صحيفة الثورة البغدادية بعنوان (لماذا حصل ما حصل) والتي تصف سكان الجنوب بأنهم هنود جلبهم محمد القاسم مع الجواميس. يعيد الكاتب ذات الاسطوانة الكريهة، واصفاً الحكومة الحالية بأنها (حكومة الشراكوة). ولم يكتف بوصف عرب الأهوار فقط بأنهم من أصول هندية وإيرانية وبلوش...الخ، بل أضاف إليهم جميع سكان الجنوب ويسميهم (شراكوة). والشراكوة كما تطرق إليهم الدكتور علي الوردي، يعني سكان حوض دجلة، أي القسم الشرقي من وادي الرافدين، لذلك يدعونهم (شراكوة) أي الشرقيين، بينما سكان حوض الفرات يشغلون القسم الغربي من العراق (غرباويين). وهذا الطعن بنصف أو ثلثي شعب العراق هو إنتاج بعثي طائفي بامتياز. كما وهناك حقيقة أخرى لا يمكن للدكتور كاظم إنكارها، ألا وهي تصاعد موجة الحركات الإسلامية ليس في العراق فحسب، بل وفي جميع البلاد العربية وتحت واجهات مختلفة. ففي البلدان التي ليس فيها سنة وشيعة اتخذ الصراع شكل إسلامي-علماني، حيث رفع الإسلامويون شعار (الإسلام هو الحل). ولكن في العراق ولبنان حيث توجد طوائف دينية متعددة، لذا اتخذ الصراع واجهة الطائفية صريحة. والحركات الإسلامية هي طائفية بالضرورة لأن كل حركة تمثل طائفة معينة رغم تبنيها اسماً إسلامياً. فهل أمريكا هي التي أرادت فوز حماس في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن ثم الصراع الدموي بين فتح وحماس؟ وهل أمريكا هي وراء فوز الأحزاب الإسلامية في الجزائر عام 1992 والإرهاب الإسلامي فيما بعد؟ وهل الإدارة الأمريكية كانت وراء فوز حزب الأخوان المسلمين بـ 88 مقعد برلماني في مصر في الانتخابات الأخيرة؟ الجواب على كل هذه الأسئلة: كلا وألف كلا. إن سبب تفشي النزعة الإسلامية في البلاد العربية، والطائفية في العراق، هو المظالم وفساد الحكومات وظلمها، إضافة إلى مشاكل اقتصادية وثقافية مزمنة عصية على الحل من قبل هذه الحكومات الجائرة. ولو أجريت انتخابات حرة وعادلة في جميع البلدان العربية لفازت فيها الأحزاب الإسلامية التي هي من ألد أعداء أمريكا. فهل نقول عندها أن أمريكا هي التي جلبت الأحزاب الإسلامية للسلطة؟ فالديمقراطية لها مشاكلها، ويمكن أن تأتي بأنظمة فاشية إلى الحكم، كما حصل في حالة صعود موسيليني وهتلر إلى الحكم في أوائل القرن الماضي. لهذا فمشكلتنا في العراق لا يمكن حلها بإلقاء كل التبعات على أمريكا لا لشيء إلا لأن شتم أمريكا لا يكلفنا شيئاً. لقد قدمتْ أمريكا أكبر خدمة للعراقيين وذلك بإسقاط أشرس نظام فاشستي عرفه التاريخ، ولم يكن بمقدور الشعب العراقي إسقاطه. وكان على الشعب العراقي وقادته السياسيين أن يكملوا المشوار في بناء النظام الديمقراطي. ولكن ولأسباب ذكرتها مراراً، لا يمكن مثل هذا الشعب أن يقفز بعد كل هذه المظالم من نظام صدامي جائر مستبد إلى نظام ديمقراطي ناضج بين يوم وليلة، ويتصرف كما الشعوب المتقدمة في الحضارة والديمقراطية. إذ كما قال فردريك انجلز: "لا تتوقع من شعب مضطهد أن يتصرف بلياقة". وأخيراً، ووفق آخر تطورات الانتخابات التمهيدية الأمريكية، ولحد كتابة هذه السطور في 21/2/2008، فإن باراك حسين أوباما هو المرشح المفضل على هيلاري كلنتون في تمثيل الحزب الديمقراطي في الانتخابات النهائية في تشرين الثاني القادم. كما وإني قلق (ولست مرعوباً) على أوباما من خطر الاغتيال. إذ وكما قال الدكتور سعد الدين إبراهيم : "إن هذا الصعود الفلكي لشاب أمريكي أسود (باراك أوباما)، لم يحدث منذ مارتن لوثر كنج (1968)، أو لشاب أمريكي أبيض منذ جون كيندي (1963)، ثم شقيقه روبرت كيندي (1968)، ومنذ مالكوم إكس (1970). وهؤلاء جميعاً تم اغتيالهم وهم في قمة صعودهم، وفي نفس العمر تقريباً أوائل الأربعينات. وهو ما جعل كثيرين يتوجسون أن يحدث نفس الشيء لباراك أوباما. وفي كل من الاغتيالات الأربعة، ظل الرأي العام الأمريكي حائراً حول تفسير الظاهرة، وعما إذا كان كل اغتيال هو عمل فردي من شخص مخبول أو موتور أو مُتعصب ، أم أن وراءه جماعة أو جهاز أو طرف داخلي، أو حتي خارجي أكبر. وفي هذا الصدد هناك أمريكيون يتنافسون مع العرب في اعتناق نظرية المؤامرة . ... . ويُقال، أنه بين الثلاثمائة مليون أمريكي، يوجد علي الأقل مليون لا يستسيغون أن يحكم بلادهم رئيس أسود، كما لم يستسيغوا أن يحكم رئيس كاثوليكي!". (د. سعدالدين إبراهيم: أوباما: نجم صاعد... وخوف من الاغتيال!، الراية القطرية، 15/2/2008). ولذلك أعتقد أن أوبابما قد يفوز بالانتخابات التمهيدية، ولكن في تخميني وتقديري سوف لن يفوز بالانتخابات النهائية، وأن الرئيس القادم هو المرشح الجمهوري (جون ماكين). وفي جميع الأحوال فأمريكا سوف لن تنسحب من العراق، لا حباً بسواد عيون العراقيين، بل خدمة لمصالحها، ولكن كما في حالة العلاقة بين النحل والأزهار، شئنا أم أبينا، فإن المصالح المتبادلة تخدم الشعب العراقي كثيراً. وعلى العراقيين التحرر من شرنقة الماضي والعداء لأمريكا. إذ كما قال العلامة علي الوردي: "الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام. والذي يريد أن يبقى على آرائه العتيقة هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد".
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |