|
تركمان العراق بين المعادلة العراقية- العراقية والمعادلة العراقية- الدولية .. الجزء الرابع
علي توركمن اوغلو مثلما بدأ تاريخ البشرية بظهور أول انسان على وجه الارض، فان هذا التاريخ سوف لن ينتهي الا بزوال أخر انسان من عليها، وخلال هذه الفترة ظهرت وتظهر وستظهر امم على مسرح التاريخ وتختفي اخرى، تعلو شأن البعض منها وتسود، وتهبط شأن الاخرى وتبيد وفقا لقوانين اجتماعية – سياسية عديدة . ولعل اهم قانون يفسر هذا التغيير المستمر في خسارة أو ربح أو تبادل المواقع هو قانون التحدي والاستجابة الذي اسهب فيلسوف التاريخ القدير ارنولد توينبي في الحديث عنه، وخلاصته ان الامم التي تبدي استجابات ايجابية للتحديات التي تجابهها تستمر في الحياة وتستحوذ على عوامل القوة، وتستمر في لعب الادوار الرئيسة على مسرح التاريخ، والامم التي تفشل في الاستجابة لتلك التحديات تختفي، أوعلى الاقل تخسر عوامل القوة فتنسحب من لعب ادوار البطولة على مسرح التاريخ لتجلس في مقاعد المتفرجين. كما ان التاريخ اثبت انه ما من امة ظهرت على مسرح التاريخ كقوة فاعلة استطاعت ان تحافظ على نفس التعجيل في الاندفاع الى مالانهاية، فالتعب والاجهاد، والوقوع في فخ المتناقضات سوف يتسرب الى جسدها طال الزمن أم قصر، فضلا ان الامم لاتستطيع الابقاء على نفس الوتيرة من الايقاع العقائدي (والتي تشكل دوما اقوى نقطة في اية حضارة وليدة، وتمثل قاطرتها ورأس حربتها) . فكلما استطاعت الامم الابقاء على هذا الايقاع، كلما نجحت في التجدد وابداء الاستجابات الايجابية لمتغيرات وتحديات الحياة . وعندما يتسرب الملل والارهاق، وضياع الاهداف والفساد الاداري اليها يتباطئ ايقاعها، وتبدا الامم بالشيخوخة، وفقدان الامل في الحياة والاستمرار، فتبدأ في قضم نفسها وضرب اعماقها، وتبدأ في التسارع للوصول الى النهاية، واول شيئ تبدأ به في خضم تخبطها هو افتراس ابنائها البررة الاوفياء . ان علو شأن الامم يكمن في نظري، اضافة الى ماسردته من النظريات الاجتماعية، في نجاحها في اختراع قواعد واشكال وقوالب مستوحاة من طرز حياتها وميزاتها القومية، ومن قابليات افرادها، ومدى تفوقها في هضم المستجدات في مدى الزمان والمكان، دون التسبب في تخفيف تلك المزايا، أو التسبب في احداث صدمات فجائية، وبعكسه تتحول تلك الامم الى كيانات ممسوخة قصيرة العمر، أو تتعرض للموت الفجائي، وفي كلتا الحالتين تكون النهاية محتومة ولامفر منها. ان النجاح والفشل لهما اسبابهما بالتأكيد، فللنجاح اسبابه، وللفشل اسبابه، فالنجاح الهائل التي حققته الامبراطورية العثمانية الدولة السابعة التي اسسها التركمان خارج المجال الحيوي التركماني التقليدي في توركمانيا (الممتد من بحر قزوين شرقا الى قونية غربا، ومن مندلي جنوبا الى القفقاس شمالا) كان نتاج لتفوقها في هضم تلك المستجدات التي تحدثنا عنها، وذلك باعتمادها مبدأ التقولب الكاذب (الذي تحدث عنه اشبنغلر)، حيث تبنت الاطر والقوالب الجاهزة للامبراطورية الرومانية الشرقية الناجحة، وخصوصا الهياكل الادارية فيها. وكما ان التقولب الكاذب هذا كان انجازا خارقا للامبراطورية العثمانية، ونقطة القوة وبداية الانطلاق الحقيقي لها خارج مجالها الحيوي المعهود الى اوربا وافريقيا، فأن المحافظة على هذه المعادلة الحرجة كان انجازا لايقل اهمية عن ذلك، فضلا عن نجاحها الباهر في توظيف الخبرات والامكانات الفائقة للافراد من غير التركمان في الادارة والموسيقى والاعمار وحتى الجيش . ولقد استوحت الولايات المتحدة هذا المنهج العثماني في التفكير والتطبيق في ترسيخ وتدعيم امبراطوريتها الحالية. ان خمود الحماس للتقدم والتجدد، وفقدان الفتوة للامبراطورية العثمانية عند نهاية ستة قرون من الحياة كان نتيجة حتمية للاسباب التالية: فشلها في توليد قوالب فكرية ديناميكية جديدة مما ادى الى اصابتها بالجمود الفكري، ثانيا فشلها في الاستجابة لمتغيرات العصر الجديد، عصر المخترعات العلمية والتقدم الصناعي وعصر الدول القومية الحديثة، وعصر الطبقة البرجوازية الشابة النشطة، وثالثا فقدانها السيطرة على معادلة التقولب الكاذب الحرجة، التي بدأت تعمل بصورة عكسية، مما ادى الى تسلل افكار وانماط غريبة على الثقافة التركمانية، والابتعاد التدريجي عن مكامن القوة فيها، والغرق التام في الثقافتين الفارسية والعربية، والذي افرز انفصاما ثقافيا حاد بين المجتمع التركماني عن قيادته. وفي النهاية عادت الامبراطورية العثمانية من مغامرتها التاريخية والتي ابتدأتها كدولة عقائدية فتية مليئة بالحماس والحيوية هدفها ان تندفع الى الامام لتنمو وتتوسع وتنشر عقيدتها وثقافتها في عمق اوربا المسيحية الى امبراطورية اممية هرمة مترهلة انطفأت شعلة حماسها، وخبا بريقها، وبطل سحرها، واضاعت اهدافها، وخسرت خيرة شبابها في حروب دامية، ولم يعد لها هدف غير ان تبقي على قيد الحياة. ان فقدان الامل هو اخطر ما يصيب الشعوب، وهو المبدأ الحاسم الذي يمكن ان يقود الى النهاية والموت. وما كاد هذا الموت يلوح في الافق، حتى انبرى الشعب التركماني في الاناضول بقيادة زعيمها الخالد مصطفى كمال اتاتورك في حرب التحرير الى ايلاد امة جديدة من رحم تلك الدولة الهرمة وبأمل جديد وبأهداف جديدة، وبمشروع جديد، وكان جنوده هذه المره هم فلاحوا الاناضول المعدمون، الابناء البررة الذين سحقتهم الامبراطورية الهرمة التي تفرق عن جسدها المسجى في اسطنبول النخبة العثمانية البرجوازية التي خدمتهم في حياتها وتنكرت من اجلهم لاولادها الحقيقين الغيارى من الاناضوليين. وعلى طرفي حدود ولاية الموصل التي تفصل الشعب التركماني بين الاناضول والعراق، شاع مفهومان مختلفان للامل، فبينما اصبح تحقيق الامل في التخلص من التشرذم والاسر في الاناضول معقود بمبادرة وشجاعة وصبر ومطاولة الاناضوليين في حرب ضروس ابتدأت سنة 1911 في حرب ليبيا وانتهت يوم 9 ايلول 1922، أصبح الامل في شمال العراق سلبي معقود بأنتظار سماع صدى جلبة الفاتحين المنتصرين المحررين على الابواب، وسماع صوت المفتاح الذي سيدور يوما في قفل مفتاح بوابة معسكر الاسر .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |