تمتد السهوب الاوراسية عبر مساحة شاسعة من الارض في قارتي اسيا وأوروبا، وتكاد سلسة جبال الاورال تشكل الحاجز الطبيعي الوحيد التي تقطع هذه السهوب. ولقد شكلت هذه السهوب عبر التاريخ من حيث سهولة الاختراق والارتحال فيها نظيرا جغرافيا للبحار والصحاري، وكما ان السفن هي وسيلة الانتقال والترحال في البحار، وكما هي الجمال وسيلة سريعة لاختراق عمق الصحاري، فكذلك الاحصنة السريعة هي وسيلة الانتقال والسفر في السهوب وهي كذلك وسيلة الغزو للمحاربين المغامرين، وكذلك فعل (اتيلا خان) امبراطور الهون العظيم الذي انطلق من عمق سهب اوراسيا الى روما في وسط اوربا في مغامرة تاريخية مدهشة.

 ولما كانت هذه السهوب قادرة على نقل البدو الرحل والمحاربين والمغامرين فهي قادرة بالتاكيد على نقل افكارهم ومعتقداتهم وعاداتهم وقيمهم، وهذا ما حصل مع النوروز . ففي هذه السهوب الشاسعة واطرافها الشمالية والجنوبية والشرقية في اسيا والغربية في عمق اوربا، يحتفل بهذا اليوم والذي يصادف حسب التقويم الميلادي اليوم الحادي والعشرين من شهر اذار .

ففي هذا اليوم يتعامد الشمس مع خط الاستواء، ليحدث الانقلاب الربيعي في نصف الكرة الارضية الشمالي، فيتساوى الليل والنهار فيها، وليوقظ الحياة من براثن الموت، وليعيد الحركة الى تلك السهوب التي ذاقت الجمود والنوم الطويل تحت غطاء من الثلوج السميكة في ثنائية ازلية . ففي السهوب حيث يجوب الرعاة بحثا عن المرعى، يكتسب الربيع معنى اخر غير التغيير المناخي، فالربيع يعني العشب الوفير للقطعان ويعنى الحليب في الضروع والمال في الجيوب، اي ان مقدم الربيع هو مقدم للرزق الوفير وبداية جديدة لحياة اسرتها عواصف وامطار وثلوج الشتاء . فهو اذن عيد مناخي - رعوي يستحق الاحتفال به واطلاق صيحات البهجة والفرحة .

غيران هذا العيد المناخي الحيوي لرعاة السهوب الاوراسية من الاتراك، سرعان ما اكتسب على ايدي الفرس المتحضرين في الطرف الجنوبي من السهوب الاوراسية (الهضبة الايرانية) بعدا ومعنى اخر جديد . فالفرس الذين سبقوا شعوب المنطقة في التمدن والتحضر كانوا بارعين في توظيف الطقوس الرعوية والباسها ثوبا فارسيا، وافراغ محتواها، فضلا عن قدرتهم في اسباغ معاني اسطورية للانقلابات المناخية، لذلك استطاعوا وكالعادة الاستيلاء على العيد المناخي لرعاة السهوب من البدو الاتراك، وتحويله الى عيد ديني- قومي فارسي، وما اشتهار هذا العيد بلفظة النوروز الفارسية خير دليل على نجاح هذا المسعى . فكما اكسب الفرس الانقلاب الشتوي لنصف الكرة الارضية الشمالي في 25 كانون الاول من التقويم الميلادي بعد اسطوريا، باعلان ذلك اليوم مولدا لاله الشمس الفارسي مثرا، والذي استعاره اباء المسيحية في تاريخ لاحق كيوم ميلاد السيد المسيح (عليه السلام)، عاد الفرس للاستيلاء على الانقلاب المناخي الربيعي واعلانه بداية للسنة الفارسية، فغيروا بذلك معناه، وافرغوا محتواه الحيوي، ليسكبوا فيه معاني دينية زراداشية وليطعموه برموز ذلك الدين الوثني، فوظفوا فيه النار الزراداشية (احدى عناصر الاربعة الاولية لفلاسفة الاغريق)، وادخلوا عليه طقس القفز فوق النار كرمز للتطهر بالنار الزرادشاتية، ثم اعادوا تصدير هذا اليوم لسكنة السهوب بعد ان اعادوا تسميته وغيروا شكله وافرغوا محتواه وحرفوا طقوسه . 

ان هذا العيد الرعوي- التركي الذي ارتحل الى عموم اوراسيا وحتى الهند والصين بحلته وتسميته الفارسية الجديدة، لم يسلم ايضا من التغيير والتأثر بالاشكال والطقوس القومية المتجددة، مثل الاحتفال به في العهد العثماني كيوم لمعجون المسير في بورصة ومانيسا في الاناضول، وفي الهند تحت مسمى، اذ يحتفل به تحت امطار الاصباغ الهندية الصارخة الالوان، وفي العراق ومنذ الاربيعينيات من القرن الماضي احتفل به تحت عنوان عيد الشجرة، ومن ثم بعيد الربيع .

 ويبدو أن حكاية النبي موسى والشعب اليهودي بالصيغة التوراتية واسطورة الاركنكون التركية برموزها التقليدية في الضرب على سندانة الحداد كتعبير عن صهر السور الحديدي للاركنكون كبداية للخروج منها والانطلاقة نحو العالم الجديد، قد الهمت (شمس الدين سامي) اللغوي العثماني الجنسية والالباني الاصل والذي حير الدولة العثمانية بتمرداته المتعدده وافكاره الغريبة، لتأليف حكاية الضحاك الخرافية، والذي اكسب النوروز هذه المرة بعدا قوميا خالصا ورمزا لميلاد امة جديدة، مما وظفها ويوظفها القوميين من الاخوة الاكراد ويقدمونها للعالم بهذه الصيغة الجديدة .

 ان هذا اليوم البهيج الذي بدأ على يد الرعاة البسطاء من اتراك وسط اسيا كيوم للانقلاب المناخي ذا بعد ورسالة سلمية عالمية، وان تحمل على مضض اكسابه على يد الفرس بعدا دينيا، تسرب بعدئذ برموزه ومعانيه الى البهائية واليزيدية، لايتحمل اطلاقا تحويله الي عيد قومي يخص امة دون غيرها، واذا ما حدث ذلك، واذا ما تم الاصرار على تقديمه بهذا الوجه، فسيشهد العالم من خلال شاشات التلفاز للسنوات القادمة الكثير من مناظر العنف والفوضى ونهب المال العام والموت والتخريب واراقة الدماء، واحراق الاعلام الوطنية التي استشهد من اجلها الملايين من البشر، فضلا عن التعدي على البيئة بتلويثها بدخان اطارات السيارات المحروقة، كما يحدث في جنوب شرقي تركيا .

 ولسوف لن يكسب اللذين يتمادون على هذا النهج الخاطئ، والذين يحركون الجموع من وراء حجب، غير شعور العالم المتحضر بالتقزز من هذا العيد، وللشعوب المتمدنة بعدم الرغبة في استقباله، ولسوف لن يجني من يحرفه ويدمره غير ان يصنفه التاريخ ضمن خانة المتوحشين والمخربين والارهابين .

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com