|
يوم الطبك بالغربة
عماد خليل بِلَه (عماد الحاج كاظم) أه... أه... الالم يشد على قدمي.. وانطلق تيار الهواء عبر الفم هاربا من الجسد المتعب ليأخذ معه شيئا من ذاك الالم ويمزجه في مكونات الطبيعة المحيطة حيث يخبأ كلنا الامه واحلامه وشكواه وسعادته وخططه السرية والعلنية. انا متمددا على ارض الغرفة حيث عدت اليها قبل دقائق من العمل المجهد لهذا اليوم خلال الاثنتي عشر ساعة المتواصلة، لكن التعب ليس بمصدر ألمي اذ هذا الشيء امرا مسلما به في ظل عمر اخذ يزحف على الستين من اعوامه ويشتغل حامله بجهد ثلاثيني. كان الوجع متزايدا اليوم في رجلي اليسرى حيث لم تخفف فعالية حبات المسكن من حدته اذ يبدو ان العصب الممتد من حزام الظهر الى اسفل القدم في تلك الرجل قد وقع مضغوطا عليه بشدة في الشق الكائن في الجهة اليسرى من الدسك مسببا كل هذا الاه. والشق في الدسك هذا حصلت عليه مكافأة من حكومات مابعد صدام بجانب مرض السكري، وذلك لاني مارست اندفاعي العاطفي وتصورت انه بامكاني المساهمة في اعادة بناء العراق، فتركت عائلتي في غربتها وعدت اتشمم بلادي، فوجدت عشاق العراق الجميل مركونين على رفوف الحياة يكدسون معاناتهم واحتجاجاتهم الصامتة اكثر الاحيان والخافتة بعض حين على فوضى المظالم التي نزلت عليهم متتالية بعد ان لاحت لشهور قصيرة نافذة امل بحرية تفتح بابا لاعادة تكوين يليق ياهل البلاد. يقول من يتكلم منهم ان المسدس الذي يمارس القرار ويتحكم بالسلطة الديمقراطية يطلق الموت مستسهلا وكأنها فعالية من لعب الاطفال. اذن هم ينتظرون حالة من السلم ، ينتظرون ان يتلاشى زبد التغيير هباءا قبل ان يلملموا بقاياهم، وهم على حق بذلك ولربما هي طبيعة المجتمعات التي لم تعرف غير الاستبداد. وان تراهم يتجمعون ببطء تجمع قطرات الماء المتسللة من خلف جدران زير الماء الفخاري في الوعاء الصغير اسفله لتشكل في الاخير ملأ كاسة تروي ظمأ عطشان. نظرته تتركز علي وهي تنطلق من عينيه الواسعتين صارمة. احسست بعتابه. كيف لم تشارك اليوم في احياء مراسم الحسين ع ؟ الم ترض محبته مع حليب امك؟ هذا ما قرأت في صورة وجهه. في يوم الطبك العاشر من محرم تنتهي المارسم في مدينتنا الحلة قبيل الظهر حيث تبدا مواكب العزاء منذ الصباح الباكر بعد ان يقضي غالبية سكان المدينة ليلتهم في الشوارع والازقة والحسينيات مشاركون ومتفرجون على عمليات التطبير. وفي باكرة الصباح تنطلق المحلات السكنية بمواكب اللطم الخاصة بكل منها لتصب في حسينية ابن طاووس التي كانت منتصبة في تاريخ ماضي على الشارع العام في محلة السنية. يختتم كل عزاء بقراية حماسية ولطم متهيج داخل الحسينية ويجلس على صف من الكنبات عند مدخلها مجموعة من وجهاء المدينة وربما مسؤولون حكوميون لاستقبال المواكب. انتهى موكب محلتنا الكَلج وهي محلة صغيرة تقع في الصوب الصغير من المدينة فلملمت البيرغ القديفة الاسود برسومه الخضراء الغالبة على نقوشه والذي اشترته لي جدتي العلوية . احمله متقدما مع حملة البيارغ اذا لم اشارك في اللطم. اتبع واخي علي الذي يصغرني باربعة سنوات والدنا متوجها الى الدكان في سوق الدهديوة، السوق التسوق الرئيس لاحتياجات المطبخ حيث يعج صباح كل يوم بالنساء وهن يشترين الخضار واللحم والدهن والتمن والصابون، واحيانا الفواكه مثل الرمان والكوجة فقط اذ ان شراء بقية انواع الفواكه والرقي والبطيخ عادة يمارسها الرجال بينما تنحصر مهمة النساء بشراء ما يصنع الغداء منه. ينتهي فطورنا من الباقلاء بالدهن والبيض المقلي كما هو في كثير من ايام تناولنا الفطور مع الوالد ، لننطلق مشيا على الاقدام او نركب عربة النقل التقليدية التي تجرها الخيول المسماة ( الربل) الى كراج كربلاء في منطقة باب الحسين. في ذلك الزمان قبل وبعد دخول باصات مصلحة نقل الركاب العامة عملية نقل الركاب كانت الربلات تشكل وسائط خط النقل بين مركز المدينة حيث موقفها عند غرفة ادارة الجسر الصغير وبداية مقهى ابو سراج لتنطلق باتجاه باب الحسين، او تتوقف على الجانب الاخر من الشارع امام محل السيد محمد من سكنة محلة كريطعة ، والسيد بالاضافة لعمله في بيع التبغ والسكائر كان رجل دين كما تدل عمامته السوداء التي تتموضع على راسه، كان السيد شخصا هادئا وبجسم نحيف منحني قليلا الى الامام وربما لذلك نشاهده يمثل كل سنة لمرة واحدة دور الامام موسى الكاظم ع في ذكرى وفاته. حيث تعاد وقائع الحادثة على شارع الجسر الصغير. يقاد السيد الامام من قبل شلة من السجانين مكبل اليدين والرجلين بسلاسل حديدية محركا قدميه بتؤدة مبينا قساوة المرض والنحول والارهاق التي المت به في سجن الخليفة وثقل الحديد الذي يحز معصميه ويكبل قدميه ليسقط وسط صياح " اليبوه" المتعالي من حناجر النسوة الحزينات متمددا وسط الجسر، فيظهر عند اول الجسر اتيا على جواد رجل ذو قامة مديدة بملابس بيضاء. يترجل بجانب الجسد الطريح و يقرفص عنده ثم يقوم بحركات توحي القيام باجراء فحص طبي، وما هي الا دقائق حتى ينهض صاحب الملابس البضاء ليكت جملا غير مسموعة في اذن قائد الحرس المحيطين بالسيد المسجى وسط نفاذ صبر المتفرجين الصامتين ، فيتلفت هذا بين جانبي الجسر ونظراته المتحدية المظهر كسيرة من الداخل بخوف يحاول تغطيته وهي ترمي بجواب تنتظره الجموع المكدسة حول موقع الحدث منتظرة ان يؤكد لها حدسها. وبعيدا عن مظهره كشرطي في خدمة الخليفة يعلن بحزن " مات الامام" ليتعالى الصراخ واليبوه متكررا، ويقوم بقية الحراس بحمل الجثمان الى دكان السيد محمد ليعود بعد استراحة يمارس عمله في بيع التبغ. في ذلك اليوم تعطل الحلة اعمالها. في المدرسة المتوسطة كان بعض المدرسون يحذرطلابه من التغيب ذلك اليوم وقد يفرض لهم امتحانا فيه، لكن الطلاب وخاصة في ثانوية الفيحاء ومتوسطة الحلة للبنين قبل تهديمها ومدارس الفيحاء والاستقلال الابتدائيتين القريبة من الجسر كنا نتغيب ونحضر الواقعة ونترك امر المدرسة و المدرسين لموسى ابن جعفر يتولاهم، وماكان الامام يخيب رجائنا فلا غياب يحتسب ولا امتحان. من امام دكان السيد محمد وبجانبه محل حسن لبيع الملابس ، وبجوارهما ايضا على الجانب الاخر لمدخل القيصرية المسقوفة محل اخر لبيع التبغ وسكائر المزبن لصاحبه السيد خليل اسماعيل والد علي استاذ الرياضيات لاحقا وصديقنا في المتوسطة حسن. وضمن محلات هذه القيصرية دكان صغير يشغله محامي كان وزيرا في زمن حكم احد الاخوين عارف يضع اسمه مكتوبا " مالك دوهان الحسن" على قطعة خشب صغيرة فوق طاولة مكتب يشغل معظم مساحة الدكان. من هناك تنطلق الربلات نحو باب المشهد. كانت اجرة الركوب عشرة فلوس. في اواخر ستينات القرن العشرين كانت المدرسات العاملات في الحلة من بنات المدن الاخرى ومعهن بنات بعض العوائل الحلية والتي اصبحت حلية لطول فترة سكنها وولادة اطفالها فيها من العوائل المتمدنة يستعملن الربل في تنقلاتهن. حينها كانت التنورة النسائية بطول بضعة اصابع تحت الركبة، وعند الجلوس يرتفع القماش احيانا فوق الركبة لتنكشف مساحة اصبعية من الساق. كان محل الجلوس في الربل مكشوفا لذا يمكن للمبصبصين ان يروا كل حسب قوة نظره ما يتيحه المنظر. يبدو ان مدرسنا اللطيف في المدرسة المتوسطة لم ير ما يكفيه لذا اعلن مرة احتجاجه امام طلابه حين قال في فترة استراحة: \والله هذني النسوان السافرات الي يصعدن الربل، وحدتهن كاعدة طول السفرة تجرجر بذيل ثوبها \والله شكو\ تريد ان تغطي زرورهه، \ شايفين بربكم لعد انت شكو لابسة كصير\ لو تلبسين طويل وتخلصينه ، لو تشيلين ايدك وترحمينهه.
ينطلق باص مصلحة نقل الركاب مخلفا كراج كربلاء في منطقة باب الحسين وراءه ومتقدما نحو المدينة المقدسة. خلال الطريق يأخذ الركاب وابي واخي وانا جزء منهم وحيث الاباء خاصة يعرفون بعضهم وبمشاركة سائق الباص بالتعبير عن اهدافهم فينشدون : " من الحلة الكربله راياتنه منثورة غصبن على اخشوم العدة كبر ابو اليمة نزوره" ومعها " ماكو ولي الا علي ونريد حاكم جعفري......." وايضا " محسن زعيم الامة واسمه عل الظالم نقمة" وهكذا تصدح الحناجر حتى يتوقف الباص في مدخل مدينة كربلاء لنترجل وسط حركة زحام مواكب العزاء السائرة ونتدافع بسيرنا بين كتل صفوف المتفرجين لنصل حسينية موكب محلة الكلج لنساهم في الموكب. لم يكن باستطاعتي اليوم في البلد الغريب ان اشارك في الشعائر لطول فترة العمل، فلا تعتب عليَ، كان هذا اول ما اجبت به. ثم وبألم يختلف عما اعانيه من وجع رجلي اليسرى ، ألم ينبع من الروح الجريحة واصلت كلامي : ومن الذي رماني في حضن بلد اخر قَبِلَ ان يصير لي وطنا، ومن غربني من بلادي مرة اخرى لارتضي مجبرا حياة بلا روح غيرهم. تسألني من هم؟ لا ... لا ليس بعثيو عفلق ولا رجال امن صدام انهم من كنت تعلمنا ان نغني لهم... نعم صار لنا حاكم جعفري ، وبالمناسبة كان مرة اسمه الجعفري... اما السيد محسن ( قدس سره) فاولاده هم اصحاب الحل والربط في دولة اليوم. لا تنزع عقالك ولا تضرب . اصلا حتى هذا النوع من العكل السميكة الذي تتوج به راسك لم يعد يلبسونه في العراق، ربما اندثر تصنيعه، وبقي محصورا على قلة في غماس التي اشتهرت بحياكته. وماكل من لبس العقال بعاقلِ . ولم يعد في المدينة بضعة سيد وكم شيخ لهم قيمتهم فقد صار لبس العمامة بديلا عن لبس الزيتوني حتى ضاعت الطاسة، نعم... نعم مثل ما تضن ، كثير من جماعة الزيتوني صارت من انصار السيد. تخيلت العينان الواسعتان لوالدي قد تقلصتا ولمحت اسا ً كحلهما، وهذه اول مرة يلوح لي انكسار في والدي الجلد، حيث كان مثال الصلابة والجرأة والمخاطرة في في العائلة.. نعن كان بَلَه على جده الكبير عبد علي. حزينا مثله نهضت من فوق الارض وجلست على السرير امام صورته منحنيا الى الامام مطأطأ الرأس كمن ينتظر نصيحة او تقريعا، لكن الصورة بقيت جامدة في مكانها منذ لحظة نهوضي، فسألت نفسي " هل يندم والدي على هتافه المتكرر لسنوات مطالبا بحاكم جعفري لو عاش جزءا من عراق السنوات الخمسة الاخيرة. الحمد لله انه هناك عند العلي القدير ، ليجمعه سبحانه مع من احبهم"... وجنح بي خيالي فترجيته : لو حصل والتقيت بالسيد زعيم الامة في سموات الملكوت اوصيه ان يوصي بأن جده الحسين خرج لطلب الاصلاح في امة جده. و.... جاء صوتها من الطابق الاسفل زوجتي التي عادت من الحسينية قبل ساعتين من وصولي البيت: انزل عماد ام حيدر جلبت لنا تمن وقيمة. وهل لي ان لا انزل!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |