أبناء القنطرة الذهبية يتذكرون الفاجعة المرعبة التي ستبقى مصدر فخر واعتزاز الأجيال التركمانية

 

 

أوميد كوبرولو

turkmensani@yahoo.com

في الذكرى 17 لمجزرة آلتون كوبري  

قبل كل شيء تقع مدينة التون كوبري على ضفاف نهر الزاب الصغير أو الأسفل الذي ينقسم إلى شطرين عند دخوله المدينة، ويتوحدا الشطرين ثانية عند قرية قايا باشي التي تبعد بمسافة 1 كم عن المدينة. وهكذا  يقسم الزاب المدينة الخضراء إلى ثلاثة أقسام أورطة ياقا(الجزيرة التي تمثل القصبة الأصل)، تسين (القسم الذي يقع في اتجاه مدينة أربيل) و صلاحية (القسم الذي يقع في اتجاه مدينة كركوك)، وتبعد القصبة الخلابة بجمال طبيعتها وخضار أشجار غاباتها ب 44 كم عن مدينة كركوك و ب 50 كم عن مدينة أربيل. وتشتهر عروسة الزاب الجميلة بأراضيها الزراعية الخصبة وموقعها التجاري المهم نتيجة وقوعها على الطريق الرئيسي الذي يربط كركوك بالمحافظات الشمالية أربيل وموصل ودهوك، ولهاذين السببين  بدأ الكثيرون من سكان القرى الكردية التابعة لمحافظة أربيل الهجرة إليها بسب سوء أحوالهم المعيشية لغرض العمل في الزراعة وصيد الأسماك والسكن فيها. وتشتهر التون كوبري بغاباتها الكثيفة وأسماكها اللذيذة ك (الباسوغ، الشبوط، الناقور، القازاغ، الطوبراقجين، الخدة البيضاء، الخدة العريضة، الخدة السوداء، الخدة السمينة، الخدة السيد، قوص قومرو، صارى دوداق، محشوط ... وغير ذلك). أما نساء وفتيات القصبة السياحية الجميلة التي يتردد إليها أبناء المناطق التركمانية في فصل الصيف للتمتع من مناظرها البديعة الخلابة والسباحة في زابها الدافئ، فيشتهرن بالحرف والصناعات اليدوية الشعبية كصناعة السلال والأقفاص والزنابيل والحقائب والجنط والحاويات المختلفة والقبعات والقوارب والإطارات وعش الطيور وغيرها. 

بدون شك لكل شعوب العالم أيام في التأريخ يعتزون ويفتخرون بها، وتلك الأيام الخالدة في تاريخ أولئك الشعوب إما عبارة عن العيد الوطني لبلادهم أو الاستقلال والتحرر من الاستعمار والإمبريالية أو الانتصار في الحروب والمعارك الطاحنة مع أعداءهم أو أيام وأعياد أخرى كيوم الشهيد أو يوم العلم للبلاد أو عيد ميلاد القادة والرؤساء أو عيد المعلم أو يوم المرآة العالمي أو يوم تأميم الشركات الوطنية أو عيد العمال العالمي أو يوم الطفولة العالمي وهكذا من الأيام. وهناك الكثير من الشعوب يعتزون ويفتخرون بأيام تعرضهم للمجازر الوحشية على يد الأنظمة الطاغية والميليشيات العنصرية الحاقدة كمجزرة كركوك الرهيبة التي نفذها الميليشيات الكردية التابعة للحزب الديمقراطي الكردي بزعامة مسعود البارزاني في الرابع عشر من تموز عام 1959 في كركوك ومجزرة صبرا وشاتيلا التي قام بتنفيذها العدو الصهيوني في السادس عشر من أيلول 1982 في لبنان، ومجزرة حلبجة التي قام بتنفيذها القوات العراقية في الثامن عشر من مارس 1988 في قضاء حلبجة التابعة لمحافظة سليمانية ومجزرة خوجالي التي نفذها القوات المسلحة الأرمينية في السادس والعشرين من شباط 1992 في مدينة خوجالي الأذربيجانية وغيرها كثيرة لا تعد ولا تحصى. وتعتبر مجزرة آلتون كوبري التي نفذت من قبل ألوية الحرس الجمهوري للنظام العراقي السابق بأبناء المدينة الذهبية الأبرياء يوم فخرهم واعتزازهم بأبنائهم الذين استشهدوا ظلما وعدوانا لا لكونهم خونة أو عملاء للأجنبي ولا لمساعدتهم أعداء العراق ضد حكومتهم وبلدهم، وبل فقط لانتماءاتهم القومي وروت دمائهم الطاهرة أرض آبائهم وأجدادهم التي دافعوا عنها ضد أعدائهم الطامعين الحاقدين.  

فقبل حدوث الفاجعة المؤلمة وخصوصا بعد حرب الخليج وهزيمة القوات العراقية أمام قوات دول التحالف الأمريكي وانسحابهم من الكويت وتدمير الآلية العسكرية العراقية بدأت الانتفاضة الشعبانية من جهة وصفحة الغدر والخيانة من جهة أخرى في الكثير من المدن العراقية، وكانت المحافظات التي يقطنها التركمان على رأس المحافظات العراقية التي شهدت فيها صفحة الغدر والخيانة. ففي أوائل شهر مارس 1991 شرعت الميليشيات الكردية التابعة للحزبين الكرديين الكبيرين الاتحاد الوطني (اليكتي) والديمقراطي (البارتي) النزوح من جبالها إلى مدن دهوك، أربيل، سليمانية وكركوك والمدن والقصبات التابعة لها مستغلة فراغ السلطة فيها نتيجة انسحاب القوات المسلحة والشرطة العراقية من تلك المحافظات العراقية إلى بغداد لحمايتها من قوات التحالف التي قامت بمطاردة وحدات الجيش العراقي الباسل داخل الأراضي العراقية. فبعد سقوط دهوك وأربيل وسليمانية وقصباتها وقراها، دخل عناصر تلك الميليشيات الكردية في اليوم الثامن عشر من مارس 1991 كركوك بدون أية مقاومة، وقاموا بحرق الدوائر والمقرات الحزبية التابعة للدولة بعد نهب كافة ممتلكاتها وحتى السيارات والناقلات المدنية والعسكرية وأعمدة الكهرباء والأبواب والشبابيك الحديدية ونقلها إلى إيران لبيعها هناك. وعاش الكركوكيون أسبوعا مليئا بالفوضى والاضطرابات لغياب السلطة الشرعية ولجوء عناصر تلك الميليشيات إلى نشر الرعب والقلق في نفوس المواطنين من خلال ملاحقتهم للكثيرين بتهمة الانتماء لحزب البعث العربي الاشتراكي أو كونهم من عناصر النظام وقتلهم أمام أنظار النساء والشيوخ والأطفال. وسقطت التون كوبري حينها قبل سقوط مدينة كركوك وأضرموا النار في دوائرها أيضا وفتحوا مقراتهم الحزبية فيها وحولوها إلى مدينة كردية مغطاة شوارعها وأبنيتها بأعلامهم ولافتاتهم الخضراء والصفراء طيلة أسبوع سيطرة تلك الميليشيات الكردية عليها.  

وفي اليوم السادس والعشرين من مارس 1991 وعندما سمعت أفراد الميليشيات الكردية  بأن القوات العراقية وطائراتها السمتية (هليكوبتر) ومدفعياتها الثقيلة وصواريخ أرض أرض العملاقة أصبحت عند مشارف كركوك من عدة محاور وسيحولون بنيرانهم المدينة وما فيها إلى جهنم، بدءوا في ترك المدينة فارين على شكل أفواج الجراد الأصفر إلى صوب مدينتي السليمانية وأربيل تاركين المدينة محترقة تلتهمها النيران ومدمرة وخرابة. دخل أفواج الجيش العراقي المدينة من بعد ظهر اليوم السابع والعشرين من مارس 1991 بعد فرض الحصار عليه من عدة جهات وبإسناد من قبل المدفعية الثقيلة والقصف الجوي المركز وكانت المدينة خالية ولا يوجد في كل حي من أحياءها إلا بعض كبار السن الذين بقوا ليحافظوا على بيوتهم من النهب والسرقة. أما الغالبية العظمى من أبناء المدينة فتركوا كل شيء فارين من خوف الجنود العراقيين، حيث أبلغت هذه العناصر الكردية المواطنين بأن الجنود العراقيين والرفاق الحزبيين الذين أصبحوا عند مداخل كركوك سيقوموا بقتل جميع الموجودين في المدينة دون تمييز بين شيخ عجوز أو أمرآة مسنة أو طفل وقاموا بتكرير نداءاتهم وهم يفرون (هات هات) أي أتوا أتوا وأبناء الشعب يتبعونهم في الهروب بسياراتهم والذين لا يملكونها مشيا على الأقدام. واستقر بعض العوائل القادمة من كركوك وتازة خورماتو عند أقاربهم ومعارفهم في التون كوبري الذين فتحوا لهم بيوتهم واستقبلوهم بأحر الترحيب والتقدير. 

كانت تركمانية التون كوبري والحقد الشوفيني الدفين للقومية التركمانية لدى قيادي وأعضاء حزب البعث العربي الاشتراكي المسيطرين على الدولة وراء المجزرة الدموية التي نفذت بكل وحشية وشوفينية ضد 102 تركماني بين عجوز وشاب وطفل بعد أن عزلوهم عن النساء والأطفال الرضع. حيث قبل تنفيذ العملية البشعة جمع أحد الضباط الذي كان برتبة ملازم أول  جميع أبناء القصبة والضيوف دون تمييز بين ذكر وأنثى وبين طفل وعجوز وبعدها أمر بعزل الذكور عن الإناث والأطفال الرضع وعندما وصل آمر أحد الأرتال العسكرية مكان التجمع نادى على الملازم الأول وسأله عما فعل، وإذا بالملازم الأول يجاوبه ويقول: (سيدي هؤلاء بتركمان) وإذا بالآمر المجرم الأرعن وعديم الضمير والإنسانية الذي تربع الحقد داخله العفن يصرخ ويقول: (يا ول ماكو فرق بين أكراد وتركمان كلهم خونة)، وبعد رحيله أبعد الملازم جموع النساء والأطفال الرضع من مكان الجريمة النكراء ليفتح جنوده نار الحقد صوب التركمان الأبرياء ويردوهم شهداء يروي دماءهم الزكية أرض العراق العظيم. ودفنوهم جماعية في حفرة بمنطقة (قايا باشى) القريبة من قضاء دبس ولم يجد جثتهم ذويهم إلا بعد بحث شاق دام أكثر من 30 يوم .

  كان من بين شهداء التون كوبري الذين أعدمهم القوات العراقية جماعيا العديد من أفراد العائلة الواحدة وعلى سبيل المثال أحمد أنور 1942 وولديه طوران أحمد أنور 1974 وأتيلا أحمد أنور 1976 والأشقاء الثلاثة جنكيز مظلوم نوري1968  ومنصور مظلوم نوري 1967 و نور الدين مظلوم نوري 1971 والأشقاء الثلاثة عصام مدحت عزت 1962 وهاني مدحت عزت 1970 وعامر مدحت عزت 1960 والشقيقان عدنان خالد مندان 1958 ومحمد خالد مندان 1952 والشقيقان عبد السلام رشيد حسن 1972 وصدام رشيد حسن 1971 والشقيقان شعلان فيصل سلمان 1967 وملك فيصل سلمان 1966 والشقيقان طارق بايز خورشيد 1963 وعادل بايز خورشيد 1972 . وفي يومها خزن الكوبرليون على شهادة المرحوم الشهيد نور الدين ترزي مواليد كركوك 1944 أكثر مما حزنوه على أبناءهم. حيث عشق المرحوم عروسة الزاب التون كوبري بعد زواجه من الفتاة الكوبرلية وأحب صفاء ماءها العذب وخضار غاباتها وطيبة وشجاعة أبناءها، تعلم اللهجة الكوبرلية من خلال كثرة اختلاطه بالكوبروليون، وكان يحدثني بها دوما. كنت أحس عندما ألتقي به بأنه واحد من أبناء المدينة الحبيبة وتألمت كثيرا عندما سمعت بأن أسمه هو الآخر كان في قائمة أسماء شهداء التون كوبري، فكان مصيره ومصير طفليه الذين كان عمريهما ثمانية وعشرة أعوام نفس مصير أبناء المدينة المظلومة رحمه الله وشهداء التون كوبري الأبرياء.      

اليوم وبعد أن نال منفذي مجزرة آلتون كوبري وأفراد الطاغية الأشرار جزاءهم العادل وسقطت عروشهم وهدمت إمبراطوريتهم الشوفينية لم يبقى لأهالي القنطرة الذهبية التون كوبري سوى تخليد ذكرى استشهاد أبناءهم على يد مجرمي النظام العراقي السابق وتمجيدهم من جيل إلى جيل فألف مبروك هذا اليوم العظيم لأبناء التون كوبري خاصة والتركمان عامة في كل العراق وهم يتحدثون بكل فخر واعتزاز عن مظلومية لحق بأبنائهم في تلك المدينة الصغيرة لتركمانيتهم. وكم من جميل أن يفتخر شعب بأبنائه ذهبوا ضحية انتماءاتهم القومي  التي لم يتخلوا عنها أبدا. رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته مع النبيين والصديقين وألهم ذويهم وأهاليهم والشعب التركماني العراقي المزيد من الصبر والسلوان  وإنا لله وإنا إليه راجعون.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com