في الذكرى العشرين لمجزرة حلبجة .. تذكير لمن يعنيهم الأمر(3-3)

 

د. كاظم المقدادي/ باحث

عراقي مقيم في السويد

kalmukdadi@hotmail.com

توقع الكثيرون، من حسني الظن بالمسؤولين المتنفذين، ان يتميز إحياء الذكرى العشرين لمجزرة حلبجة عن غيره من السنوات السابقة.وقيل، من بين ما قيل، بأن المئات من الضيوف من ممثلي البلديات في 86 دولة سيحضرون المراسم في المدينة المفجوعة، وان الحكومة ستعلن عن أمور مهمة ذات علاقة بالمناسبة الأليمة.. ولكن التوقعات خابت !..فجرت مراسم متواضعة جداً،من بينها رفع الستار عن نصب تذكاري.ليس هذا فحسب،بل وغاب عن المراسم رئيس الدولة، ورئيس مجلس الوزراء.وإكتفى مجلس الوزراء بالدعوة للوقوف دقيقة حداد. أما أعضاءه، فقرأوا صورة الفاتحة.. وكالعادة،تكررت الوعود.فأعلن المتحدث الرسمي بأن الحكومة ستقدم مشروع قرار الى الأمم المتحدة بإعتبار يوم السادس عشر من آذار من كل عام يوماً عالمياً ضد إستخدام الاسلحة الكيمياوية.وأنها ستلاحق الشركات والدول التي جهزت النظام السابق بهذه الاسلحة، وطلب التعويضات منها، وإنشاء مركز توثيقي لضحايا جرائم الاسلحة الكيمياوية، وتضمين هذه الجريمة ضمن المناهج التربوية المدرسية، وإصدار طابع تذكاري لهذه المناسبة المؤلمة..

أما على الصعيد الشعبي، فقد توشحت حلبجة بالسواد، فيما قاطعت الغالبية من سكانها مراسم استذكار الفاجعة، إعرابا عن احتجاجهم على تقصير الجهاز الإداري في تلبية مطالبهم،وعن نفاد صبرهم ، شأنهم شأن بقية أهالي الشهداء العراقيين،من كافة القوميات والطوائف والأديان، ضحايا القمع والقتل والإبادة الجماعية،التي تفنن النظام البعثي الفاشي المقبور في ممارستها طيلة عقود.. وتعبير عن تذمرهم لطول إنتظارهم،منذ سقوط النظام المجرم، بأن تنصفهم الحكومتان ( المركزية والاقليمية )،وتنفذ وعودها بتقديم  الرعاية والاهتمام بهم،صحياً وبيئياً وإجتماعياً،بما من شأنه توفير الحياة الكريمة لهم،أو على الأقل، لمَن بقي حياً من ضحايا السلاح الكيمياوي ولذويه..كأبسط ما يجب القيام به تجاه سكان حلبجة..وهو حق مشروع لهم على المسؤولين..

المؤسف ان حكام العراق الجدد،من المتنفذين في القرار السياسي، بما فيهم الأكراد،أثبتوا لحد اليوم،أنهم كثيروا الوعود، قليلوا الفعل..فهم ليس فقط لم يبدوا أي إهتمام يذكر، ولم يقدموا عملياً أية رعاية، ناهيكم عن التعويض،لا لذوي الشهداء، ولا حتى للمتضررين من فعل السلاح الكيمياوي،من الباقين أحياء، وإنما يواصلون إستفزازهم العلني لذوي الشهداء، من خلال تعطيل تنفيذ الحكم القضائي العادل بحق كبار المجرمين، كعلي حسن المجيد، وغيره من الذين أمروا ونفذوا جرائم الإبادة الجماعية،الصادر عن المحكمة الجنائية العليا، وتم التصديق عليه من قبل الجهات القضائية العليا العراقية..ناسين او متناسين ان هؤلاء الأوباش مسؤولون عن إبادة مئات الآلاف من العراقيين، ولا ينبغي السماح لهم للعيش ولو ليوم اَخر، ولابد من إنزال العقاب العادل بهم فوراً !

لمن نسي من هؤلاء المسؤولين، نواصل تذكيرنا له بما أقترفته أيدي المجرمين الآثمة وشركاءهم..

*     *     *     *     *

مجرمو حرب  ومجرمون بحق الجنس البشري العراقي

في بحث أكاديمي قيم، إ ستند فيه د. منذر الفضل الى إتفاقية منع إبادة الاجناس البشرية والمعاقبة عليها لعام 1946، وعلى احكام الجريمة المذكورة، وتعريف الإبادة (التي يقصد بها التدمير المتعمد للجماعات القومية او العرقية او الدينية او الاثنية)، وما يراد بكلمة او مصطلح genocide  في اللغة اللاتينية ( قتل الجماعة) ، وبالإشارة الى اقتران اسم وشيوع مصطلح "جريمة الابادة" مع النازية اولا، حيث جرى قتل ملايين البشر بسبب دينهم او اصلهم العرقي، وأعتبار الجريمة من نمط الجرائم ضد الانسانية، حتى ولو لم تكن الجريمة اخلالا بالقانون الداخلي للانظمة المنفذة لها..

ووفقاً لنص المادة الثانية من الاتفاقية المذكورة :" في هذه الاتفاقية تعني الابادة الجماعية ايا من الافعال التالية: المرتكبة عن قصد التدمير الكلي او الجزئي لجماعة قومية او اثنية او عنصرية او دينية , بصفتها هذه: قتل اعضاء من الجماعة. الحاق اذى جسدي او روحي خطير باعضاء من الجماعة. اخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا او جزئيا. فرض تدابير تستهدف الحؤول دون انجاب الاطفال داخل الجماعة. نقل اطفال من الجماعة عنوة الى جماعة اخرى"، وهي افعال اجرامية يعاقب عليها القانون، سواء من خلال الابادة فعليا، او بالتامر على ارتكاب الابادة الجماعية، او التحريض المباشر والعلني على ارتكابها، او في محاولة ارتكابها، او الاشتراك فيها، تعرض للمسؤولية القانونية اي شخص كان حتى ولو كان مسؤولا دستوريا، او موظفين عامين، او افرادا،ولا تسقط هذه الجريمة  بمرور الزمان..

وتوضيحاً لكيفية حصول قتل الجماعات، طرقه ووسائله، ومنها:

 -الابادة الجسدية، وتتمثل في قتل الجماعات بالغازات السامة، او الاعدام، او الدفن وهم احياء، او القصف بالطائرات او الصواريخ، او باي وسيلة اخرى تزهق الروح، وهو ما حصل مع مئات الالوف من المواطنين في جنوب العراق اثناء الانتفاضة وخلالها في اذار ونيسان وما بعدها عام 1991 ، بدون محاكمة، وفي سجن ابو غريب ببغداد، وهو مما ينطبق علية وصف الجريمة الدولية في ابادة الجنس البشري، وقد جاءت هذه الجريمة ضمن حملة ما يسمى بـ ( تنظيف السجون ).

 -الابادة البايولوجية، وتتمثل بطرق تعقيم الرجال، او اجهاض النساء وبوسائل مختلفة، بهدف القضاء على العنصر البشري( الفقرة د- من المادة الثانية) من اتفاقية منع ابادة الاجناس والمعاقبة عليها، الخ…

 أثبت البرفسور الفضل، بما لايقبل أدنى شك، ان الطغمة الحاكمة السابقة في العراق إقترفت جرائم إبادة جماعية، وجرائم حرب دولية ضد الجنس البشري في العراق.

 وسرد الباحث نماذج من جرائم الحرب الدولية المرتكبة في العراق، مثل:

 *جريمة إبادة الجنس البشري genocide ، التي تعتبر من اخطر الجرائم الدولية التي ارتكبت في جنوب العراق، وضد الشعب الكردي في كردستان العراق، من خلال تطهير العرق الكردي جغرافيا, أي من المناطق الكردية, والإبادة الثقافية وفي  سياسة تعريب الكرد.

 *من خلال استعمال السلاح الكيماوي ضد الكرد، و ضد العرب في جنوب العراق وفي الاهوار.وقد حصل ذلك في الأعوام  1988 و في 1991.

 *ضرب الأهداف المدنية بالصواريخ و الطائرات أو من خلال القصف المدفعي كما حصل مع القرى الكردية الآمنة[18] ..

للمجرمين شركاء..!

تنطوي تجربة الشعب العراقي مع إستخدام النظام المقبور للأسلحة الكيمياوية في مدينة حلبجة في اَذار/ مارس 1988 على حقيقة مرة، إذ ظلت الدوائر الغربية ترفض- كما يؤكد الكاتب أحمد بشير- إدانة صدام وأسرته الحاكمة رغم علمها باستخدام النظام لأسلحة كيمياوية في قتل نحو 5 اَلاف مواطن عراقي، لكنها فضلت الصمت، وحاولت رمي التهمة على إيران ولم تفلح. وكان يعنيها في ذلك الوقت ان يخرج نظام صدام من الحرب العراقية-الأيرانية دون خسائر كبيرة، وبالتالي تم سحق العراقيين بهذه الذريعة، وخاصة من قبل فرنسا، التي إشتركت مع ألمانيا وغيرها من العواصم الغربية، في إمداد النظام بالأمكانيات الكيمياوية والبايولوجية[19].

والحق إن القصف الكيمياوي لمدينة حلبجة، الذي اقترفته السلطة الدكتاتورية في العراق" يعد جريمة  يندى لها جبين التاريخ، وتعد وشم عار على جباه الديموقراطيات الغربية التي تتغنى بحقوق الانسان بينما تطلق العنان للانظمة الدكتاتورية التي تخدم مصالحها لتنفيذ جرائم ومذابح وحشية بحق الابرياء، مستخدمة الاسلحة التي تتنتجها مصانع دولها، التي لم تكن غافلة بالجرائم والسياسات اللانسانية، فحسب، وانما كانت تساهم مساهمة مباشرة في ترسيخ كيان تلك الانظمة الدكتاتورية، وامدادها بشتي انواع وسائل القمع والابادة والتدمير لتلك الاغراض. فحري بكل انسان حر ان يستذكر تلك الجريمة الوحشية ويساهم في تعرية تلك السياسات التي تجري ضد الانسانية في سوق مزايدات السياسة الدولية" [20].

حيال ذلك الواقع،إعتبر السناتور الأميركي كابيون بيل-رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، اَنذاك: " إن عدم إقدام الكونجرس على إتخاذ إجراء ضد النظام العراقي لإستخدامه الغازات السامة والأسلحة الكيمياوية ضد المواطنين العراقيين والمعارضة، هو أشبه بمأساة" [21]..

ويذكر أن الإدارة الأمريكية لم  "تتكرم" بإدانة الجريمة البشعة إلا بعد مرور 10 سنوات عليها.عندئذ أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية،لأول مرة، بياناً نددت فيه بقصف الطائرات الحربية العراقية الغاشم لمدينة حلبجة.وأكدت فيه ان سكان هذه المدينة الضحية ما زالوا يعانون من مشاكل صحية خطيرة بسبب ذلك الهجوم، مؤيدة بذلك نتائج البحث الميداني الذي أجرته الأستاذة الجامعية البريطانية كريستين جوسدين.وجاء في البيان: إن سكان حلبجة يعانون من معدلات أكبر كثيراً من المتوسط للإصابة بالسرطان وأمراض خطيرة أخرى وتشوهات المواليد وحالات الإجهاض.وأفاد  بيان الوزارة الذي قرأه المتحدث الرسمي بإسمها اَنذاك جيمس روبن، أنه بين عامي 1983 و 1988 قتل أيضاً ما يقدر بنحو 20 ألف جندي إيراني في هجمات كيمياوية أخرى شنها العراق.

 ولا غرابة في ذلك، فالولايات المتحدة كانت قد دعمت العراق في حربه ضد إيران،ولذا رفضت إتهام الحكومة العراقية بإستخدام الأسلحة الكيمياوية، سواء ضد القوات الإيرانية،أو ضد سكان مدينة حلبجة وغيرهم. .وبرر مسؤولون في حكومة رونالد ريغان ذلك بـ" عدم وجود" أدلة تثبت مسؤولية بغداد عن إستخدام تلك الأسلحة، رغم أن منظمات إغاثة دولية، ووسائل إعلام أمريكية وبريطانية، نشرت تقارير مفصلة، وقدمت أدلة واضحة عن الكارثة.

  

خاتمة

 جريمة مجزرة حلبجة الكردية العراقية تُعدُ بحسب الخبراء في القانون الدولي ثاني أبشع جرائم الإبادة الجماعية،بعد جريمة الأنفال، التي إقترفها النظام البعثي الفاشي. ولعل الأبشع، أنها نفذت من قبل القوات العسكرية للبلد، بأمر من حكومته، ضد مواطني البلد،وفي مقدمتهم الأطفال والنساء، وهذا ما لم يحصل في أي بلد اَخر في العالم غير العراق، الذي إبتلى شعبه بنظام دكتاتوري بشع،هو النظام البعثي الفاشي، صاحب الباع الطويل، وذو الخبرة الكبيرة في أعمال الأرهاب والقمع الدموي والأبادة الجماعية المنظمة، حتى أنه بز هتلر و موسوليني وغيرهما من عتاة النازية والفاشية، بما إقترفته أجهزته القمعية الآثمة من جرائم يندى لها الجبين!

 عشرون عاماً مضت على هذه الجريمة النكراء، وكانت جميع القوى الوطنية العراقية، وفي مقدمتها الكردية، تنتقد المجتمع الدولي،طيلة 15 عاماً، على سكوته تجاه جريمة النظام السابق وشركاءه..وها هي 5 أعوام تمضي والنظام المجرم ولى غير مأسوف عليه الى مزبلة التأريخ العفنة.والسلطة اليوم غير سلطة الأمس..وثمة برلمان منتخب من قبل غالبية أبناء وبنات الشعب العراقي..وللأكراد في البرلمان ورئاسة الدولة ومجلس الوزراء، أي في كافة مؤسسات القرار السياسي المتنفذ في العراق، حصة كبيرة.. وعدا هذا، لهم رئيس، وبرلمان، وحكومة كردية..

فماذا فعل هؤلاء جميعاً لضحايا حلبجة، وتحديداً للمتضررين من القصف، من المرضى، والمقعدين، والعجزة، ولأهل الشهداء ؟ !!..هل قدموا لهم الرعاية المطلوبة، وهل وفروا للأحياء من أهالي حلبجة المفجوعين حياة كريمة، ناهيكم عن تعويض ذوي الشهداء ؟!!

أليس هذا هو حق مشروع لهؤلاء المواطنين على الدولة العراقية،بحكومتيها المركزية والأقليمية ؟

وكيف يبرر مسؤولوا العراق الجديد،وخاصة الأكراد منهم،إستفزازهم لمشاعر ذوي الشهداء، بتعطيلهم لحد اليوم تنفيذ حكم القضاء العادل والنزيه بالمجرمين الذين نفذوا تلك الجريمة البربرية النكراء ؟!!

  يا سادة يا كرام !.. ليتذكر منكم من نسى أو تناسى، ان السلطة لن تدوم بأيديكم الى الأبد !.. وسيأتي اليوم الذي يحاسبكم فيه الشعب على كل أعمالكم ومواقفكم السلبية.. وعندئذ لن يرحم من خذلوه، أو لم يفوا بوعدهم إليه، ناسين شهدائه ومحنه وفواجعه وماَسيه !

 

 الهوامش:

---------

[18] - د.منذر الفضل،إبادة الجنس البشري والجرائم الدولية في كردستان وجنوب العراق، بحث قدم الى المؤتمر العلمي عن ابادة الجنس البشري في العراق، انعقد في جامعة لندن، في 26/7/2002

 [19] -أحمد بشير،أسلحة محرمة دولياً إستخدمها النظام ضد شعبنا،"بغداد"، العدد 302،في 18/10/1996.

 

[20] -صلاح حسين كرميان/ سيدني،القصف الكيمياوي لمدينة حلبجة  جريمة،بين سياسات الامس واليوم، نشرت على الإنترنيت.

 [21] -"رسالة العراق"،مصدر سابق. 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com