لم اعتراضي على المجلس الأعلى؟
د. حامد العطية
hsatiyyah@hotmail.com
كنت ولا أزال مسخراً قلمي للدفاع عن حقوق ومصالح العراقيين بشكل عام، والشيعة بشكل خاص، لا لتعصب طائفي، بل لأنهم كانوا ولا يزالون الفئة المظلومة والمضطهدة في العراق، لذا أجزم بأن حماسي وفرحي لسماع خبر تأسيس مجلس الثورة الإسلامية في العراق أواسط الثمانينات من القرن الماضي لم يكن بأقل من مؤسسيه وأقرب الناس لهم، وتأملت أن يكون ذلك بداية الطريق نحو خلاص العراقيين جميعاً من الطغيان البعثي، وتمنيت أن يكون للمجلس دوراً رئيساً في الإطاحة بالنظام، وكنت في المنفى الإختياري من المتابعين بشغف لعملياته القتالية في أهوار العراق وعلى الحدود مع إيران، وانتظرت سماع خبر امتداد هذه العمليات إلى العمق العراقي، وتمنيت لو كان صحيحاً ما تناقله بعض أخواني المهجرين في سوريا من أن قوات بدر وفي الأيام الأخيرة من الحرب ساهمت في صد هجمات كبيرة للقوات العراقية داخل الأراضي الإيرانية.
عندما قامت الانتفاضة الشعبانية في الجنوب توقعت التحاق قوات المجلس بها، والاسهام في قيادتها وتنظيمها وتجهيزها لتكون أكثر فاعلية في التصدي لقوات النظام، ولكن خيبة أملي بفشل الانتفاضة ونتائجها المريرة على الشيعة لم تفقدني الثقة تماماً بالمجلس الأعلى، وقلت لنفسي لعل أسباب قاهرة منعتهم من نصرة أخوانهم المنتفضين، ورفضت مراراً وتكراراً تصديق ما يبثه الأعداء البعثيون وغيرهم ضد المجلس، ومن بينها تلك الوريقة الصفراء التي وجدتها في صندوق بريدي في معهد الإدارة العامة بالرياض أواسط الثمانينات، وكلها انتقاص للمجلس ورجاله، وخمنت في حينها بأن المخابرات العراقية دستها بين رسائلي عبر عملائها من العراقيين العاملين في المعهد، بعد علمها بمعارضتي العلنية لنظام الطاغوت البعثي.
لا زلت لا أجد ضيراً في حقيقة أن المجلس مؤسس بقرار إيراني، فالإيرانيون أخواننا في الدين والمذهب، وعلينا كما عليهم النصرة في الحق وضد العدوان والطغيان والإحتلال، ولم تتغير نظرتي للمجلس بعد لقائي بأحد ناشطيه في أواخر الثمانينات في دمشق، وكنت قدمت إلى سوريا بعد رفض السفارة العراقية في السعودية تجديد جواز سفري، وكان قريب لي رحمه الله اصطحبني إليه لصرف مبلغ من الدولارات، وبعد استماع هذا الناشط لقصتي عرض علي مساعدتي في الحصول على جواز سفر بديل وحتى إيجاد عمل لي في الإمارات، ولكنه بعد قليل عدل عن موقفه من دون سبب، واقنعت نفسي بأن هذا الرجل لا يمثل المجلس وسياساته ومواقفه من مساعدة العراقيين، وبقيت على نظرتي الإيجابية للمجلس حتى بعد سماعي بخبر وصول أحد كبار قادته إلى دمشق التماساً لوساطة مع آل الجلبي لانقاذ المبالغ التي أودعها المجلس في حساب لدى بنك آل الجلبي المفلس، وقد تساءلت مع نفسي وقتها عن سبب إيداع المجلس لأمواله في بنك ربوي وخارج إيران الإسلامية التي هي مصدرهم الوحيد للدعم والتمويل، ورفضت الحكم عليهم بالظواهر مفضلاً تغليب حسن الظن.
كانت نفسي مائلةً كل الميل، عقلاً وقلباً، للمجلس الأعلى وحزب الدعوة من دون انتماء، ولدرجة تبرعي بعشر المال الذي جمعته من عملي في السعودية للحزب ولمساعدة العراقيين المعارضين في الثمانينات.
تجددت الآمال التي عقدتها على المجلس وحزب الدعوة وغيره من الحركات السياسية الشيعية في المهجر بعد سقوط النظام الطاغوتي، ولكن سرعان ما تلاشت كل الآمال بفعل سيول دماء الشيعة الأبرياء والتفجيرات الغادرة وسلسلة التنازلات المهينة التي قدمتها هذه الجماعات الشيعية العائدة من المنفى، والتي انتظرنا بفارغ الصبر رؤيتها على سدة الحكم، للمحتلين الأمريكان والإرهابيين، وتدريجياً تلاشت ثقتي بالمجلس الأعلى، وتبخرت كل الأهداف التي انتظرت منه تحقيقها، بل أصبحت مقتنعاً كل الاقتناع بأن وجوده واستمراره في العملية السياسية وبال على العراق بصورة عامة وعلى الشيعة بالخصوص، فقد برهن وبالمواقف والقرارات والأفعال بأنه تنظيم نخبوي استعلائي، يخدم أهداف منتسبيه بالدرجة الأولى، ولا يتورع عن استخدام أساليب مرفوضة في بلوغ مآربه، مثل اجتذاب الأتباع والأنصار من خلال اغرائهم بالمناصب والنفوذ، وقد فرط بالأهداف والمباديء السامية التي وضعها له قادة إيران الإسلامية، وانضوى في تفاهم مخزي مع ألد أعداء التيار الشيعي الاستقلالي والتحرري الذي تقوده إيران، وعلى رأسهم الاستكبار الأمريكي المتصهين.
ولأن ديننا يأمرنا بقول الحق ولو على أنفسنا فالواجب علي بيان أسباب اعتراضي على المجلس الأعلى، ومن أهما ما يلي:
· قبول المجلس بالاحتلال الأمريكي وإضفاء الشرعية عليه بدعوى وجود تفويض بذلك من الأمم المتحدة، وتبرير استمرار تواجد القوات الأجنبية على أرض العراق، وتوفير الغطاء الديني والمذهبي للإحتلال بذرائع واهية، ورفضه تحديد جدول زمني لانسحاب قوات الاحتلال وترويجه لإبرام معاهدة أمنية مع أمريكا تؤسس لتبعية العراق لأمريكا وربطه بسياساتها المعادية لشعوب المنطقة وتمكين شركاتها الاحتكارية من استغلال موارده، ويستدل من هذه المواقف على خروج المجلس الأعلى عن النهج الاستقلالي للمسلمين، وللشيعة على وجه الخصوص، والذي أسست له المدرستان الصدرية في العراق ولبنان والخمينية في إيران، وقبوله بدور هامشي للشيعة ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي الصهيوني.
· نتيجة إذعانه للإحتلال الأمريكي، ولو إلى حين كما يدعي، يتحمل المجلس مسئولية مشتركة عن كل الكوارث التي حلت بالعراق وأهله نتيجة الاحتلال، ومن بينها قدوم الإرهابيين الطائفيين إلى بلدنا بعد دعوة الرئيس الأمريكي لهم للمنازلة على أرض العراق، وما نتج عن ذلك من عمليات إرهابية وحشية راح ضحيتها مئات الألاف من الشيعة الأبرياء، وتدمير بعض أقدس مراقدهم الدينية، وتشريد الملايين منهم داخل وخارج العراق، ناهيك عما أحدثته العمليات الإرهابية من تخريب واسع للمنشآت والمرافق الإنتاجية والخدمية، وايصال العراقيين إلى شفير حرب أهلية.\
وقد استغل الاحتلال الأمريكي إذعان المجلس الأعلى لمشيئته ومخططاته، وهو المكون الرئيس في الائتلاف الشيعي، ليمعن في تخريب العراق حاضراً ومستقبلاً، من خلال ترسيخ نظام سياسي طائفي، والتلاعب بالمعادلة الطائفية والإثنية بما يتفق ومصالحه وخططه في العراق، ولم يعارض المجلس الضغوط والتدخلات الأمريكية المقوضة للدور الشيعي في العملية السياسية، إذ لم يترك الاحتلال الأمريكي فرصة واحدة إلا واستثمرها لإضعاف الشيعة في العراق، فالأمريكان يدركون جيداً بأن قوة العراق من قوة الشيعة العراقيين، وكلاهما يعززان النهج الإستقلالي الإسلامي الشيعي والسني في العالم، لذا سعى جاهداً لإضعافهم من خلال تقوية الأطراف الأخرى، أي ممثلي السنة المتطرفين والأكراد الإنفصاليين، وذلك من خلال الضغط المتواصل على الشيعة لتقديم التنازلات إثر التنازلات للأطراف الأخرى، بدعوى المصالحة الوطنية والفدرالية والحكومة الوطنية، وبالنتيجة فإن الحكومة التي يرأسها شيعي وأغلب وزرائها شيعة لا تحكم فعلياً، ولكنها تتحمل المسئولية عن كل الاخفاقات التي منيت بها العملية السياسية، ولا زالت مطالبة من قبل المحتلين الأمريكان والأطراف العراقية الأخرى بتقديم المزيد من التنازلات.
· قدم المجلس الأعلى تنازلات جسيمة عن حقوق الشيعة ضمن العملية السياسية، بدءً بالقبول بمقاعد نيابية أقل من الاستحقاق العددي للشيعة وانتهاءً بتبنيه مبدأ "القيادة الجماعية"، وبعد أن وعد الشيعة والعراقيين باجتثاث حزب البعث والاقتصاص من أعضاءه المجرمين رضي بأقل القليل من ذلك بموافقته على قانون العدالة والمسائلة، وقد أرسل بذلك رسالة واضحة بأن دماء الأبرياء رخيصة وإن من يستبيحها يمكن أن ينجوا من العقاب لمجرد كونه من طائفة أخرى، وهكذا يتبين لنا بأن المصالحة الوطنية هي مجرد تنازل عشائري عن دماء الشيعة لصالح قتلتهم من أتباع النظام السابق والإرهابيين الذين منحتهم الحكومة العراقية وقوات الإحتلال صكوك غفران، والقليل المتبقي من دور وتأثير للشيعة في العملية السياسية تبخر مع ظهور وممارسة مبدأ "القيادة الجماعية"، الذي سوقه رئيس الجمهورية الطالباني، وأقرته الحكومة والمجلس الأعلى. لقد تنازل المالكي بنفسه عن صلاحياته ورضي المجلس الأعلى بذلك، فلا جدوى من الاحتجاج على طالباني أوالهاشمي أو عبد المهدي لامتناعهم جماعة أو فرادى عن المصادقة على أوامر إعدام البعثيين أو القوانين التي يسنها البرلمان لأن المطلوب أمريكياً وصهيونياً وسعودياً وإردنياً تقليص الدور الشيعي في العملية السياسية، وتحييد الأصوات الشيعية المطالبة بالتحرر والانعتاق من التبعية للمخططات الأمريكية.
· عند اشتداد الهجمة الإرهابية الطائفية على الشيعة والتي تسببت في استشهاد مئات الألاف منهم وتشريد الملايين دعا المجلس الأعلى وعلى لسان رئيس منظمة بدر التابعة له الشيعة للاقتداء بهابيل الذي رفض مقابلة شرور أخيه بالمثل، وكانت النتيجة مقتل هابيل، وعندما نضع هذا الموقف في خلفية المكان والزمان الذي كانت فيه القوات العراقية عاجزة عن حماية نفسها، وقوات الاحتلال غير مكترثة بتأمين الأمن، نخلص إلى إنها خطأ جسيم لقادة سياسيين، وإن عن غير قصد، لتسببه بسفك المزيد من دماء الشيعة واغتصاب نسائهم وتشريدهم، وكان الأجدر بهم اتخاذ موقف قوي وصارم وتوعد القتلة بأشد العقوبات. وتفاقمت النتائج الدموية لهذا الموقف المائع والمتخاذل من الإرهابيين عندما لم تقتص الحكومة من الإرهابيين الذين وقعوا في قبضتها، ولعل البعض يتذكر مرارة شكوى الشيعة المفجوعين بأحبتهم من سجون الحكومة التي تحولت إلى محطات استراحة للإرهابيين، إذ لاينقضي وقت طويل حتى يطلق سراحهم سياسي من نتاج "المصالحة الوطنية" أو ضابط طائفي أو مسئول مرتشي.
· يتحمل المجلس الأعلى شطراً كبيراً من المسئولية عن الفساد المالي والإداري، الذي أصبح آفة خطيرة على العراق، ويأتي في المرتبة الثالثة بعد الاحتلال والإرهاب من حيث نتائجه السلبية على حاضر ومستقبل العراق، ومن الملاحظ ارتفاع وتيرة الشكوى من الفساد الإداري بمختلف إشكاله بما في ذلك الرشوة واستغلال المناصب وتزوير الشهادات وتوظيف الأقارب والمحاسيب في المناطق الجنوبية التي يديرها أتباع المجلس الإعلى، وعلى الرغم من مرور خمسة أعوام على سقوط النظام الطاغوتي والاستقرار الأمني النسبي في الجنوب المسير من قبل المجلس الأعلى فقد تدهورت فيه الخدمات العامة إلى الدرك الأسفل، ولم تتحقق أي من وعود الحكومة المركزية أو الحكومات المحلية التي يسيطر عليها المجلس الأعلى بتوفير فرص العمل لجيوش العاطلين وتشجيع الاستثمارات، وما أشبه الجنوب العراقي اليوم بالمنطقة الشرقية من الجزيرة العربية المحتلة من آل سعود الوهابيين، فالإثنتان يستخرج منهما النفط ويظلم أهلهما من الشيعة ويقتلون.
خمس وعشرون عاماً مضت منذ مغادرتي العراق إلى المنفى الإختياري امتثالاً للأمر الآلهي لعباده المستضعفين بالهجرة من دار الطغيان والبغي، تحولت فيها من مناصر للمجلس الأعلى ومنهجه الإسلامي التحرري - من دون انتماء - إلى معارض للمجلس لتخليه عن هذا المنهج المبارك ولمجاراته الإحتلال الأمريكي ومخططاته الشريرة، وتنازلاته عن حقوق المستضعفين في العملية السياسية، وتهاونه في الدفاع عن أرواح وأعراض وممتلكات الأبرياء العزل، وممارساته الخاطئة في إدارة المؤسسات المحلية والأجهزة الحكومية.
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب