عودة الوعي العراقي

 

د. مراد الصوادقي

alsawadiqi@maktoob.com

  "ولم يبعد على نفس مرام              إذا ركبت له الهمم البعادا

  ولم أرَ بعد قدرته تعالى                 كمقدرة ابن آدم إن أرادا"

بعد أعوام مريرة اكتسب العراقيون وعيا جديدا وأدركوا حقائق الأمور وأصبحوا ذوي قدرة على التحقق والتألق والارتقاء الحضاري الواعي الأكيد. فقد خبروا تجربة لم تعرفها البشرية من قبل, بهذه القوة والتفاعل الشامل مع الواقع وعناصر الوجود التي تفجرت مرة واحدة في أرضهم. وتعاملوا معها بكل طاقاتهم وقدراتهم الخلاقة التي تحافظ على وطنهم, فساهمت في صياغة الإدراك الجديد  اللازم لبناء مستقبلهم وتحقيق أمانيهم. وتعلموا الكثير , وحققوا الكثير أيضا, وفعلوا ما فعلوه من السيئات مع بعضهم البعض, لكنهم أضافوا إلى أرشيف معارفهم مفردات جديدة وتطلعات أخرى لم تكن بالحسبان.

فأدركوا أن مسؤولية الوطن تقع على عاتق كل واحد منهم, وشق صفوفهم لا يحقق مصلحة أي فرد في المجتمع. وإنما الذي يحقق سعادتهم وأمنهم, هو الوحدة الوطنية والألفة والمحبة العراقية. فلا يمكن لأي شريحة اجتماعية أن تعيش بمعزل عن الأخرى . كما أن الطوائف والأعراق لا يجوز لها إلا أن تتشابك بقوة وصلابة مثلما تتشابك عروق النخيل في بلادهم. وتيقن الجميع أن التفاعل الإيجابي ما بينهم هو المفتاح الأصدق لحل الأزمات والانطلاق إلى الأمام بثقة وأمان. فأصبح تمزيق الصفوف والنسيج الاجتماعي من أمهات خيال المغرضين والطامعين والواهمين.

واتضح لهم بصورة فاضحة أن الأحزاب الدينية لا تصل بهم إلى نتيجة طيبة, وأن منطلقات كان يا ما كان وصراعات حل مشاكل الأجداث لا تنفع أحدا من الأحياء. وتيقنوا أن العراق فوق كل شيء يسعى على أرضه, وأنهم بدونه لا قيمة لهم ولا معنى. وأن حشر الدين بالسياسة من الخطايا التاريخية التي تعيد المجتمعات قرونا إلى الوراء وتغطسها في أطيان المآسي المتواصلة السوداء. فقد تعرت الأشياء أمامهم وسقطت الأقنعة وتهاوت الادعاءات وانكشف الضلال وتساقطت معاقل الأكاذيب والبهتان, وسطعت حقيقة العراق المضيئة بوجه المدعين والمتوهمين والدجالين, فهربوا إلى حيث تدوسهم سنابك الأجيال الواعية الظافرة الواعدة.

فقد تحرروا من الأفكار السلبية وعبروا عما فيهم بوضوح وصراحة , ووقفوا أمام أنفسهم بلا أغطية  أو أستار, فانبهروا بما شاهدوه , وأرعبهم ما فعلوه واندهشوا من التعبير عن السوء والشر المقيت, فلجئوا إلى الخير والمحبة والتكاتف والعمل كرجل واحد. لأن مصيرهم واحد وهدفهم واحد, وما يصيب أحدهم يصيب الآخر حتما. وتعلموا أن الكراهية داء خطير يحطم أعرق المجتمعات ويمزق وجودها, وأن الحب هو العلاج الأقدر على تحقيق التطلعات الإنسانية.

العراقيون بعد  سنوات قاسيات ظالمات بائسات داميات, يخرجون إلى مستقبل غني سمين بالعطاءات والتفاعلات الحضارية الإنسانية الاستثنائية المعاصرة, ليشيدوا معالم حياتهم ويرسموا خريطة مسيرتهم إلى الأمام الصاعد المشرق.                                       

فهم أخوة وأحبة, وسيكونون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر أجزاء الجسد بالسهر والحمى. وسيبلغون غايات السؤدد والرقاء والسعادة الوارفة التي ستظلل بلادهم من زاخو إلى الفاو. فلا فرق بين ابن الجبال والأهوار وأية مدينة عراقية أخرى. وستتفاعل الأذرع وتتكاتف الهمم جميعها من أجل البناء, ورفعة الوجود المتحضر الذي سيكون مثلا خلاقا للأجيال القادمة , والتي سوف لن تعاني ما عانته الأجيال قبلها بسبب التراكم المعرفي الحضاري الصعب الذي توطن أرشيف ذاكرتهم.

العراق بعد كل ما شهده وعاناه ونزفه, يولد قويا معافى, ويتحرك بعزم نحو البناء, ذلك البلسم الشافي للجراح والآلام. فكل عراقي سيبني, وسيكون عنده بيت ومدينة جميلة مؤهلة لاستيعاب أمانيه وتطلعاته, وسيمارس حياته ويتخلص من تراب الضلالة والخسران الذي أعمى البصائر والعيون.

العراق يولد من رحم المأساة ويدرك الكثير جدا  ويكتسب المهارات اللازمة لتحقيق وجوده  اللائق به . ولن يكون إلا العراق الواحد القوي. ولن يكون في بلد السلام إلا السلام والتطور والتقدم الأصيل. فهذا هو قدر العراق ولن تغير الأحداث المقادير بل أن كل شيء يجري بحسبان وتدبير خلاق عظيم.

وإن بناء قومٍ سوف يعلو                إذا أخلاقهم وسعت كتابا

وليس عناؤهم من فعل بهتٍ         فأنّ جراحهم نزفت غصابا

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com