|
ولاية الموصل الامتداد الجغرافي الطبيعي لهضبة الاناضول، اصبحت نتيجة خطا استراتيجي اقترفه ضابط تركي مقابل اصرار وعناد ضابط انكليزي عقدة الصراع التي ستحكم السنوات الستة المقبلة (1918-1926) من حياة العراقيين، حيث سيتصارع على حلبة الموصل قوتان غير متكافئان . فعلى احدى جهتي الصراع تقف بريطانيا الفتية التي بدأ نجمها يسطع في اواسط القرن التاسع عشر مع نجاح حملتها التنموية السريعة وتطور صناعة النسيج وتجارتها، وتزايد معدلات الدخل القومي فيها على حساب الام وماسي النساء والفتية في المصانع الانكليزية الرطبة والتي وثقها الروائي الا نكليزي المشهور تشارلز ديكنز في روايته (الازمان الصعبة) . بريطانيا هذه كانت تخطط معتمدة على تطورها الاقتصادي المذهل لتأسيس امبراطورية عسكرية عالمية استعمارية جديدة لاتغرب عنها الشمس لتخلف الامبراطوريات المترهلة في اوربا وخصوصا العثمانية التي كانت تسيطر على منابع البترول في الجزيرة والخليج والعراق، وعلى مفاتيح مسار التجارة العالمية في السويس ومضيق باب المندب ومضايق بحر مرمرة . بينما تقف على الطرف الثاني من الصراع دولة هرمة أفل نجمها وبطل سحرها، دولة اهلكتها الحروب المستمرة، ولم تسنح الحرب العالمية الاولى الفرصة لها لكي تجرب على ارض الواقع مشروع الجامعة الاسلامية للسلطان عبد الحميدالثاني ( رحمه الله)، والذي ابتدعه لاحتواء كل من الافكار والرؤى القومية الانفصالية لرعايا الامبراطورية العثمانية التي اشرفت عليها الاستخبارات الانكليزية والفرنسية تحت ستار الحملات التبشيرية، والافكار القومية المتطرفة لبعض المثقفين الاتراك على الطراز الغربي . فلقد كان ذلك المشروع المتكامل الفرصة الاخيرة لابقاء الامبراطورية العثمانية على قيد الحياة، وبذلك كانت ستشكل حجر عثرة امام بريطانيا وطموحاتها وطموحات المنظمات الماسنوية الاوربية القوية التي كانت تنتظر الفرصة السانحة لتتحاسب مع الامبراطورية العثمانية حامية الشرق على مدى ستة من القرون . لذلك جاءت مؤامرة 1909 واستيلاء زمرة الاتحاد والترقي على مقاليد الحكم وازاحة صمام امان الامبراطورية العثمانية السلطان عبد الحميد عن الحكم، ومن بعده مغامرة قياديوا حزب الاتحاد والترقي في ادخال الامبراطورية العثمانية في حرب غير متكافئة ضد الحلفاء هدية ثمينة وفرصة لاتعوض لبريطانيا لتحول احلامها الى واقع ملموس، وهكذا خسر مقامروا الاتحاد والترقي الحرب وربحتها بريطانيا بجدارة ليبدأ عهد جديد في حياة الملايين من شعوب شرق المتوسط . ولقد كانت بريطانيا الدولة المنتصرة في الحرب عازمة على السيطرة الكاملة على جميع منابع البترول في العراق وخصيصا اغناها في شماله (ولاية الموصل)، وما كانت لتقيم وزنا للاعراف الدولية التي تحججت بها تركيا، وما كان لاي احد القدرة على وقف اندفاعها ( كما يحدث الان مع الولايات المتحدة الامريكية)، فضلا عن نيتها المبيته على حرمان تركيا الوليدة وريثة عدوتها اللدودة الامبراطورية العثمانية من هذا المصدر (البترول) لتظل تكافح التخلف والفقر لسنوات طويلة دونما اسلحة، بل سيجبرها العوز والحيرة والعجز اجلا أو عاجلا الى مد يدها طلبا للعون من اعدائها القدامي . فبريطانيا كانت تعلم ان الامبراطورية العثمانية الوحيدة من بين مثيلاتها امبراطوريات اليابان والمانيا والنمسا التي لم تستطيع احداث ثورة تنموية في السنوات المحورية (1870- 1914) من حياة العالم انذاك، ولم تسطيع بالتالي قيادة نهضة علمية وصناعية لتشكل الحجر الاساس لبناء الدولة الجديدة والتي بدأت مشاورها وللاسف بتصفير تام لكامل التراث العثماني، ذلك الخطأ التاريخي الذي مانفكت تركيا الحديثة تدفع ثمنه باهضا من التعثر وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والنفسي، والنزيف المستمر لطاقاتها الاقتصادية والاجتماعية الهائلة نتيجة الصراع المستديم بين التيارالمحافظ الاسلامي- القومي التقليدي الذي يستمد جذوره من الثقافة التركمانية الشرقية والتيار اليساري العلماني المتفتح على اصول الحضارة الغربية، مما ادى في النهاية الى عدم تحقيق التنمية المطلوبة فيها، بل وحتى اللحاق بجاراتها البلقانيات واللواتي كن قبل قرن من الزمان ولايات تابعات لها. ان اصعب انواع التنميات التي تحققها الدول هي التي تتم بدون امتلاك مصادر للطاقة أوالخامات، حيث يكون الاعتماد كليا فيها على تحقيق الثورة التقنية الامر الذي كان مستحيلا لتركيا التي كانت غارقة قي الجهل والديون والتخلف، فهي كانت تمتلك مع سقوط الامبراطورية العثمانية ستة عشر اعدادية فقط، ثمانية منها خارج تركيا الحالية . لقد كانت استراتيجية بريطانيا الطرف الاقوى والمقتدر في الصراع السياسي مع حكام تركيا المتشوقين لبناء تركيا على الطراز الغربي يعتمد على تخيير الاتراك بين امرين احلاهما مر، الاول ان تفصل شمال العراق لتقييم فيه دولة للاكراد اذا ما استمر هولاء في عنادهم، سيما بعد فشل خريطتها في سيفر، والثاني ان تلحقها بالعراق لتشكل دولة جديدة وفق رؤيتها الخاصة وعلى النمط البريطاني الملكي المستند على تسليم الحكم للسنة العرب القوميين . وفي كلا الخيارين كانت تركيا ستخسر ولاية الموصل التي اقر المجلس الوطني الكبير اعتبارها جزءا لايتجزأ من الوطن التركي، ولكن بفارق مهم ان لاتنشأ في حدودها الجنوبية دولة قومية تثير لها مشاكل عرقية هي في غنى عنها خصيصا وانها في بداية مشوار تأسيس مشروعها الجمهوري العلماني . وستبقى مسألة التنصل الانكليزي من الوعود العديدة التي قطعتها للعرب والاكراد القوميين مناط بالخبرة الانكليزية العريقة في تسويف الوعود ونشرالمشاكل المعقدة و المستعصية على فترة طويلة للزمن لتتعرض للتأكل والتعقيد والنسيان . ولقد بدأ أول اتصال ومكاشفة للمنتصرين الانكليز مع اهالي مدينة الموصل بعد تخطيهم لخطوط وقف اطلاق النار وضم كامل ولاية الموصل في يوم 11 تشرين الثاني 1918، حيث عقد اجتماع في سراي المدينة حضره أعيانها في جو من البهجة والامل بأن تفي بريطانيا لوعودها بأنشاء وطن قومي عربي بعد طول انتظار وسبات، فقام عبد الغني النقيب ليلقي خطبة في ذلك الاجتماع حمد الله فيها على إخراج أهل الموصل من الظلمات الى النور!، ثم قام عمانوئيل بطرك الكلدان فألقى خطبة تشبه في معناها خطبة النقيب. اما في السليمانية على الطرف الشرقي من الولاية فلقد كان (الشيخ محمود الحفيد) سليل العائلة الكردية المتدينة المعروفة والذي سلمه الجنرال علي احسان باشا قبل أن ينسحب خلف الحدود قيادة طابور السليمانية، والتركمان في كركوك لهم اراء اخرى واحلام مختلفة!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |