تعتبر البطالة من أهم المشاكل التي تواجه الشباب في العراق والعالم العربي وبالخصوص حملة الشهادات الجامعية، فهي (البطالة) وباء ابتلينا به بالرغم من الموارد الطبيعية الهائلة والإمكانيات المادية الوفيرة التي لو استغلت استغلالا حسنا لمكنت البلدان العربية من توفير فرص عمل هائلة لأبنائها، وساعدت بذلك في التخلص من كثير من العلل الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع العراقي والعربي كالتطرف الديني والعنف والفقر والجهل والهجرة.

تشير تقارير منظمة العمل العربية إلى أن معدل مشاركة القوى العاملة في العالم العربي لا تصل إلى اكثر من 53% (49% في العراق) ولا تزيد نسبة مشاركة الإناث عن 24% (18% في العراق) وهذه من أوطأ معدلات العمل في العالم. ومن مجموع 29 مليون عراقي لا يزيد عدد السكان ذو النشاط الاقتصادي عن ثمانية ملايين أي بمعدل 29% مقارنة بحوالي 80% في دولة الإمارات العربية. واستنادا للمصادر الرسمية العربية فأن نسبة البطالة في العالم العربي تزيد عن 20% بين الجنسين (حوالي 25 مليون عاطل) و48% بين الإناث و60% بين الشباب، بينما يوجد حوالي 18 مليون عامل يشكلون العمالة الأجنبية. إن هذه الأرقام لا تعدو أن تكون مجرد جزء بسيط من المشكلة، فهناك أعداد اكبر كثيراً مضطرة للعيش عن طريق الأشغال المؤقتة، والعمل للحساب الخاص ضعيف الإنتاجية، أو عن طريق أشكال أخرى من العمالة الناقصة (او ما يطلق علية بالبطالة المقنعة). وفي كثير من الاحصائيات الرسمية تستبعد أعداداً كبيرة من فئات المجتمع وخصوصا النساء.

وتعترف منظمة العمل العربية ان استمرار البطالة يعكس إما مشكلة عامة في النمو والتنمية، وإما مشكلة هيكلية تتعلق بعدم المساواة في سوق العمل. ولكن تلاحظ في الوقت ذاته عدم وجود إجماع على السياسات الأفضل لإيجاد الوظائف. فالبعض يعتقد أن ذلك يتوقف على النمو، بينما يرى آخرون انه يتوقف على مرونة سوق العمل. ويعتقد البعض أيضا أن الحل يكمن في المهارات والقدرات البشرية، بينما يرى آخرون انه يكمن في سياسات توضع من اجل تقاسم العمل المتاح (راجع الصفحة الالكترونية لمنظمة العمل العربية).

من المستغرب أن تكون البطالة مشكلة مزمنة في الوقت الذي تعاني فيه منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا بمجملها من حاجة لم يسبق لها مثيل لفرص العمل قُدِّر أنها ستبلغ حوالي 100 مليون وظيفة إضافية في العام 2020. إذَنْ لماذا لا تستطيع الدول العربية، ومنها العراق، أن تضاعف حجم فرص العمل لديها لكي تستوعب العدد المتزايد من الباحثين عن العمل؟ هل المشكلة تكمن في وجود فرص عمل من دون وجود مهارات ملائمة؟ وإذا كان هذا صحيحا فان جامعاتنا تخرج مهارات غير مرغوبة، وهي بذلك تهدر المال العام وتضيع على بلداننا فرص اللحاق بالدول المتطورة.

إذا ما استندنا على نتائج ندوة المنظمة العربية للتنمية الإدارية المنعقدة بالقاهرة في شباط 2006 نرى إن الوظائف الأكثر طلبا في المستقبل هي وظائف مقدمي الخدمات الطبية ومساعدي الخدمات والعناية الطبية ومهندسي الحاسوب وأمن المعلومات والشبكات والتطبيقات، وموظفي البورصات والاستشارات المالية والتأمين، وموظفي وعمال المرافق العامة والخدمات الإدارية وقطاع الفندقة والسياحة والاستجمام والوجبات السريعة وأخصائيي خدمات التعليم. فهل تعطي جامعاتنا أهمية رئيسية لتدريب هذه المهارات أو أنها لا زالت تؤكد على العلوم الأساسية من فيزياء وكيمياء ونبات وحيوان وفلك، وعلوم اجتماعية وتاريخية وجغرافية وأدبية وفلسفية. لا أحد يطعن في ضرورة تدريس هذه التخصصات، فهي ضرورية للارتقاء بالوسط الجامعي إلى وسط للإبداع والاختلاف وخدمة المعرفة ولا احد يريد تهميش العلوم الإنسانية والاجتماعية، لان لهذه العلوم دور ومكانة في بناء المشروع الاجتماعي الذي نسعى لبنائه. لكن ألن يكون من المجدي أن يمارس قدر من التميز الايجابي بما يراعى حاجة المجتمع والتنمية؟ لقد قلت سابقا أن الطالب في جامعاتنا "يحصل على شهادة في الفيزياء او الكيمياء او البيولوجيا او غيرها من العلوم الطبيعية والمواضيع التكنولوجية لكي يحصل على وظيفة تربوية كمدرس في المداس الثانوية، علما بان كليات أخرى متخصصة وفي نفس الجامعات تقوم بتدريب عناصر مؤهلة للتدريس في المدارس الثانوية وبنفس الاختصاصات". فلماذا هذه الازدواجية؟ ولماذا التركيز على مواضيع لا يحتاجها سوق العمل؟ وإذا كانت الجامعة لا تستطيع تكيف التعليم بما يتلاءم مع سوق العمل، وبأن التعليم حسب دراسة لعبد الرحمن عيسوي الأستاذ في جامعة الإسكندرية لا ينمي في الطالب السمات العلمية إلا بنسبة 25.5% فقط، فان الجامعة حقا في مأزق كبير.

تتحمل الجامعة جزءً كبيرا من مشكلة توفير القوى العاملة، فهي المؤسسة الرئيسية المسؤولة عن تنمية الموارد البشرية وتدريبها، وهي أيضا المسؤولة عن تخريج أعداد هائلة من العاطلين، حيث بلغت نسبة البطالة عام 2005 بين الشباب المتعلم في مصر من الذكور ذوي المؤهلات العليا 53%، بينما بلغت 46% بالنسبة للاناث. واستنادا الى ما هو متوفر من مجالات للعمل فمن غير المحتمل ان يحصل اكثر من 40% من الشباب المتعلم في البلدان الاسلامية على مهنة لائقة ومناسبة في بلدانهم. ويبدو ان سوق العمل لا يختلف كثيرا في العراق، وبغض النظر عن المكان، فما يثير القلق هو الأعداد الهائلة من الخريجين غير المؤهلين تأهيلاً كاملً أو صحيحا، ففي عام 2002 تجاوز هذا العدد عن نصف مليون خريج لا تتناسب مؤهلات معظمهم مع الحاجيات المتقلبة لسوق العمل. هذا بالإضافة إلى ما تعكسه الاحصائيات بأن نسبة البطالة في بعض الدول العربية ترتفع مع ارتفاع مستوى الشهادة الجامعية.

كيف يمكن للجامعة من درء هذه المشكلة لتصبح مؤسسة لتكوين كوادر تلائم عصر اقتصاد المعرفة المدعوم بتكنولوجيا المعلومات وتمتلك مهارات وظيفية وفنية وإنتاجية وإشرافية وإحترافية؟ يمكن للجامعة ان تصبح مؤسسة لتوفير هذه الكوادر وبما يعود من فوائد كثيرة على المجتمع اذا ما تبنت استراتيجية جديدة بالتعامل لزوما ووجوبا مع الوظائف الموجودة في الواقع والإسهام بإصرار ونفس طويلة في تأهيل كوادر لشغل هذه الوظائف. هل أن عدم تمكن الجامعة من التكيف مع احتياجات سوق العمل يعود الى أنها لازالت أسيرة تاريخها وتقاليدها، أو أن سياساتها لازالت أسيرة الاختصاصات التدريسية التقليدية المتوفرة بكثرة؟ لا ندعو الى إلغاء الاختصاصات الأساسية، ولكن ألا يمكن للجامعة الإبقاء على كثير من هذه الفروع لكن بعدد محدود جدا من الطلبة؟ قل لي ما هو عدد المهندسين والأطباء والصيادلة ومحترفي الكومبيوتر والزراعيين والمؤرخين واللغويين وغيرهم من الأخصائيين الذين سيحتاجهم العراق في عام 2012، أقول لك ما هو دور الجامعة في المجتمع.

دعني اضرب مثلا من الهند على تبني إحدى الجامعات لاستراتيجية جديدة تتعامل مع سوق العمل، وهذا مهم لان الجامعات الهندية ولعقود عديدة رفضت التطوير غير مكترثة بسوق العمل مثلها مثل الجامعات في البلدان العربية. في حيدراباد مثلاً، انشأت الجامعة ثلاث دراسات جديدة بالاستناد المباشر على حاجة سوق العمل، إحداها ماجستير مهارات اللغة الانكليزية وذلك بعد أن أصبحت الهند المركز الرئيسي للشركات الالكترونية والخدمية الأمريكية والأوربية لتقديم الخدمات التقنية للمستهلكين الغربيين عن طريق التلفون. هذا مثال يمكن ان تستفاد منه جامعتي كربلاء والكوفة وذلك بتأسيس دراسات للفندقة والخدمات السياحية لعل ذلك يساعد في تحسين الخدمات للملايين من زائري المراقد الدينية المقدسة في المحافظة ويوفر فرص عمل حقيقية للخريجين.

يجب أن لا نهمل ميول الطلبة نحو الدراسات التي توفر لهم وظيفة مرموقة ومنزلة اجتماعية. لذلك نجد التنافس شديداً على الدراسات الطبية والهندسية. فالطلبة بصورة عامة يتوجهون نحو هذه الكليات بسبب إغراء المجتمع وضغطه. إن هذا التنافس جيد إلى حد ما لأنه يضمن توزيع الطلبة على الاختصاصات المختلفة بالرغم من انه يخلق صعوبات للنظام التربوي لوجود أعداد هائلة من الطلبة الذين لا يرغبون في اختصاصاتهم رغبة صادقة وأصيلة فهم يدخلون الجامعة لاعتقادهم أنها توفر فرص عمل اكبر لهم واعتبارهم له كوسيلة للصعود الطبقي والاجتماعي.

إن شدة الإقبال على التعليم الجامعي هي المشكلة الأخرى التي يخلقها هذا النظام لأنه يساعد على بقاء الاختصاصات والفروع الدراسية غير المهمة لسوق العمل. هذا التوزيع غير الموازي لحاجة المجتمع إضافة إلى الزيادة الهائلة في أعداد الطلاب غير الموازية مع احتياجات المجتمع، تعمل مجتمعة على إغراق السوق بقوى عاطلة في الوقت الذي يبقى فيه المجتمع بحاجة كبيرة لخريجين في اختصاصات كالطب والهندسة.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أزمة العلاقة بين الجامعة والمجتمع، واندماج الجامعة مع واقعها ومحيطها، الأمر الذي يؤدي إلى طرح أسئلة عديدة حول أهمية الجامعة وقيمة التعليم الجامعي. فالعلوم البحتة والبعيدة عن القيام بدوها الاجتماعي في تقدم البلاد وازدهارها، تظل علوما نظرية تعليمية، بالاضافة الى البحوث الجامعية عديمة الجدوى والفائدة. لذلك ليس من الغريب أن تتزايد الأصوات الداعية إلى إعادة النظر في أهداف الجامعة وبضرورة وضع استراتيجية جديدة للتعليم العالي.

ومن هنا يتضح لنا أن التوجه الصحيح اليوم، يتطلب إلى إخضاع الجامعة لمتطلبات سوق العمل وذلك بالتحكم في نوعية الاختصاصات والمناهج وعدد الطلبة في كل اختصاص والتنظيم والإدارة الجامعية في ضوء هذا المبدأ. وهذا يتطلب إجراءات وتغيرات عميقة في هيكلية الجامعة، كما يتطلب أيضا دراسات شاملة عن سوق العمل الحاضر والمستقبلي بما فيه حصر أسواق العمل الحقيقية، ومعرفة متطلبات كل وظيفة، وكيفية توفير الكفاءة اللازمة. ويشاركني في ضرورة استجابة التعليم والبحث العلمي لخدمة المجتمع وسوق العمل الأستاذ الدكتور رياض عزيز هادي، مساعد رئيس جامعة بغداد، الذي يشير إلى أن تحقيق ذلك يتم "عن طريق إعداد الدراسات والخطط والاستبيانات التي تتولاها الجامعات والأساتذة الجامعيون ويتم عن طريقها، وعلى وفق معايير علمية معتمدة عالميا، بيان حاجات المجتمع وسوق العمل وأولويات تلك الاحتياجات ومستلزمات إنجازها". وفي هذا السياق نرى ضرورة التخلي عن سياسة إنشاء جامعات عامة جديدة واستبدالها بسياسة تقوم على أنشاء جامعات تكنولوجية وكليات التعليم المهني وجامعات اختصاص كالجامعات الطبية والمعلوماتية.

على الجامعة ان تتمتع بدرجة من المرونة في تحديد الاختصاصات وفي عدد الطلبة المقبولين في الاختصاصات على اساس الرغبة وحاجة سوق العمل. على سبيل المثال اخبرني احد اساتذة جامعة بنسلفانيا ان عدد الطلبة المقبولين في الفروع الهندسية قبل خمسة سنوات كانوا موزعين على ما يقارب 150 طالبا في قسم الكومبيوتر وبما يقارب نفس العدد في كل الفروع الهندسية الاخرى، اما اليوم فأن العدد تغير ليصبح عدد الطلبة في قسم الهندسة البيولوجية 150 طالبا وبما يقارب 200 طالبا موزعا على الاقسام الاخرى بضمنها قسم الكمبيوتر، وان سبب هذا التغيير يعود الى نمو الصناعات البيوتكنولوجية في الولاية واعتقاد الطلبة بأن اختصاص الهندسة البيولوجية يوفر لهم فرص لوظائف عمل افضل.

يتوقف تطوير التعليم الجامعي بما يخدم احتياجات سوق العمل على تطوير الإدارة الجامعية وتحسين جودة نظام التعليم بما يتناسب ومتطلبات المنافسة في عصر العولمة. فالتنافس هو السمة الأساسية لهذا العصر وهي تنعكس على النظام الجامعي بحيث نرى الجامعات تتنافس فيما بينها والأقسام داخل الجامعة تتنافس فيما بينها أيضا، بالإضافة إلى التنافس بين أعضاء الهيئة التدريسية. وعندما يحصل هذا التنافس في ظل استقلالية الجامعات والحرية الأكاديمية، فأنه يؤدي إلى بقاء الأصلح ونهاية الأسوأ، والالتزام بمعايير الجدارة والاستحقاق، والى تكوين قنوات اتصال بين الجامعات ومؤسسات المجتمع الانتاجية والخدمية كما هو موجود حاليا في مجال الطب حيث يعمل الأساتذة والطلبة في المستشفيات الجامعية وغيرها.

التعليم في العراق يفتقر الى التركيز على الجوانب المهنية والتقنية. وهذا يعود إلى عدم وجود سياسات فعالة والى تقاليد التعليم العالي التي تؤكد على الجانب الاكاديمي للتعليم الجامعي، وبأن الجامعة مؤسسة علمية لا علاقة لها بالأهداف الاجتماعية والاقتصادية غرضها نقل الثقافة ونشرها، بالإضافة إلى النظرة الدونية للحرف والمهارات التقنية باعتبارها تكتسب بالخبرة وليس بالدراسة الجامعية الرصينة. هذا إلى جانب انخفاض مستويات التعليم وتجزئة المعرفة وبقاء حدود التخصصات التقليدية والخوف والتهيب من أي تغيير أو إصلاح أو ابتكار.

في النهاية، نرى أن هناك ثمة حاجة إلى إصلاح نظام التعليم الجامعي، وتوجيه الطلبة نحو الدراسات التي توفر لهم فرص العمل، وان تصبح الجامعة بالإضافة إلى كونها مؤسسة أكاديمية جهاز تدريب لاشباع مطالب سوق العمل الوطني وأولويات الأسواق العالمية. كما وهناك حاجة إلى تحسين التعليم المهني والتقني لتعزيز قدرات ومهارات القوى العاملة بالتركيز الشامل على تطبيق معايير الجودة والتميز واعادة الاعتبار لهذا النوع من التعليم، وتحسين صورته وتثمين الثقافة التكنولوجية.

مقالة ذات علاقة:

• هل ستلتحق جامعاتنا بركب الجامعات العالمية في القرن الواحد والعشرين؟ - المقالات (البروفيسور محمد الربيعي) 09/01/2008

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com