من سيّدخن عني؟

بسام مصطفى

wardoz4@yahoo.com

إلى كرم اليوسف وهو يعود إلى الحياة....

إنه الزئبقي ذو الأحلام والجراحات الكبيرة.

لا تصدقوه حين يقول أن عمره أربع وعشرون سنة: افتحوا قلبه مرة سترون كم من مدن، قرى، جبال، شهداء، نساء بثياب الخيانة وأخريات على أبوابها، نصيبين وماردين وشقيقاتهن، رائحة مهاباد والأرض الجريحة، سترون كم قلب في قلبه...ذاك الصغير!

له مشاريعه التي لا تنتهي أبداً. ترجمات وقصائد باللغة الأم والعربية. دواوين قيد الطبع. أحلام قيد التحقيق. حياة مؤجلة قيد التحقيق. وشجن يظهر كلما أخفاه. وله دخانه....لا شيء يملكه هذا المشاغب الجميل سوى الدخان ككرده الآخرين...ككلنا ونحن نمضغ السراب وأضغاث الأحلام والأوطان فالسراب سرابنا والحدود كلها لأجلنا، بكل ما لها من ألغام وأسلاك.

وحين ينام، بعد 30 سيجارة والكثير من الهزائم والانكسارات والآلام والأمال، وهو يكحل عينيه بالريح القادمة من نصيبين لاتنام معه أوديته وجباله وشهداءه وفتياته...وهي! تلك التي قضمت نصف قلبه وتركت النصف الآخر للدكتاتوريات الهرمة لتنهشه وتدوس على زهور قلبه..تلك الحنونة دونما رحمة!

(حدثني كرم كيف أن قلبه أمتلأ بالزيتون والكزوان. حدثني عن كيف أن قلبه-ذاك الصغير-في غفلة منه ومن أبانا الشمال-بات حقلاً وإمتلأ بالأزهار والورود. حدثني كيف أنه أحب وردة واحدة منها. حدثني كيف ذبُلت تلك الوردة و...ماتت!)

العالم صغير يا كرم!

وما أضيق وطني!

لا لن أقول وطني ولن أقول وطنكَ فلا وطن لي ولا وطن لكَ. فالتنانين الكبيرة وأبناء العواصم الكبرى برؤوسهم الكبيرة قد إشتروا وباعوا الأخضر واليابس، ولم تسلم منهم الأوطان وهم الاقوياء مروا على اشلائنا وداسوا على قّرانا الصغيرة وقتلوا دجاجاتنا الشاردة. دهسوا النمل الصغير وهو يجرجر حبة قمح إلى بيته الصغير كقلبي! وهم الاقوياء......

والعالم صغير يا كرم وإنك لكبير! وأنت مثلي-أنا الغريب الأبدي والحزين السعيد- تحفر بأسنانك طريقاً لشجنك الذي لا يقود سوى إلى الهاوية والهاوية لنا منذ الازل. لكنك-وانت تشد صباحات قامشلو من شعرها إلى الحلم البهي-تقف قليلا وسيجارتك لا تفارقك، ودخانك متبخترا مزهوا كالطاووس يتناثر حلقات حلقات..تقف عيناك على طوروس وماوراء طوروس: إنها أرضنا يا كرم!هل تشم معي رائحتها؟هاهنا لتنتحر النساء حسداً عند اقدام طوروس! لتنتحر تلك التي لم تكحل عينيها بتراب طوروس.

إنها أرضنا يا كرم! وها أنك قد أهتديت إلى الطريق.

أتبكي يا كرم؟! يليق بنا البكاء. وتلك السماء التي على رأسك قد إزدادت نجمة. رحل اصدقائك-الشهداء إلى سماوات زرقاء فسيحة لا مكان للحاقدين فيها. وبقيت هنا-وأنت الشهيد الحي-لتزيد هذا العالم قصيدة وتمضي!

ويا كرم !

ستكمل مسيرتك.

إن كل شيء يفنى ويزول سوى الحروف. ففي البدء كانت الكلمة. ستكمل المسيرة فأكراد الله هم أكرادك أيضاً. وإن امتحاننا لهو الأصعب. فكم شهيد ينتظرون الآن قلمك؟وكم من جبل يتلهف لرؤيتك؟ لقد ازدادت المسؤوليات على عاتقك ايها الطفل الكبير....وحين نشمك نشم رائحة الشهداء منك. ودمك الذي سال-دمك الأحمر الناصع-هو حبرك وقد خطّ أجمل القصائد وأكثرها بهاءً...

وهو بسيطٌ..شاردٌ أباً عن جد.كنت أقول له وكان يقول لي: علينا أن نفعل شيئاً!و أعترف الآن أمام دمه أنه وفّى بعهده وأوفى.

فأفرد الآن يا كرم يديك وأبسطهما على أرض غرفتك البسيطة-وتلمس أوراقك ودفاترك وصفحاتك وقبّل أقلامك كأنما تقبل حبيبة ما، كأنما تقّبل جودي وديار بكر وقنديل وأصدقائك الشهداء...

ستكمل مسيرتك.

ستكملها يا كرم.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com