|
تمارس المدرسة التقليدية في الفكر الديني النقد على مستويين :داخلي يقوم على أركان ثلاثة، أولها الإثبات وثانيها التفسير وثالثها التبرير، وخارجي يقوم على مبدأ الهداية والضلال، فالآخر إما ضال ممانع للهداية محارب يواجه بالقوة وإما ضال مستعد لقبول الهداية والانخراط فيها وبالتالي يكون جزءا منها ومنطويا تحت ضوابط ناظماتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.والخروج عن أدوات تلك المدرسة ووسائلها ومناهجها والبحث خارج مكوناتها ونقدها ،هوسعي جاد لمطروحات حداثية تقدم رؤية ومفاهيم تؤهل المجتمعات العربية والإسلامية للخروج من حالة الاستعصاء والتقهقر التي تلازمها في الحاضر وفي الماضي القريب . وليس محل خلاف الظن بأهمية القراءات النقدية للموروث السلفي المنقول والفيض المتجدد والمتنامي لمؤثراته الراهنة والمستقبلية، إلا أن الخلاف يبدأ ثم يشتد عندما يغوص النقد في مسلمات وثوابت يعد تخطيها وحتى الاقتراب منها لعبا بالنار وخوضا ً في المحرمات . وربما يكون التخوف عائدا في قسط منه إلى الالتباس في مفهوم النقد والتوجس من تفكيكه للمكون العام للبنيان الديني الذي يشكل الرابط الاجتماعي الأهم ونقطة الجذب المركزية لمختلف العناصر المشكلة للمجتمعات ذات الغالبية المتدينة .وقد يكون خوفا من التغريب وضياع الهوية إلى جانب العامل الغيبي المتمثل في رهاب الخروج عن إرادات المطلق والنتائج الوخيمة لذلك الخروج . ” إن الرهان على مستقبل جديد للأمة العربية والإسلامية مرتبط بمدى إنجازها لنقد الأسس التي قام عليها العقل الإسلامي مما يطرح تساؤلا جدليا هومدى ارتباط حداثة المجتمعات بنقد الأسس العقلية التي قامت عليها هذه المجتمعات “(2) والنقد بداية لا يعني الإعابة والانتقاص بقدر ما هوفتح وتجلي وربما كشف على الطريقة الصوفية وهوفي بعض جوانبه يصح وصفه بالنقد التأملي لهذا سنلجأ إلى الأدوات المعرفية الحديثة مع إدراكنا للأنماط السائدة والموروثة طالما أننا نجري نقدا بحثيا ً يمارس خطابا ً حول الخطاب يتناول المعنى بعيدا ً عن الشعور بالخوف أمام حضور جلالة النص. (1) شرح نظرية الحكم في الإسلام: النظرية التي نحن بصدد بحثها ودراستها هي الوعاء الذي خرجت منه الأشكال المتعددة لأنظمة الحكم الإسلامي عبر التاريخ وهي التي ستستخدم لإنشاء أشكال جديدة في المستقبل وفقا للتغيرات الجيوسياسية. ومطلبنا الوقوف عند النبع الذي ألهم وأوحى ذلك الكم الكبير من التنوع وتأطيرالفضاء الحاوي لأركان وقواعد تلك النظرية ومراحل تطورها ومدارسها وأشكالها العملية. نظرية الحكم في الإسلام جزء من نظرية شرعية كاملة تتسق بمجموعة من الضوابط والقواعد تشترك فيها كافة أشكال النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، أي أنها أيديولوجية كاملة مغلقة ذات مصدر إلهي الواجب الرئيس فيها الملقى على عاتق العالم والفقيه والباحث هومعرفة مراد المشرع في المقام الأول، وفي حال الوصول إلى ذلك المراد ليس هناك خيار بين الرفض والقبول بل لابد من الانصياع التام والطاعة المباشرة. ((ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ))الأحزاب 36 قال القرطبي رحمه الله في تفسيره الجامع لأحكام القرآن عند شرحه لهذه الآيـة: “روى قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش، وكانت بنت عمته, فظنت أن الخطبة لنفسه, فلما تبين أنه يريدها لزيد مولاه كرهت وأبت وامتنعت وامتنع معها أخوها عبد الله بن جحش لنسبها من قريش، وأن زيدا كان بالأمس عبداً, إلى أن نزلت هذه الآية فقال له أخوها مرنا بما شئت, فزوجهـا من زيد”. المسألة الأصولية المعروفة وهي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ سبب نزول الآية كـان امتناع زينب من الزواج بزيد، ولكن حكمها عام في كل مؤمن ومؤمنة كما دلت عليه الصيغة الكلامية. والشاهد أيها القارئ من هذه المقدمة أن تعلم أن هذه الآية الكريمة { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } هي معيار الإيمان ودليل وجوده وعدمه؛ فمن جاءه أمر الله وأمر رسوله الجـازم ورده بوصفه أنه حر ومختار في تصرفاته الشخصية إن شاء قبل الأمر ورفضه، وإن شاء نفذ حكم الله تعالى وحكم رسوله ونبذه وأهمله، فهذا العبد ما هوبمؤمن ولا يعد فرداً من أفراد المؤمنين إذ الآية تنفي وجود إيمان صحيح مع اختيار حر بالرفض والقبول, لأحكام الله ورسوله - ص-3 انسجاما مع المفهوم المركزي للإسلام بأنه استسلام وانقياد لمراد المشرع الأول جل شأنه كانت القاعدة المبدئية في تلك النظرية نفي حرية الاختيار وتجاوز أصل الرفض والقبول المرتبط بحرية الإنسان.هذا الخضوع يقابله الانصياع للأنظمة والقوانين الوضعية والفارق هنا قابلية التشريع الوضعي للتغير التعديل وحق الفرد في إعلان معارضته وعدم رضاه وسعيه للتغير ،في مقابل التصديق المطلق والحب الخالص للشريعة الدينية . ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما))النساء65. تحمل هذه الآية بعداً إضافيا داخل مفهوم الانقياد والتسليم الفعلي والوجداني يمتد ليشمل قضاء وحكم الرسول خارج القرآن، أي ما صدر عن النبي من أقضية وأحكام دنيوية ولا تنازع بين القرآن والسنة فالآية نزلت لإعطاء الشرعية الإلهية لأحكام وأوامرالرسول وخاصة تلك التي لم ترد في القرآن هكذا هوالأمر في حياة النبي وبعد وفاته يفترق التأويل والتفسير فعند أهل السنة يستمر الحكم الملصق بالنبي إلى ما ورد عنه ومن ثمة بالوكالة للحاكم الملتزم بتطبيق الكتاب والسنة, عند الشيعة تنحصر مسألة الانقياد والتسليم بالأئمة المنصوص على إمامتهم وبالوكالة للولي لحين عودة الإمام الغائب وفي كتب التفاسير أحاديث نبوية بأسانيد تذكر أسماء الأئمة وتحصر ولي الأمر فيهم عن الإمام الصادق عليه السلام:لوأن قوما عبدوا الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله ألا صنع خلاف ما صنع ؟ووجدوا في ذلك حرجا في أنفسهم لكانوا مشركين ـ4ـ جاء في فتح القدير في تفسير الآية أعلاه: والتقدير فوربك لا يؤمنون حتى يحكموك أي يجعلونك حكما بينهم في جميع أمورهم ولا يحكمون أحدا سواك، أي ينقادوا لأمرك وقضائك انقيادا لا يخالفونه في شيء، والحرج الضيق وقيل الشك ــ5ــ لا تكتفي النظرية الكلية للفقه السياسي الإسلامي بإلزام المسلمين والمؤمنين برؤيتها وتصورها لطبيعة الحكم وآثاره بل تذهب أبعد من ذلك بكثير لتشمل أهل الأرض كافة. فالرسالة عالمية شمولية لا تقبل الرفض والشك ممن حولها، والاعتقاد بمطلق الحق والصواب فيها جوهري وخطير ملزم وحجة لكل من سمع بها، وفي ظل الثورة الكونية الإتصالاتية بات من المفروغ من وصول ومعرفة أمر هذا الدين لكل البشر على سطح المعمورة، وكل من لا يؤمن به من أصحاب النار، فهي رسالة تحمل البشر والخير لأهلها والنذير والثبور لم خرج عنها ومنها. ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ))سبأ28″أي ما أرسلناك إلى الناس إلا جامعا لهم بالإنذار والإبلاغ ومانعا لهم من الكفر والمعاصي “ــ 6ــ (( إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ))آل عمران 19ــ قال العلامة حسين الطبطبائي في تفسير تلك الآية:أن المراد بكون الدين عند الله وحضوره لديه سبحانه هوالحضور التشريعي بمعنى كونه شرعا واحداً لا يختلف إلا بالدرجات، وبحسب استعدادات الأمم المختلفة دون كونه واحدا بحسب التكوين بمعنى كونه واحدا مودعاً في الفطرة الإنسانية على وتيرة واحدة ـ اـ هـ ــ 7ــ ((ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل من وهوفي الآخرة من الخاسرين ))آل عمران 85 ــ وفي الحديث الصحيح : والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار . ــ قال النووي في شرح الحديث: هذه الأمة أي من هوموجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليهم الدخول طاعته وإنما ذكر اليهود والنصارى تنبيها على من سواهم، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى. إ ـ هـ ـ 8 ـ تشترك الأشكال وأنظمة الحكم الإسلامية الأصولية المختلفة بالمبادئ المستنبطة من الآيات والحديث أعلاه وغيرها كثير تعطي ذات الدلالة وترسخ ذات المفاهيم التي يصعب جدا تجاوزها والقفز فوقها لثباتها وقوة الحجة والدليل فيها ، فشمولية الرسالة وفطرية الدين بمفهومه الشرعي تلقي بظلالها الثقيلة على الباحث عن الحرية السياسية والاعتقادية تحت سقف نظرية كلية للحكم في الإسلام. ويعزى جزء مهم من ذلك الإرث المتراكم من التنوع في مظاهر التفسير والتطبيق إلى طبيعة النص القرآني المولد لقائمة لا متناهية من الأحكام ولفتوته وحيويته عبر العصور، كما ينصرف قسم أخر إلى محاولة الباحثين المسلمين تركيب ما وصلوا إليه من أراء ومواقف ومفاهيم على الأسس والقواعد المستوحاة والمستنبطة من الموروث المنقول لإكساب مقولاتهم السند الشرعي ولإثبات قدرة الوحي في التحكم في متغيرات الزمان والمكان, ودائما كان هناك فرقَ وحتى تعارض بين المثالية والمبادئ النظرية التي تطرح في كتب الفقه السياسي وبين التطبيق العملي المختلف كثيرا عن الأهداف والغايات والمقاصد. هذا الإشكال ليس خاصا بالمنطلقات الإسلامية بل هوفي واقع الحال عام تاريخيا في كل الأيديولوجيات التي عرفتها البشرية. إلا أن الإشكال الخاص بالفقه السياسي الإسلامي له شقان أساسيان:الأول: التباين الصريح في مدلولات الآيات القرآنية والأحاديث الثابتة المروية عن النبي، فلغة النص ومدلولاته المتعددة تنعكس إرباكا واضحا في استنباط أحكام متناقضة تماما من نص واحد، واختلاف مدارس التفسير والتأويل مازالت قضية مستعصية على الحل، ناهيك عن قضية الاختلاف في إثبات النص ومذاهب التفسير وعلومه. فمسألة قتل المرتد أي المغير لدينه والمنكر لكل وبعض ما علم من الدين بالضرورة مازالت غير محسومة إلى الآن بعد أربعة عشر قرنا من البعثة، ومثلها كذلك القبول بالتعدد المرجعي للتشريع والقوانين ـ. من خلال العصور التاريخية المختلفة التي تلت عصر التأسيس أي عصر النبوة لم تعجز أي من المذاهب والفرق وأنظمة الحكم حتى الحديثة منها عن إسناد أرائها ومواقفها المتناقضة بدليل شرعي من الكتاب والسنة وتراث الأئمة والفقهاء وكل منها يدعي الحق المطلق وامتلاك الإسلام الصحيح. وتستمر الاجتهادات والنظريات الحديثة في السياق ذاته تسخر الدليل لخدمة أطروحاتها ومواقفها وتدعم الواقع الراهن بالسند الشرعي. الثاني: مفهوم قداسة وقطعي النص ونهائيته تنعكس على الموقف والحكم المأخوذ عنهويترتب على ذلك وجوب إخضاع وإقصاء وإنهاء المخالفين والمعارضين. فالموقف السياسي والنظرية السياسية المدعومة بالسند الإلهي تنتقل إليها ميكانيكيا القداسة والنزاهة والعصمة ويصبح معارضوها محل شك وريبة وخارجين عن الدين ومعادين للأمة والوطن. فالحزب الإلهي لا يقبل النقد ولا المراجعة ولا يصح البحث في سياساته إلا من باب المدح والتعظيم والإجلال ويحظر الحديث عن قادته دون ألقاب التبجيل والتفخيم. عندما تكتسي السياسة وأنظمتها ونظرياتها بحلة الدين تغدومفاهيم التعدد والاختلاف والمعارضة أمرا مكروها بل ومحرما. تلك العلاقة الجدلية بين الدين والسياسة كانت في النهاية لمصلحة السياسة على حساب الدين والمتتبع لتاريخ الدول والأنظمة الإسلامية بعد مرحلة التأسيس والبناء يلحظ بوضوح خضوع الدين للسياسة وليس العكس . كلما جد منطق ونظام جديد وفقا للظروف والحاجات ومصالح الحكام استطاع فقهاء السلطان إسناد الفعل بالدليل الشرعي. استعراض لسمات النظرية: من الصعب تحديد سمات رئيسة واضحة ومحددة لنظرية الحكم في الإسلام متفق عليها تحظى برضي وتأييد التيارات الفقهية والسياسية المذهبية السائدة في عالمنا المعاصر، وذلك لأسباب تتعلق بالمرجعية وآليات إثبات الموروث النصي وفهمه من حيث المبدأ، ولأسباب مرتبطة بالموقف من أصحاب الممارسة العملية للأسس والمبادئ المكتوبة. فتاريخيا تعامل المسلمون، علماء وقادة سياسيين مع الدليل الشرعي بصورة معكوسة للمنهج التجريبي قبالة الدليل الشرعي، فالأصل هوالبحث في النص ومن ثمة استنباط الحكم، ما حدث عبر التداول الزمني لقيادة دفة الحكم والفقه العكس تماما،وذلك في الجانب السياسي تحديدا حيث برع علماء السلطان في توصيف الحالة الواقعية بمدلولات مسبقة للدليل. ولمفهوم الغلبة والقهر وذوي الشوكة ثقله البارز في صياغة النظرية وسيبرز ذلك واضحا في التفاصيل.والعقد الاجتماعي فيها محصور في مفاهيم الخلافة والإمارة، فالبيعة تفويض مطلق لا يراجع بعده المفوض إلا من باب النصح وهي، أي البيعة واجب من الرعية تجاه الراعي أي الحاكم، وهي مناطة في المقام الأول بأهل الحل والعقد وذلك جلي واضح في المذهب السني . أما عند الشيعة التي كانت تشكل على الدوام معارضة ممنوعة ومحاربة اختزلت المسالة بالأئمة المعصومين وتحول الإمام بصلاحياته وعصمته إلى مطلق الحق والصواب وزاد المسألة تعقيدا تبني الأكثرية الشيعية لولاية الفقيه التي تكسب رجلا واحدا صلاحيات نهائية، تتحكم بمصير أمة ، ولم يتحدث القرآن الكريم في أساسيات الحكم وتنظيمه ولم ترد فيه أشارات وبيانات واضحة لقضية الخلافة وطريقة انتقال الأمر بعد النبي واكتفى بالأمر بالحكم بما أنزل الله والطاعة له ولرسوله ولولي الأمر وذكر الشورى وحض على العدل. وان كان علماء الشيعة يذهبون بعيدا في تفسير آيات طاعة ولي الأمر في دراساتهم الماورائية إلا أن المسألة تبقى مناطة بما يسند من أحاديث للنبي وللإمام علي ومن بعده من الأئمة وفي الجانب الآخر لم يعز على أصحاب مذهب السنة إسناد أدلة شرعية كثيرة بدءا من صحيح الحديث إلى أقوال واجتهادات الصحابة ومن بعدهم تصبغ ممارساتهم وطريقة حكمهم بالشريعة الربانية . والدليل الشرعي خارج القرآن الكريم في غاية الأهمية كونه وضع الأطر التنفيذية لما نزل به الوحي ومن هنا كانت الأحاديث النبوية الأساس والمنطلق لمبادئ وقواعد مركزية تناقلها العلماء والفقهاء والباحثون من زمن بدء التدوين إلى راهن البحث السياسي المعاصر.وبالرغم مما قد يثيره المحققون من إشكاليات حول البنية الكلية للحديث فإنه كان ومازال المرجع الثاني الأهم في تتبع نشأة الفكر السياسي الإسلامي ونموه وتطوره. عن النبي قال : كانت بنوإسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي ويكون خلفاء فيكثرون ، قالوا فما تأمرنا ؟ قال: فوا بيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ” رواه مسم برقم 3429باب وجوب الوفاء بيعة الخلفاء أول بأول . وعنه أيضا :من كره من أميره شيئا فليصبر عليه ، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية” رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري مثله برقم 6530 هذه الأحاديث وأمثالها كانت ومازالت تتداول ويستند إليها في استنباط الأحكام وتنظيم السياسة. اعتنى فقهاء السياسة المسلمون بالمفهوم الديني للأخلاق في علاقات الراعي بالرعية واهتموا بنصيحة الملوك وتوجيه سلوكهم إلا أنهم لم يتطرقوا لقضايا المشاركة بالحكم والمساواة كقيمة إنسانية لا تقيس الفرد بميزان الدين وتركزت أبحاثهم حول الخلافة والإمامة وجواز استيلاء الأقوى على السلطة وحق الأمة على السلطان العدل وحراسة الدين وحق الإمام على الجماعة الطاعة ، وعدت الإمامة عقدا لازما غير محدود بزمن لا يحل إلا بشروط عظمى تساوي الكفر الصريح والجنون ، ووقفوا عند العهد والاستخلاف كأدوات لانتقال السلطة وكان الموت والقتل طريقا واقعيا لتداول الملك .أما الحديث عن العقد الاجتماعي فيظل محصورا بالبيعة المناطة بمشورة أهل الحل والعقد والتي باتت منذ بيعة السيف ليزيد بن معاوية مشروعة بالقوة والغلبة . يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: إذا استقرت الخلافة لمن تقلدها بعهد واختيار ــ بعد معرفته باسمه وصفاته ــ … فعلى كافة الأمة تفويض العامة إليه ليقوم بما وكل إليه من وجوه المصالح وتدبير الأعمال ـ أ ـ هـ يقول ابن تيمية في منهاج السنة : ” فبين رسول الله أن الإمام الذي يطاع هومن كان له سلطان سواء كان عادلا وظالما .أ ـ هـ وكان يعتقد بالغلبة والقهر صفتين من صفات الخلافة الراشدة إذ يقول: إن الإمام هومن يقتدى به وصاحب سيف يطاع طوعا وكرها وهذان الوصفان كانا كاملين في الخلفاء الراشدين.اــ هـ وللإمام أحمد بن حنبل قول مشهور أورده أبويعلى في الأحكام السلطانية :إن من غلبهم وصار خليفة وسمي أمير المؤمنين ،لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الأخر أن يبيت ولا يراه إماما برا كان وفاجرا ـ أ هـ فالحاكم الذي يعتلي العرش بالقوة وقتل منافسيه وذبح معارضيه تجب له الطاعة بالحق ولا يجوز الخروج عليه ولوشبرا ويعد تاركه خارجا عن الدين .فالحاكم له الطاعة المطلقة ما لم يخالف الشرع وله مطلق الحرية في اتخاذ القرارات بدون مراجعة وتسن له الاستشارة. والفرد في تلك المنظومة السياسية مثقل بقيود البيعة والطاعة والولاء إلى جانب واجباته الدينية اليومية وليس من الضروري معرفته حتى باسم السلطان إذ تكفي معرفة السلطان لأهل الحل والعقد وتبقى ضرورة تحقيق العدل لإقامة الحكم فالعدل أساس الحكم، واشتهر عن ابن تيمية قوله ” وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي يكون فيه الاشتراك في بعض الإثم أكثر مما تستقيم مع الظالم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم لذلك قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة”ـ 9ـ ما ذكره ابن تيمية هنا هونصيحة للملوك والسلاطين كي يتحلوا بالعدل لإدامة ملكهم إلا أن تلك القاعدة لا أثر ولا مفاعيل قانونية لها تترتب على الحاكم في حالة اقترافه للظلم ولا تملك الخاصة والعامة حيال بطش وظلم السلطان سوى النصيحة والدعاء . فمفهوم العدل وقيمة العدالة تتراجع درجات أمام أولوية حراسة الدين وسياسة الدنيا أي استمرار السلطان بالقوة له الأولوية على تطبق العدل حال تعذر الجمع بينهما. ويرى ابن تيمية أن السياسية الشرعية تقوم على القوة والأمانة ((إن خير من استأجرت القوي الأمين ))القصص26 . والقوة ترجع إلى العلم بالعدل وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام. أما الأمانة فترجع إلى خشية الله والاعتصام إليه والتزام الحق وحسن الأداء والتضحية في سبيل الخير العام .وهذا نلاحظ عدم وجود محددات سياسية وناظمات مؤطرة لبرامج وآليات تصلح أدوات سياسية تبنى عليها أطروحات عامة مرنة وحوض يقبل ويلائم ما يوضع فيه. “الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد له حكم الإمام في جميع الأشياء ولولا هذا ما استقامت الدنيا “محمد بن عبد الوهاب 10ــ وبالمحصلة فان الخليفة والسلطان حاكم مطلق بصرف النظر عن الوسيلة التي وصل بها إلى الحكم ومن استولى على العرش أطلقت يده في التصرف كونه منفذا للشرع ومفوضا من قلة مختارة ومعصوما بالولاية والسند الشرعي . يقول شيخ الإسلام ابن جماعة: فإذا خلا الوقت من إمام عادل مستحق للإمامة فتصدى لها من هوليس من أهلها وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة واستخلاف، انعقدت بيعته ولزمت طاعته لينتظم شمل المسلمين وتجمع كلمتهم، ولا يقدح في ذلك كونه جاهلا وفاسقا في الأصح . وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول وصار الثاني إماما لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم ـ أ هـ 11 ـ وسميت تلك البيعة بالبيعة القهرية ولا يملك المتتبع لمثل تلك الفتاوى والأحكام إلا أن يتعجب من ارتباط البيعة والخلافة بالقوة وإذا كانت الحالة السياسية التي وضع فيها ابن جماعة كتابة شهدت اضطرابات عنيفة في العهد المملوكي وإبان غزوالتتار فيمكن لنا اعتبار تلك الأحكام ظرفية تاريخيا إلا أن المدهش والمثير أيضا أنها مازالت مراجع أساسية ومعتمدة وتجدها لدى دعاة الخلافة والجهاد وحتى عند الوسطيين من الباحثين المعاصرين، وما زالت تذكر في مواضيع ودراسات الإسلاميين الحديثة كمراجع أصيلة أولية.ويستند إليها لتأصيل الإسلام السياسي وتأكيد مبدأ الإسلام دين ودولة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:فالدين الحق لابد فيه من الكتاب الهادي والسيف الناصر، فالكتاب يبين ما أمر الله به وما نهى عنه والسيف ينصر ذلك ويؤيده . أ ــ هـ 12 إن متلازمة القوة والفكرة شديد الأصالة في النظرية السياسية الإسلامية فهي ليسن فقط مطلوبة لنشر الدين وهداية الناس بل هي أيضا وسيلة مقبولة وشرعية ـ وإن كانت غير مفضلة لدى البعض ـ للوصول إلى الحكم واستلام السلطة، وهذا يفسر الجنوح الشديد لدعاة الإسلام السياسي الأصولي لتبرير اللجوء للقوة كوسيلة مشروعة لتولي الحكم وإقامة دولة الخلافة والحكم بما أنزل الله.ولعلنا تستطيع الاستدلال على حيوية تلك النقول ومرجعيتها فضلا عن وجودها وحضورها الدائم والمستمر في الدراسات والمباحث السياسية السنية ، بما أكده الدكتور رضوان السيد من استفادة الشيعة من تلك المصادر، يقول السيد : إن مدوني الدستور الإيراني يستمدون مواد كاملة من الأحكام السلطانية للماوردي في المهام الدينية والدنيوية لمرشد الثورة والفقيه .المرجع ـ 13 ـ يقول الإمام الخميني: إن الحكومة الإسلامية تمتاز عن غيرها بكونها حكومة القانون الإلهي، وهذا ما يوفر للمجتمع معطيات تعجز الحكومات الوضعية عن تحصيلها. فان اتصافها بالقانون يحول دون تحولها نحوالاستبداد إذ لا يكون الفرد الحاكم شبحا يحكي القانون المهيمن على حية الأمة. واتصاف قانونها بالإلهية يمنحها قدرة تنفيذية عالية إذ يحل الخالق العظيم محل السلطة التشريعية وتكون الدولة سلطة تنفيذية له ـ14ـ والأمر يأخذ منحى مختلفا في التوصيف الشيعي للإمامة فهي ليست من المصالح العامة التي يترك للأمة النظر فيها بل هي ركن من أركان الدين وقاعدة من قواعد الإسلام على أعلى وأرقى مستوى من الأهمية الافتراضية والنظرية لزم وجوبا أن ينص النبي على خليفته ووجب أيضا تعيين الإمام بالنص.ولكي يكون مؤهلا وجبت له العصمة من الصغائر والكبائر فلا يقترض في الإمام السهووالغفلة ويفترض له الإحاطة بكل ما فيه مصلحة المسلمين .تلك المنزلة مخصوصة بأصحاب الولاية التكوينية كما يقول الخميني وهم الأئمة الإثنا عشر وينتظر ظهور آخرهم الغائب ،ولحين ظهوره يقوم مقامه الولي الفقيه الذي يحظى بالمحصلة بذات المكانة الاعتبارية . ونعود لنقع بذات مأزق سيادة الفرد على الأمة في النظرية السياسية الدينية السنية
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |