|
في الذكرى العشرين لمجزرة حلبجة .. تذكير لمن يعنيهم الأمر(2-3)
د. كاظم المقدادي/ باحث عراقي مقيم في السويد في هذه المناسبة الأليمة، نعتقد أنه يحق لكل عراقي أن يعبر عن إستغرابه، لا بل وإستهجانه لموقف بعض المسؤولين المتنفذين في عراق اليوم، من الكرد والعرب،الذين شاركوا أمس،مع نحو 1200 شخص، من ممثلي بلديات 86 دولة- بحسب تقارير صحفية- في مراسيم إحياء الذكرى السنوية العشرين لكارثة ضرب مدينة حلبجة الجريحة بالسلاح الكيمياوي، وربما منهم من ذرف الدموع، مع الضيوف الأجانب، على الضحايا عندما وقفوا أمام قبور الآلاف، أو إلتقوا بعض الضحايا،أو من ذوي الشهداء من أهالي حلبجة المنكوبة،ومنهم احمد عبد الله (75 عاما) الذي فقد 9 اطفال في القصف الإجرامي.. وهم ( المسؤولون) لم يفعلوا شيئاً يذكر لرعاية أهالي الضحايا،مع أنه مرت 5 سنوات على سقوط النظام المجرم، وبيدهم القرار السياسي.وفوق هذا،يعطلون، لليوم، تنفيذ الحكم القضائي العادل بحق كبار المجرمين الذين أمروا ونفذوا جرائم الإبادة الجماعية،الصادر عن المحكمة الجنائية العليا، وتم التصديق عليه من قبل الجهات القضائية العليا العراقية.. ونعيد التساؤل الذي طرحناه في الحلقة الأولى: ما مبرر إستفزاز عوائل الضحايا بمثل هذه المواقف ؟!! ونواصلُ تذَكيرَ هؤلاء المسؤولين بحقائق أخرى تتعلق بجريمة حلبجة.. فلعل التذكير ينفع ! * * * * * مأساة حلبجة لم ينتج نظام صدام حسين المجرم أي سلاح كيماوي او جرثومي قبل ان تتم تجربته على الشعب العراقي او الآخرين، وهذه مسألة معروفة- كما يؤكد عالم الذرة العراقي حسين الشهرستاني.وكانت الأسلحة الكيماوية اول انواع أسلحة الدمار الشامل، التي انتجها النظام العراقي، وقد انتج التصنيع العسكري العراقي غازات الخردل والسارين والتابون. وكان النظام العراقي قد استخدم هذه الأسلحة في الحرب العراقية ـ الايرانية منذ عام 1984 وكل العالم يعرف ذلك جيداً، بل ان النظام العراقي انتج هذه الأسلحة المحرمة دولياً بمساعدة شركات اوروبية وأميركية.وعندما لم يجد النظام العراقي أية ردة فعل عالمية لاستخدامه أسلحة الابادة الجماعية في الحرب العراقيةـ الايرانية، تمادى في استخدامها ضد الشعب العراقي وفي عمليات اطلق عليها اسم «الانفال» لابادة الأكراد العراقيين في كردستان العراق. وأشهر استخدام لهذه الأسلحة عندما قصف مدينة حلبجة الكردية العراقية[6]. في السادس عشر من اَذار/ مارس 1988 أغارت عدة طائرات حربية عراقية على حلبجة ذات الـ 45 ألف نسمة وقصفتها بقنابل معبأة بخليط من الغازات السامة المميتة،كغاز الخردل وغاز الأعصاب ( سارين) وغاز التابون وغاز (في أكس). في الحال مات 5 اَلاف شخص من سكان المدينة، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وتأثر 15 ألفاً اَخرون ممن كانوا بعيدين نسبياً عن مركز الهجوم المباشر، لكن السموم إنتقلت اليهم عن طريق الهواء ومات مئات منهم في السنوات اللأحقة.ولم يخلف الهجوم الموت والإصابات فقط، فبعد 3 سنوات على زيارة المدينة إثر إنسحاب القوات العراقية من المناطق الكردية في خريف 1991 كانت معظم بيوت حلبجة وأبنيتها مدمرة، وبدت لي كما لو ان زلزالاً قوياً ضربها[7]. إن كارثة حلبجة تعتبر- بحسب جمال حميد-،من جامعة ساوث بانك البريطانية- كارثة تلوث بيئي شامل، نظراً لتغير الصفات الطبيعية لعناصر البيئة من الماء والهواء والتربة،إضافة الى قتل الإنسان والحيوان وتدمير المزارع وإلحاق الضرر بالنباتات.ويقول أنه بعد كارثة حلبجة، وما سبقها من كوارث هيروشيما وناكازاكي،إستوجب إعادة تصنيف الكوارث البيئية الى كوارث بيئية تحدث نتيجة الفعاليات الصناعية للأنسان، وكوارث بيئية نتيجة الفعاليات العسكرية للأنسان. ووفق هذا التصنيف تعتبر كارثة حلبجة ثاني أكبر كارثة بيئية بعد هيروشيما وناكازاكي، حيث تم إستخدام أسلحة التدمير الشامل من غازات سامة في حلبجة وقنبلة نووية في هيروشيما وناكازاكي ضد السكان المدنيين، وقتل أعداد كبيرة من البشر.وهي تتميز عن كارثة هيروشيما وناكازاكي من حيث ان الفعاليات العسكرية وإستخدام أسلحة الدمار الشامل كانت من قبل سلطات نفس البلد ضد مواطنيها[8]. وعدا حلبجة، قصفت قوات النظام العراقي المجرم، قبلها وبعدها، العديد من المناطق الأخرى بالسلاح الكيمياوي.الصحفي جاسم الولائي عدد، قبل 18 عاماً، كافة القرى والقصبات الكردية في كردستان العراق التي تعرضت للقصف بالسلاح الكيمياوي العراقي منذ أواسط نيسان/ أبريل 1987 وحتى أواسط تشرين أول/ اكتوبر 1988، بحسب تواريخ القصف [9]. وكتب كارل فيك، من كردستان العراق،في "واشنطن بوست" يقول:" طبقا لتقارير بعض المؤرخين، ومنظمات حقوق الانسان، فان القوات الجوية العراقية ألقت 13 حاوية معبأة بالغاز على قرية قوبتبه حوالي الساعة السادسة وبضع دقائق من مساء يوم 30 آيار/ مايس 1988 ضمن عملية «الأنفال» التي خصصت لمعاقبة المسلحين الاكراد واسرهم بسبب وقوفهم في وجه السلطات العراقية بالتعاون مع ايران التي كانت في ذلك الوقت عدوا للعراق. ويقول الاكراد ان تلك العملية اسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 180 ألف شخص في القرى الكردية" [10]. شهادات حية أحد الناجين من كارثة حلبجة قال يومذاك متذكراً لحظات الهجوم الجوي الكيمياوي ان كل شيء تم بسرعة فائقة. أغارت الطائرات لدقائق، فمات من مات على الفور، وإستغرق اَخرون، وهو منهم، في إغماءة، ليستفيقوا بعدها غير مدركين لما حدث، كما لو ان كولبيس ليلية داهمتهم.وقال اَخر كان ما يزال- بعد 3 سنوات- يتعرض لنوبات إضطراب عصبي وعقلي:" كانت رائحة الكيمياوي طيبة،تشبه رائحة التفاح.كتم يخرج من فمي وأنفي سائل يشبه الماء" [11] . ووصف المواطن اسماعيل قادر علي ذلك اليوم الأسود، حيث وجد عددا كبيرا من الجثث مسجاة على الارض في قوبتبه الى درجة انه مر عبرها دون ان يتعرف في اول الامر على جثث زوجته هاجر- 50 سنة، وابنته الكبرى امينة- 18 عاما، كما لم يتعرف ايضا على جثث ابنتيه آسكا- 12 سنة، وكوتشا- 10 سنوات، وابنائه الثلاثة سادر- 11 عاما، وجارا- 6 سنوات، وسرباست- 5 سنوات. ولم يلحظ ايضا وجود جثة الطفلة هوزين- 18 شهرا، التي وضعت مع الجثث الاخرى في باحة منزل احد الجيران. و قال قادر اسماعيل علي، وهو يقف الى جانب مجموعة القبور التي تضم غالبية افراد اسرته: «لا يمكن ان ننسى... لا يمكن ان نتعافى من اثر هذه الصدمة... نتمنى ان تنشق الارض وتبتلعنا، ولكن ليس بيدنا ما يمكن ان نفعله».[12]. وفي باريس أكد الطبيب الفرنسي برنار برنديني-مندوب منظمة" أطباء بلا حدود" لمراقبة الموقف في المنطقة الحدودية، في رسائل بعث بها الى الأمين العام للأمم المتحدة، ان الشهادات العديدة، المستقاة من اللاجئين الأكراد العراقيين، لا تدع أدنى مجال للشك في العنف والقمع اللذين تمارسهما القوات العراقية.وطلب من السيد ديكويلار التدخل بصورة عاجلة لدى الحكومة العراقية حتى لا تتم إبادة المزيد من اَلاف النساء والأطفال والرجال الأكراد. وفي وقت لاحق أعرب الأمين العام للأمم المتحدة في مؤتمر صحفي عقده في لاهاي عن قلقه البالغ للمحنة التي يعانيها الأكراد [13]. وفي تشرين الأول 1988 قال الطبيب الأمريكي روبرت كول،الذي إلتقى مع اللاجئين العراقيين الى الأراضي التركية:" ثمة أدلة تأريخية ثابتة، وعلامات جسمانية محددة تشير الى إستخدام الحكومة العراقية لغازات سامة ضد الضحايا[14]. وجاء في بيان اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية السكان التابعة للأمم المتحدة: إن أبشع الأنظمة الفاشية لم يتجرأ على إستخدام أسلحة الإبادة الجماعية ضد مواطنيه كما فعل نظام بغداد. وعقب زيارته لحلبجة، كتب الصحفي العراقي عدنان حسين يقول: ذكر أحد الأطباء في مستشفى حلبجة ان النسبة الكبيرة من المراجعين في ذلك الوقت كانوا يشكون من حالات مرضية ذات صلة بالهجوم الكيمياوي، وتوقع ان بعضهم سيموت في غضون سنوات قليلة، بينما سيظل الآخرون يعانون مدى الحياة.ويبدو ان ذلك الطبيب لم يكن بالقدر من المعرفة والخبرة التي تؤهله لكي يخبرني ان مدى الكارثة سيكون بمرور الأيام أبعد من موت ذوي الحالات الخطيرة وإستمرار معاناة ذوي الإصابات الأخف.فأخبر كشف أستاذة جامعية بريطانية عن جانب أكثر مأساوية للكارثة التي وقعت قبل 10 سنوات،إذ وجدت ان الآثار والأعراض المرضية إنتقلت الى الجيل الثاني من بنات وأبناء الذين أصيبوا في هجوم حلبجة الكيمياوي[15]. وكشف عن هذه الحالة فيلم وثائقي بثته القناة الرابعة للتلفزيون البريطاني في مطلع اَذار/ مارس 1998، ضمن برنامجها الشهير Dispatches وعنوانه" قنبلة صدام الموقوتة السرية"، وهو الفيلم الثاني للمخرج جوين روبرتس عن كارثة حلبجة بعد فيلم " رياح الموت". ويظهر المخرج في الفيلم الأخير برفقة كريستين جوسدين - أستاذة الطب الوراثي Genetics Medicine في جامعة ليفربول، التي أجرت في حلبجة أبحاثاً اولية حول اَثار القصف الكيمياوي على الذين أصيبوا فيه مباشرة وعلى أبنائهم.
أبحاث ميدانية متأخرة أعلنت البرفسورة كريستين جوسدين إن ما وجدته في حلبجة، بعد 10 سنوات من إستخدام السلاح الكيمياوي ضد سكانها، كان أسوأ بكثير مما كانت تتصوره.وهي بحكم معرفتها وخبرتها كانت تتصور أنها ستلاحظ على بعض السكان أشكالاً من السرطانات والتشوهات الخلقية والعقم والعمى والتلف العصبي.وفعلاً وجدت كل هذا في حلبجة، وفي حالات أكثر خطورة، وأوسع نطاقاً مما كانت تعتقد.وإستطردت:عملنا مع الأطباء، وأجرينا تحديداً لنسبة حالات العقم والتشوهات الخلقية والسرطان، بما في ذلك سرطانات الجلد، والرأس، والعنق، والجهاز التنفسي، والصدر، وسرطانات الأجنة، لدى سكان المدينة، الذين كانوا فيها يوم الهجوم ، وقارناها مع سكان مدينة أخرى في المنطقة.فوجدنا ان هذه النسبة تفوق بـ3-4 أضعاف على الأقل لديهم حتى بعد 10 سنوات على الهجوم. ولاحظت الباحثة ان عدداً من أطفال حلبجة يموتون كل عام متأثرين بأمراض سرطان الدم (لوكيميا) وأورام الغدد اللمفاوية.وأن نسبة إصابة الأطفال والشباب بالسرطانات أعلى مما في أي مكان اَخر في العالم.وأضافت ان مما يزيد الأمر سوءاً هو النقص الكبير في وسائل الجراحة الخاصة بأمراض الأطفال لمعالجة العلل القلبية الخطيرة وتشققات الشفتين واللثة والتشوهات الخلقية الخطيرة الأخرى لدى الأطفال، ما يعني ان الكثيرين منهم يموتون بينما كان بالإمكان إنقاذ حياتهم. وأشارت العالمة الى الآثار النفسية والعصبية للهجوم على حلبجة بالسلاح الكيمياوي،فقالت: تواجهك المحنة الإنسانية هنا في كل شارع وبيت وردهة في المستشفى.أشخاص ينتحبون ويشعرون بضيق نفسي شديد بسبب ما يعانون من كاَبة حادة، وتكون محاولات الإنتحار بشكل مرعب. وإستنتجت البرفسورة جوسدين من أبحاثها ان التشوهات الخلقية والأعراض المرضية الخطيرة، التي ولدت مع الأطفال، الذين جاءوا الى الحياة بعد سنوات عديدة من الهجوم الكيمياوي، تشير الى ان هذه الآثار تنتقل الى الأجيال اللاحقة.والكثير من أطفال حلبجة الصغار يعانون من مشاكل في التنفس، وفي البصر، وفي الجلد، ومن سرطانات وتشوهات خلقية وعاهات وإضطرابات عصبية، وتخلف عقلي،وشلل دماغي. وأضافت: ان هذه السلسلة الواسعة من الأعراض المرضية يمكن عزوها الى التلف طويل الأمد للحامض النووي منقوص الأوكسجين DNA للذين أصيبوا في حلبجة ولأبنائهم.[16] وأكد هذه الإستنتاجات البرفسور حسين الشهرستاني، بعد 3 أعوام، عند زيارته لمدينة حلبجة، حيث التقى بمن تبقى من الأحياء هناك، وقد رووا له لحظات القصف العصيبة. فقال له أحدهم ان الطائرات العراقية عندما بدأت تقصف المدينة اختبأ الجميع في الملاجئ والسراديب، ثم تنفسوا رائحة تشبه رائحة التفاح. وهذا يشير الى ان النظام العراقي تعمد صنع رائحة تشبه رائحة التفاح لاغراء الناس على تنفسها ولطمأنتهم الى انها غير ضارة.وأوضح الشهرستاني بأن هذه الغازات لكونها ثقيلة فهي تنزل الى الأعماق والمناطق المنخفضة وهكذا قتلت الأبرياء الذين لاذوا بالسراديب اضافة الى من قتلتهم فوق سطح الأرض والذين كانوا في طريقهم للفرار من المدينة.وأضاف: كانت القوات الايرانية قريبة (حلبجة مدينة حدودية بين العراق وايران) وقد تمكنت هذه القوات من انقاذ البعض ونقلهم الى الوحدات الطبية والمستشفيات القريبة.وقال: نحن اليوم نتحدث بعد 13 عاماً على الحادث وهناك من أهالي المدينة الذين بقوا على قيد الحياة ظهرت عليهم أعراض صحية سلبية، فالرجال أصيبوا بالعقم. أما النساء فيعانين من حالات الاسقاط، كما ظهرت حالات تشوه خلقي في المواليد الجدد وأنواع من مرض السرطان لم تكن معروفة في تلك المناطق. ان التأثيرات الصحية السلبية لم تظهر فقط على الذين تلقوا الضربة بشكل مباشر، بل ستظهر هذه الأعراض حتى على الأجيال المقبلة [17].
الهوامش: --------- [6] - معد فياض،مصدر سابق. [7] - عدنان حسين، تقرير إخباري: 10 سنوات على قصف حلبجة الكردية العراقية بالغازات السامة:أمراض الأسلحة الكيمياوية تنتقل من جيل الى اَخر،" الشرق الأوسط"، في 17/3/1998. [8] - جمال حميد، قراءة بيئية في مذبحة حلبجة،" الشرق الأوسط"-فاتني للأسف ان أدون العدد وتأريخه [9] -راجع: جاسم ولائي، نتائج واَثار إستخدام النظام اللعراقي للسلاح الكيمياوي،"الثورة" السورية،في 10/2/1990 [10] -كارل فيك- قوبتبه (كردستان العراق): أكراد العراق يتوقون للمشاركة في الحرب ضد صدام للانتقام لمئات الآلاف من ضحاياهم،خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط، في 21/2/2003 [11] - عدنان حسين، مصدر سابق. [12] - كارل فيك ، مصدر سابق. [13] – مجلة "رسالة العراق"،إدانة شاملة لحرب الإبادة الشوفينية في كردستان العراق، العدد 94، تشرين الأول 1988 [14] -جاسم ولائي، نتائج واَثار إستخدام النظام اللعراقي للسلاح الكيمياوي،"الثورة" السورية،في 10/2/1990 [15] - عدنان حسين،مصدر سابق. [16] –عدنان حسين، المصدر نفسه. [17] - معد فياض،مصدر سابق.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |