|
يبدو أن الكتل البرلمانية أو الأحزاب السياسية الحاكمة في العراق تشطب باليسار ما تكتبه باليمين، فقد هللت للدستور وأستفت الشعب عليه وأدارت معركة كبرى لإقراره وفرضته على الآخرين، ولكنها تقوم الآن بالالتفاف على أهم بنوده وهو استقلالية القضاء، والفصل بين السلطات، فالسلطة التشريعية معطلة بشكل كامل ولا تمارس صلاحياتها إلا ضمن حيز ضيق، والقرارات المهمة تتخذ من قبل القادة السياسيين وزعماء الكتل المؤثرين فيما أصطلح عليه بالمطبخ السياسي، اعتمادا على الأثافي الثلاث التي كان عليها جدر سيدنا البهلول، والنواب مجرد دمى متحركة تناقش القوانين وتخلق حولها المشاكل ولا ترى قراراتها النور، أو لا تكون نافذة إلا بموافقة الزعماء الذين يقررون وعلى ممثلي الشعب التصويت على قراراتهم حتى أن كانت مخالفة لتوجهاتهم، والقضاء العراقي الذي أصدر حكمه العادل بحق قتلة الشعب العراقي، جرى التجاوز عليه بشكل سافر عندما رفض ديوان الرئاسة المصادقة على قرارات الإعدام التي أصدرتها المحكمة الجنائية العلي، رغم أن الدستور لا يعطي للرئاسة الحق بنقض أحكام القضاء وإنما المصادقة عليها بشكل أوتوماتيكي، ويمكن تنفيذها دون المصادقة عليه، مما يعني أن ديوان الرئاسة لا يمتلك الحق القانوني بالتدخل في قراراته، وبذلك فأن من كتب الدستور هو أول الخارجين عليه، وبالتالي لن تكون للدستور شرعيته في ظل هذه التجاوزات. والخروج على الدستور يعني الاستهانة بالرأي العام العراقي، وعدم احترام أرادة الشعب، وهو ما بدا واضحا في هذه القرارات، فالشعب العراقي الذي تكبد ملايين الضحايا والمتضررين بسبب ممارسات النظام السابق، لا يرضى بأقل من عقوبة الإعدام بحق القادة العسكريين الذي كانوا وراء إبادة مئات الألوف من خيرة أبناءه، والتحجج بأن القائد العسكري آلة بيد السلطة الحاكمة، ينفذ أوامره، ويطبق قراراته، لا يصمد أمام العقل والنطق، والكثير من قادة الجيش السابقين كان لهم اجتهادهم البعيد عن الأوامر والذي يهدف إلى الحصول على مكارم القيادة وامتيازاته، ولا زال العراقيون يتذكرون كيف يتبختر سلطان هاشم وزير الدفاع الأسبق أمام الكاميرات بجسده المترهل وهو يتقلد الأوسمة والأنواط وسيوف القادسية وأم المعارك التي منحها له قائده الحبيب، لبطولاته الخارقة في إبادة العراقيين، وكيف منح أرفع الأوسمة بعد قمع انتفاضة آذار الباسلة، وكيف كان حسين التكريتي بجسمه الناحل منفوخا كالطاووس ليداري قصره في استقبالات القيادة العامة للقوات المسلحة، أو عندما يمنح القائد المهزوم جنرالاته أوسمة الخزي والعار، أو عندما يناقشهم في خطط الإبادة الجماعية للعراقيين. لقد عملنا في العسكرية سنوات طويلة، ولمسنا ما يقوم به ضباط الجيش العراقي وكبار قادته من أعمال مخزية يندى لها الجبين، فهل كانت سرقة نخيل البصرة من قبل قادة الفيالق والفرق والوحدات بإيعاز من القيادة الحكيمة، أم هو اجتهاد منهم بحلية الغنائم الحربية التي أدت إلى تدمير آلاف البساتين والمزارع، وهل كانت سرقة الشعب الكويتي واستلاب معامله ومتاجره وآلياته وتهديم منازله أبان غزو الكويت اجتهادات شرعية أو أخلاق عسكرية أو أوامر حكومية، أن هؤلاء القادة الذين رآهم الشعب أذلاء في قفص الاتهام، كانوا وراء ما أحاق بالشعب من دمار، وما جرى من إعدامات بالجملة وقتل غير مبرر لآلاف العسكريين الذين حاولوا بشكل أو آخر تجنب المشاركة بالحرب أو الابتعاد عن المعارك، وكانت قراراتهم الفورية وراء إعدام الآلاف من الجنود الأبرياء، بل استغلوا مناصبهم العسكرية في سرقة المال العام وفرض الإتاوات على منتسبي الجيش، وهيمنوا على مصانع ومعامل وعمارات باستغلالهم للسلطة، مما يعني أنهم فاقدين للخلق والشرف العسكري الأصيل، وأنهم مجموعة من القتلة والسفاكين ارتدت ملابس الشرف في غفلة من الزمن، ولم تفكر بمصلحة وطن أو شعب وإنما سعت لما يرضي نهمها وشهوتها العارمة للتسلط والاستبداد. ولو أحصينا ما لديهم من ضياع وعقارات وعمارات وأموال منقولة أو غير منقولة للمسنا مدى الفساد الذي كان يمارسه هؤلاء، وما حصلوا عليه جراء خدماتهم المقدمة للسلطة، وكان بإمكانهم تجنب المشاركة في القتل والدمار كما كان حال غيرهم من العسكريين الذين فضلوا الانزواء في المواقع الخلفية وعدم المشاركة المباشرة في عمليات القتل والإبادة، ولكنهم كانوا من الراقصين في الجوقة الصدامية، والعاملين لتحقيق مقاصده، وبذلك فأن جزائهم لا يختلف عن الجزاء المحيق بقائدهم، الذي أذلهم وعاملهم معاملة القرود، وهم يهزجون ويرقصون وينفذون أوامره، بل يزيدون عليها أملا بالحصول على المكاسب والامتيازات. أن قادة الجيش يتحملون جزء من المسؤولية أن لم كن أكثره، لارتكابهم الكثير من الجرائم التي لا تدخل تحت باب الأوامر، والدليل أن آلاف الضباط أحيلوا على التقاعد أو حرموا من الامتيازات والترقيات، أو نقلوا إلى الخطوط الأمامية، أو أعدموا رميا بالرصاص من قبل هؤلاء الذين يدعون اليوم أنهم حملان وديعة تنفذ الأوامر الصادرة إليه، ولو كانوا رجالا يستحقون الحياة لعارضوا أو تهاونوا في تنفيذه، أسوة بإخوانهم الذين حاولوا الانقلاب على النظام المقبور وإسقاطه، وتحملوا أنواع العذاب النفسي والبدني ومنهم من أكلته كلاب صدام المتوحشة لأنهم يمتلكون شيء من الضمير والشرف العسكري الذي جعلهم ينظرون إلى الوراء قليلا ويحاولون خلاص شعبهم من جبار عنيد، فيما ظلت الزمر المجرمة أمثال سلطان والتكريتي والسامرائي ومن لف لفهم من أذناب السلطة المقبورة لصيقين به حتى ساعاته الأخيرة، مما يعني أيمانهم بتوجهاته وقناعتهم بآرائه، فحق عليهم أن يعاملوا معاملة المجرمين، وإلا هل يعقل أن يكون مدير الاستخبارات العسكرية أو المخابرات العامة وفيق السامرائي حملا وديعا ليضعه صدام في هذا الموقع الحساس، ألم يشارك السامرائي هذا في حملات الإبادة للشعب الكردي والعربي في انتفاضة آذار الباسلة، وهل كان يوزع الورود والحلوى على المعتقلين في مديريته القذرة التي قتل عشرات الألوف في أقبيتها بأشرافه وأشراف معاونيه. والعتب كل العتب على القادة الكورد الذين تنكروا لشعبهم وتنكروا لمن أوصلهم إلى كراسي الحكم الوثيرة، ليكونوا في مقدمة الداعين لتبرئة هؤلاء المجرمين، وأن تكون مواقف رئيس الجمهورية جلال طالباني لا تعبر عن مبدأ وطني سليم، وإنما تدل على ضعف وتراخ في التعامل مع القتلة والمجرمين لأسباب كثيرة يعرفها الكثيرون ممن خبروا تأريخه الحافل بالمتناقضات، وإلا كيف له أن يجعل مستشاره الأمني قاتل الشعب الكردي والعربي في العهد الصدامي، وهل يعتقد سيادته بتوبة أبن أوى عن أكل الدجاج. نعم لقادة العراق التنازل عن حقوقهم الشخصية، ولكن لم يمنحهم أحد الحق بالتنازل عن حقوق الآخرين، وعلى الجميع العودة لرأي الشعب في تقرير الأمور المصيرية، وأن يأخذ القانون طريقه السليم، وعدم الاستهانة بالجماهير، فهذه الجماهير قادرة على التغيير وأن طال الزمن.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |