|
تُعد حرية الصحافة ركيزة اساسية من ركائز الديمقراطية الحقيقية في بلدان العالم التي تتمتع بالحقوق المدنية واحترام حقوق الانسان. وفي العراق بقيت الصحافة والاعلام لعقود، مجرد أبواق تروّج لتوجهات الحكومات المتعاقبة منذ تاسيس الدولة في عشرينات القرن الماضي وحتى نهاية الحكم الشمولي عام 2003. وقد استبشر العراقيون خيرا، وخاصة دُعاة الصحافة والاعلام الحُر، بعد رياح التغيير التي هبّت على البلد، متأهبين لأن ياخذوا دورهم المنشود في توفير قاعدة المعرفة بمجريات الاحداث وتقديمها للجمهور كمادة موضوعية تلبي رغبات شرائح المجتمع كافة، حيث لكل من التوجهات قراء ومتابعين ومشجِعين ورافِدين. ولكن ما لبثت الصحافة ومنتسبيها حتى واجهت محاولات وأد عنيفة تحت تاثير العنف والارهاب الذي ضرب اطناب العراق من اقصاه الى اقصاه خلال الخمس سنوات الماضية، حتى اصبح البلد اخطر مكان في العالم لممارسة هذه المهنة، بحسب التقارير والشهادات الدولية المتواترة، حيث تعرض مئات الصحفيين للقتل والاصابة والاختطاف والتعذيب والتهديد والتهجير، واخرهم كان نقيب الصحفيين العراقيين شهاب التميمي، الذي يحس ابناء الصحافة ان قَتلهُ كان رسالة موت واضحة هدفها إلقاء الرعب في قلوب حاملي الأقلام التي لا تخشى لومةً. وما زاد في الطين بلّة، ان قيود قوانين الطوارئ في البلد وما أفرزته من محاصرة لحرية الصحافة وتجاوزات شنيعة على الصحفيين والمؤسسات الاعلامية بدعوى الاحترازات الأمنية، قد اخذت منحاً لا يمكن التغاضي عنه في ضوء تكرار تلك التجاوزات المُهينة من ضرب وسب وإهانة واعتقال وتهديد، وكأن من يريد ان يُصوِر الحدَث وينقله الى الرأي العام يقوم بكشف سر لا يريد المعنيين افشائه!!. والأدهى من ذلك هو بروز ظاهرة استخدام الترهيب على الصحفيين من قِبل جهات سياسية بحيث اصبحت السلامة مرهونة بتجنب هذا الاتجاه والتغاضي عن ذلك الموضوع مجاملة او خضوعا لجهة معينة على حساب حرية الرأي والحياد والموضوعية. الصحافة اليوم في العراق تمرّ بمأزق كبير ومفترق طرق يمكن ان يؤدي بها الى الصمود والانطلاق على خلفية القوة المعنوية التي اكتسبها الصحفي العراقي طوال سنوات الجحيم التي مرّت، كما يمكن ان يؤدي بها المفترق الاخر الى الهاوية تحت تاثير سياسة تكميم الأفواه ومحاولات صُنع بؤر هيمنة محليّة، في ظل اتجاه الأقلمة السائد في العراق حاليا. هنا تكمن مسؤولية الدولة عن هذا المرفق الحيوي من مرافق الديمقراطية المفتَرضة في عراق ما بعد 2003. حيث تتواتر تصريحات الحكومة العراقية الداعية الى ضرورة احترام حرية الصحافة وعدم التجاوز على القائمين على هذه المهنة ومحاسبة المسيئين لها. ولكن، هل تم اتخاذ اجراءات فعلية لحماية الصحافة والصحفيين من المتجاوزين والمسيئين والمجرمين؟، وهل تُرجمت توجيهات الحكومة الى آلية فعلية ضمنت حقوق الصحفيين وعملت على معالجة مشاكلهم؟. من جهة اخرى فإن محاولات تقنين الإعلام خطأ كبير أثبتته تجارب الأمم الاخرى التي سبقتنا في هذا المضمار، حيث يُترك الامر الى السلطات المختصة (القضائية) في معالجة تجاوزات الإعلام واساءاته تجاه الاخرين، وهذا الامر لن يتحقق إلا بترسيخ مبدأ الفَصل بين السُلطات والعمل به تفصيليا، بحيث ترى كل من مكونات السلطات الثلاث-التنفيذية والتشريعية والقضائية- الخط التي تقف عنده. ان الصحافة، بالنسبة للسياسة والحكم، هي عبارة عن مرآة مزدوجة تعكس نوع ومستوى الأداء السياسي والحكومي على الجمهور ومن ثم تُرجِع الصدى المنقلب نحو الحكومة، لترى هذه الاخيرة مستوى الرضى لدى جمهورها. كما انها تقوم بتشخيص نقاط القوة والضعف والخلل، والوقوف عليها بعين التحليل والتمحيص، من خلال نقلها للآراء والتحليلات ذات التوجهات المختلفة، ليتسنى للمتلقي اختيار ما يراه مناسبا مع توجهاته. ومن هنا ظهرت اهمية الصحافة والاعلام حتى دُعيت بـ السلطة الرابعة. وعلى ضوء ما تقدم تبرز حاجة الصحافة والاعلام الملحّة في العراق لعدة مطالب، اهمها: 1- توفير الحماية القانونية للصحفيين ومؤسسات الاعلام بما يضمن فعليا عدم التجاوز من قِبل الاجهزة الأمنية العراقية والاجنبية، بحيث ترى هذه الجهات ان هناك عواقب وعقوبات رادعة للمسيئين من افرادها تجاه الصحافة والاعلام. 2- دعم نقابات واتحادات الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني معنويا وماديا في سبيل تفعيل دورها واعطائها مساحة حركة وصلاحيات قانونية اكبر للدفاع عن نفسها تجاه التجاوزات والاعتداءات. 3- التركيز على زيادة الوعي الحقوقي لمنتسبي الاجهزة الامنية من خلال زجّهم بدورات تأهيل مركزة حول حقوق الانسان وكيفية التعامل مع المواطنين والشرائح الاخرى من المجتمع. ولا نبالغ اذا ما طالبنا السلطات المختصة بتوفير باحِثيِن اجتماعيِين واخصائيِين في علم النفس-كما هو الحال لدى القوات الامريكية- لمتابعة احوال القوات العراقية النفسية خاصة في ظل تعرض افرادها لشتى انواع الضغوط في واجبهم اليومي. ان مستقبل الديمقراطية في العراق اليوم على المحك حيث القيام بقمع الصحافة وتكميم الافواه يعني الرجوع الى عصر الاستبداد والطغيان وعسكرة المجتمع. كما ان نمو حرية التعبير وقيام الصحافة بدورها الحقيقي كسلطة رابعة يعني ازدهار الديمقراطية والتعددية وتطور المجتمع المدني.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |