|
يا حاضرا متدثّرا ببَعيدها وغائبا عن عصرها ومجدها التفاعل الحي هو الذي يكون ما بين المتغيرات والمستجدات في ساحة الحياة وفقا للرؤى والتصورات التي تحكم سلوك وتفاعل المجتمعات مع محيطها. والابتعاد عن الحاضر والولوج في مرحلة زمنية أخرى إنما هو هرب وهزيمة وعجز فعال في حياة الأجيال. فالحاضر قيمة وجودية وتطورية فعالة ذات قدرة بقائية ضرورية للتواصل الإنساني, والإنقطاع عنه يعني دخول أنفاق الانقراض الحتمي. ولا بد للمجتمعات أن تمتلك مهارات التفاعل مع حاضرها والتواصل مع مستقبلها. ومن أساسيات القوة والنماء تحقيق معالم الحاضر وتطويرها والارتقاء بها إلى ما وراء المستقبل. وحينما تصبح المجتمعات ضحية لمضادات التفاعل مع حاضرها فأنها تختار دروب الهلاك والقضاء على ذاتها وموضوعها. وعندما نتأمل واقعنا تنكشف أمامنا مرارة وأد الحاضر وإلغاء المستقبل والإندساس الفاعل والنشيط في تراب الماضي إلى حد الإدمان القاتل. فقد أصبح الماضي في حياتنا يختصر جميع أبعاد الزمن ويمتهنها أقسى امتهان. ومَن يقرأ كتاباتنا يجد أن معظمها ماضوية, أي تعالج موضوعات أكل الزمن عليها وشرب آلاف المرات ولازلنا ضحايا دوائرها المفرغة، وقدرات شحنها بالطاقات الانفعالية السلبية التي تقضي على الوجود المعاصر وتؤسس لمسيرات الدموع والنواح السعيد. فما هي مفردات مضادات التفاعل مع الحاضر القائم والهرب إلى الماضي الغابر؟
أولا: اليأس وهو الطاقة السوداء المهيمنة على معظم النشاطات الفاعلة في مجتمعنا والتي تؤدي إلى سلوكيات إكتئابية ذات تأثيرات ضارة على النشاطات القائمة فيه، والتي تهدر الحياة وتؤسس لمشاريع الموت والاحتراق الشديد في سعير الانفعالات السلبية الطائشة النكراء. اليأس حمّال الأسى وجرحها يمضي بنا من نورها لظلامها ثانيا: العجز فكرة تؤسس لعدم القدرة على المجيء بجديد ومفيد، وبسببه يمعن المجتمع بالقنوط والاضطراب وعدم القدرة على تجاوز حالة الشلل والتواصل الصحيح مع المستجدات القائمة، ويفقد بقوة العجز الإمكانية على تحقيق التغيير النافع للناس. آهٍ على عاجزةٍ وأمرها بعاجزٍ كم تهتدي أجيالها ثالثا: فقدان المساهمة المشاركة المتجددة في الحياة وتحقيق الإضافات النوعية التي تعبر عن دور الشخص أو المجتمع, تساهم في بناء الثقة والقوة اللازمة للاعتزاز بالحاضر والتوثب إلى المستقبل، وبغيابها ينكمش المجتمع وينطوي ويتدحرج بسرعة فائقة إلى الوراء. فساهموا بجدها وخطوها وابنوا بها ما ينتمي لأصلها رابعا: ثقافة اللاقيمة عندما تفقد الموجودات قيمتها في المجتمع وتسري ثقافة اللاجدوى واللاأهمية لكل ما تم تحقيقه وتأكيده عبر العقود المتعاقبة، يفقد البشر قدرة المواصلة والتفاعل الإيجابي مع الحاضر، ويكون في حالة خصام ومشاجرة مع نفسه وواقعه الذي يزداد قسوة وظلما وتقيدا لطاقاته وقدراته، وهذا يمنحه القوة الكافية للجوء إلى الغابر من الأيام لعدم وجود الموانع والمضادات، وتوفر المسوغات التي تريد استهدافه وتحويله إلى شيء. استوحشت أشياؤنا ببخسها لا تسقطوا الأشياء من أقيامها خامسا: الجهل الجهل العام بمفهومه الشامل الذي يضم كل المستجدات والتطورات والقدرات القائمة في حاضر البشر، والتي تدفع به لكي يكون مشاركا فعالا في صناعة المستقبل. هذا الجهل هو الخصم الأكبر للحاضر والذي يدفع بأهله إلى أن يتمسكوا بالماضي، ويلجئون إلى ما لا يمكنهم أن يغيروه وإنما يبكون عليه، ويتفننون في تأويلاته وتفسيراته وتقديمه للحاضر بما يرضي كل مواضع اللاقدرة على المشاركة فيه. المارد الشرير فيها جهلنا لا تغفلوا بل أدركوا مصيرها سادسا: الأمية الأمية بأنواعها لها الدور الكبير في دفع البشر إلى زمن آخر وقطعه عن حاضره، لعدم امتلاكه القابليات اللازمة للمشاركة بحركة الحياة القائمة, ولفقدانه المهارات التي تؤهله لكي يكون عضوا فعالا في مجتمعه الإنساني. وبسبب ذلك فأن أميته تسوقه إلى حيث كانت الأشياء وتبعده عن ما يكون وسيكون من الفعل والفكر والاقتدار. أميةٌ ملعونةٌ مذمومةٌ لكنها سارت بنا لحتفنا سابعا: الثقافة القرآنية مجتمعنا بنسبة كبيرة منه راسب في القرآن, والمقصود أنه في قصور معرفي ولغوي لمحتوى القرآن، وبهذا الضعف فأنه يقترب من ماضيه ويقايس سلوك الأجداد ويحكم عليهم, فيمعن أكثر في نشاطاته التي تضعه في القاع . وأن الواقع الأليم الذي يعيشه المجتمع هو إدعاء المعرفة والدراية في وقت لا يعرف فيه ولا يدري ما هو مفيد، ولهذا فأنه في حالة اضطراب وتشويش تزيد في هروبه من واقعه واللجوء إلى ماضيه بانفعالية عالية، ولأنه لا يعرف ما في كتابه لقصور مهارته اللغوية يؤوب إلى ماضيه ويأتي بأفعال لا ترضيه ويحسبها من صلب ما فيه, وتلك محنة واضحة دلت عليها الأفعال الشنيعة التي تم ارتكابها في أرض الأولياء والأئمة والصالحين. فكتابنا طريقنا وملاذنا ومنيرنا في داجيات ليالي ثامنا: الخضوع الناس بسبب أميتها وجهلها وقلة معرفتها القرآنية أصبحت تخضع للعمائم واللحى، وتنقاد إليها كأنها لا تعرف إلا ما تصرح به ولا تمتلك القدرة على التفاعل العقلي الواعي معها لكي تمنعها من الشطط، وبسبب ذلك فأن المجتمع يتحول إلى جمع من الأغرار المغرر بهم، والذين يساقون إلى حيث يريد مَن يستثمر في جهلهم وأميتهم ويساهم في تأكيدها وتجسيدها. والمجتمعات الخاضعة لا قيمة لها ولا دور إنساني، وهي بحكم هذا الفراغ التفاعلي مع زمنها تكون ذات قدرة على الارتماء في أحضان الماضي الذي يتم تقديمه لهم بطبق من العواطف والانفعالات الشديدة، لكي يتحقق تسخيرها لمشيئة الفرد الطامع بربحها. لا تخضعوا فطبعنا حرية وديننا يدعو إلى الأنوار تاسعا: غياب العقل المشكلة الكبيرة التي تواجه الحاضر هو سيادة العواطف وغياب دور العقل فيما يجري من أحداث. بل أن العقل يكاد يكون ممنوعا من التصريح بالحق والصدق وأن الانفعال هو سيد المواقف، لأنه يوفر كل التسهيلات اللازمة لتحقيق الأهداف المرجوة, ولهذا يتم صناعة الأحداث ذات القوة الانفعالية العالية، والتي تمنع العقل من النشاط بل وتستعبده وتسخره لأغراض العاطفة, ويجد المستثمرون ضالتهم بالماضي الذي يأخذون الناس إليه بعواطفهم المتأججة ويحصدونهم حصدا لذيذا يدر أرباحا وفيرة. عقولنا ميزانها وصراطها وبدونها نسعى إلى التسعارِ عاشرا: المنافع الظالمة الماضي أصبح مشروعا لتحقيق الكثير من المنافع والاستثمارات التي تجود بها النفس الأمارة بالسوء، والتي تدفع بالناس إلى تقديم الماضي بطبق انفعالي ساخن يقيد قدرات العقل ويمنع أية فرصة لطرح سؤال، أو إثارة موضوع لا يتفق وتوجهات الرابحين والمستثمرين في مادة البشر السكران بالأكاذيب والأضاليل والبهتان، والذي يدور ثملا في الطرقات ويدعي ما يدعي من البطلان.
حادي عشر: الماضي يقود في مجتمعات بلا قيمة معاصرة يكون الماضي سلطانا كبيرا وله دور مؤثر في قيادة الأجيال وتمريغ رؤوسها في وحل الأجداث، ويتركها تبكي على ما لم يعد قائما في الحياة بل ويجعلها تنتمي إلى الأموات، وترى مشروع حياتها فيهم وأنهم الأمل الذي لن يعود، وعليها أن تذرف الدموع وتجلد نفسها لكي تخرج طاقاتها المحبوسة، التي لا يمكنها أن تعبر عنها في مشروع إبداعي معاصر يخدم الناس. ولأنه تعبير عن العجز ويمنح الشعور بالفعل وتصريف الطاقات المكبوتة. من دورة الأزمان نجني زبدةً ومنيرةً نهدي بها الأياما ثاني عشر: نزعة الهروب الناس في حالة ضعف وغير قادرة على مواجهة نفسها في زمن تجد أنها لم تقدم شيئا مفيدا للحياة, ولا تعرف أي إضافة نوعية وذات قيمة تجلب لها الفخر والقوة والعزة. ولكي تتخلص من المشاعر القاسية المرافقة لهذه الحالة فأنها تجد ملاذها في الماضي الغني بالمنجزات والوفير بمفردات الفخر والاعتزاز، ولهذا فهي تميل إليه وتتخذ منه ذريعة ترضي بها رغبة المشاركة والعطاء ولهذا فهي تبدد طاقاتها المعاصرة في غير مواضعها . لا تهربوا فتنكصوا وتخسروا بل واجهوا زمانها بكلنا ثالث عشر: الآخر المستفيد هناك العديد من القوى الداخلية والخارجية المستفيدة من دفع الناس إلى أنفاق الماضي، واستحضار ما جرى قبل مئات السنين وإشغال الناس بها وعزلها عن حاضرها، والسعي بها إلى سجن اللاجدوى وتحويلها إلى دمى يمكن تحريكها وفقا لإرادة المستفيدين منها ، والساعين إلى قبرها في حاضرها وتجريدها من معالم صيرورتها الصحيحة . ولهذه القوى القدرات الكبيرة التي لا تهدأ في ضخ العقول والنفوس بكل مؤهلات التدثر بالماضي وإعماء العيون والأبصار بترابه. كلٌ على لبلاه قد غنى بها ولنا ليلى عاصرت ليلاهمُ رابع عشر: فقدان الحرية غياب الحرية يؤسس لتوفير الطاقة اللازمة للجوء إلى الماضي والهروب من الحاضر لأنه أصبح ثقيلا ومملا وخانقا ولا يعطي الفرد أية قدرة للتعبير عن نفسه وتحقيق أفكاره، ولهذا فأنه يلجأ إلى الماضي ليهدر طاقاته العقلية والإبداعية فيه ، ويشعر بأنه قد عبر عن حريته ومارس دوره كبشر يسعى فوق التراب. القيد لا يجدي إذا تزاحمت مناكبٌ بمناكبٍ رجالها خامس عشر: موت الإبداع المجتمعات التي لا تحترم الإبداع ولا تعطيه قيمة عليا ولا تفخر بمبدعيها وترعاهم مجتمعات بلا حاضر, وهي في غاية السهولة للميل إلى ماضيها خصوصا عندما يكون الماضي رمزا للقوة والإبداع والتحضر والمساهمة الأصيلة في الحياة والتقدم الإنساني. وفي مجتمعاتنا يكاد الإبداع أن يكون قيمة وطنية معدومة تماما، والمبدع عندنا يهرب إلى دول أخرى لكي يساهم في تطورها وتقدمها وهذا يحقق وجودا سلبيا في المجتمع يدفع به إلى أحضان الماضي التليد. إن الحياة جميلة بعطائنا هيا ابدعوا وتأملوا صنّاعها سادس عشر: الفقر اللغوي المجتمعات التي لا تعتني بلغتها مجتمعات لا تعاصر ولا تعرف الحاضر, وإنما يكون أسهل عليها أن تندس بماضيها وتلتحف بكل ما جاد به الأجداد وتجتره اجترارا, لأنها عديمة القدرة على الإتيان بمثله أو بأحسن منه. ومجتمعنا من المجتمعات الفقيرة بأرصدتها اللغوية التي تساعد في بناء جسور وأسس المعاصرة. مهارة الأفهام في ألفاظها ولغاتها للفكر مثل وعائها سابع عشر: زعزعة الذات الذات المشحونة بالخيبات والنكسات والخوف وغياب الأمن واضطراب الأيام، وخلوها من بارق أمل وصوت حياة سعيدة. تدفع إلى الانكماش والانزلاق إلى كهوف الماضي الذي يوفر بعض الشعور بالطمأنينة والسكينة، وبهذا يكون الارتباط بالماضي قويا ومؤثرا ومن الصعب إخراج الناس منه وتحريرهم من قبضته. ذاتٌ إذا ما اضطربت وتزعزعت خواؤها يمضي على أركانها ثامن عشر: الشعور بالهزيمة الهزيمة من أكبر الطاقات التي تدفع بالبشر إلى أن يكون في حالة سهلة للسقوط في أي اتجاه ممكن, وأسهل الجهات التي يميل إليها البشر في حالة هزيمته هو ماضيه, فالمتقدم في العمر يركن إلى أيام شبابه والذي يصاب بالخرف يحدثك عن الماضي ولا يريد أن يتكلم معك عن الحاضر لأنه قد هزمه لعدم قدرته على التفاعل معه. هزيمة الأعماق تدمي جوهرا وتنتهي لصائرٍ لا ينتهي تاسع عشر: الفهم السيئ للدين في كل دين هناك اقترابات مختلفة وتفسيرات متنوعة وتفاعلات متباينة ما بين الذين يدينون به. وقد يلجأ البعض إلى سلوكيات خارجة عن إطار العصر وفقا لفهمهم للدين وطريقة اقترابهم منه, وهؤلاء يساهمون في التمسك بالماضي وإحياء مفرداته الغابرة، ولكن وفقا لكيانها البعيد فكأن الزمن لم يتغير, وأن تلك الحالات وجود جامد لا يمكن المساس به وممنوع من الحياة والتغيير. دينٌ مبين ساطع وواضح لكننا بظلامها نتصفّح عشرون: قيمة الحياة المجتمعات التي لا تعطي قيمة عالية للحياة فأنها تدفنها في الماضي وتأبى عليها أن ترى نور الحاضر, وتحسب أنها لا قيمة لها ولا دور مفيد وأن الموت هو الحياة, في هذه المجتمعات يكون الماضي وسيلة وغاية لتجسيد فكرة نكران الحياة وانتصار الموت عليها. حياتنا قيمتنا وعصرنا وفرصةٌ نبني بها أمجادنا ويبقى السؤال الكبير الذي يطارد الأجيال : أين الحاضر فيما تقولون وتفعلون؟ وعندما يدرك كل منا الحاضر بدواعيه ومستلزماته نكون ونتحقق, وإلا فأن تراب الماضي سيدثرنا وسنبقى في أوحاله نعاني . ولن يكون لنا منقذ إلا بالأمل والتفاؤل والإيمان بالقدرات والمهارات، التي تحقق حياتنا وتصنع حاضرنا القوي العزيز بجهد المبدعين المتفاعلين كشخص واحد مع التحديات اللازمة لتفجير الطاقات وتحقيق الأفكار في الحياة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |