زوايا من زمن الطاعون

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

اندهش، ولم يصدق، وانا اترجل من سيارة التاكسي وادفع اجرتها لتستدير وتعود الى مدينة السيليمانية . كنت على بعد عشرة امتار منه وهو يحدق بي، ولا اعتقد انه استطاع ان يرمش عينه حتى لاتتأخر عن لحظة التيقن مني . احتضنني وقبلني، وسألني قبل ان يدعوني للجلوس على المصطبة الوحيدة في نقطة التفتيش المرتفعة على سفح جبل شمال شرق السليمانية، لتفتيش الذاهبين والعائدين من مدينة جوارته . لم يستطع سليم ان يخفي قلقه رغم ترحيبه الحار عندما سألني : شلون الوضع ؟ اخبرته : جيد . بعد كل هذه الوضعية وجيد ؟! سألني بتأكيد . اجبته : اتصورت سؤالك حول وضعي الشخصي، وليس الوضع العام . وسألني باستغراب : ولكن كيف عرفت اني في هذه النقطة، والبارحة فقط جئت اليها ؟! اجبته : ذهبت البارحة بعد الساعة الرابعة بعد الظهر، والتي تنسحب عندها مفارز الانضباط من المدينة الى ثكناتها ( رغم ان هذه المفارز كانت حركتها محدودة داخل السليمانية، ولا تتعدى مناطق الوسط التي يتواجد فيها مقر الحكومة، المحافظة، الحامية العسكرية، المستشفى العسكري، مقر حزب البعث، الامن، الاستخبارات، مقر الجحوش من المرتزقة الاكراد الذين يعملون لخدمة النظام ) وسألت الحرس في باب مقر الانضباط عنك، فأخبرني انك ارسلت الى هذه النقطة . وسألته : ولكني جئت من بغداد ولا استطيع العودة في هذا الوقت لعدم وجود سيارات، وانا عسكري، فهل استطيع المبيت عندكم واذهب غداً لابن خالتي في نقطة جوارته ؟ لو كان في يوم آخر – اجابني – ممكن، اما اليوم فغير ممكن، لوجود اربعة محكوم عليهم بالاعدام، ويمنع أي شخص من خارج الوحدة المبيت في الثكنة . والحل ؟ وانا عسكري لااستطيع المبيت في الفنادق ؟! اجابني : اذهب الى فندق " كاني "، واشار الى جهته، تستطيع ان تقضي ليلتك فيه، وهو مخصص للعسكريين . ما تلى ذلك لم اخبر سليم بتفاصيله، لاني وجدته مرتبكاً، وعلي ان لاازيد حالته الى الذعر .

 " كاني " تعني بالكردية عين الماء، الفندق يقف على بابه شخص في وضع شبه رسمي . عند اجتياز عتبة الباب تخترقك نظرات اربعة او خمسة رجال جالسين على طاولات متفرقة، رفعت يدي بالتحية : السلام عليكم . لم يجبني حتى صاحب الفندق الذي يقف خلف مكتبه : ابن عمي اني عسكري ومحتاج ابات الليلة عدكم. طلب مني الهوية، تفحصها جيداً، وتفحصني، وطلب الاجازة، دققها . اعادهما الي، وطلب مني بلهجة آمرة وبأشارة من يده الى احد الموجودين ليدلني على فرع صغير يقابل باب الفندق من جهة الشارع الاخرى : بالفرع مديرية الاستخبارات، روح جيب موافقة منهم . عصرني قلبي، وبأقل من الثانية ادركت ان لامجال للاستفسار منه: لماذا؟ ولاخذ جزء من الوقت، وتبديد الخوف الذي داهمني من ضرورة الذهاب الى مديرية الاستخبارات ، سألته : ممكن ابقي الجنطة هنا ؟ لا، اجابني بصوت جاف، واضاف : هي زغيرة، من ثكَلها ؟ لا مو ثكَيلة، كَلت شكو ماخذهه ومرجعهه . تقدمني الدليل وبيده كوب شاي ناوله للواقف عند الباب واشار الى فرع المديرية المقابل لهم تماماً .

 ليست لدي مشكلة مع الاوراق الرسمية التي احملها، فهي بأسم ثاني، وموضبة بشكل جيد، ولا بما موجود في الحقيبة . ان الذي ملئني ذعراً معرفتي بوجود احد ضباط المديرية، كان يرغب بالانتقام من أي واحد من عائلتنا . اهله جيراننا منذ فترة طويلة، وعلاقتنا بهم على احسن ماتكون خاصة بين نساء عائلتينا، الا ان عائلتي عصت على البعث، ولم يتمكنوا من أي واحد منها رغم دموية وسائلهم، وهذا سبب حقده . وقفت على حافة الرصيف، الذي يراني يعتقد انتظر فراغ الشارع من السيارات، كنت افكر ماذا علي ان افعل ؟ لم استطع الالتفات الى الفندق، كنت اشعر بهم يراقبونني . شارع المديرية امامهم بالكامل، لن اتمكن من الافلات ان حاولت الاستدارة نحو المدينة، وماذا افعل في المدينة ؟! المتاجر تبدء بغلق ابوابها من الساعة الثانية . في احد المرات التي حالفني فيها الحظ وفلت من ايديهم، كنت اسكن في الكاظمية، نزلت من سيارة الاجرة ودخلت الفرع الذي يقع فيه البيت، كانت الساعة العاشرة ليلا، تفاجئت بوجود مفرزة امن بعض افرادها في البيت، كنت على مسافة قريبة جدا واي تراجع سيلفت انتباههم، تقدمت، ليس امامي الا ان اتقدم : الله ايساعدهم . بذلت طاقة لن تتكرر مرة اخرى ليكوم صوتي طبيعيا . كان اثنان من الجيران يريدان الدخول الى بيتاهما المقابل للبيت الذي اسكنه،  تسمرا من الدهشة، شلة المفاجئة السنتهم، واصلت السير، عبرتهم، لم التفت، استدرت الى اليمين في اول فرع، واصلت السير الى الشارع العام، كانت اطول مسافة قطعتها في حياتي وهي لاتتجاوز الخمسين مترا، صعدت التاكسي ولا احد في اثري . تهالكت في المقعد الخلفي وانا ازيح الجهد والخوف وكثافة القلق الغير مصدق بالنجاة . حالفني الحظ ان لااحد من افراد الامن الذين يقفون في الباب يعرفني بالشكل، والجيران الاثنان اصدقاء، احدهم بعثي لاجل معيشته، والآخر شيوعي ايضاً تم (كسبه ) للبعث رغم انفه، ووجد في خلاصي انتعاش لجذوره الطيبة .

 داهمني احساس الخمسين مترا وانا ادخل فرع مديرية الاستخبارات . الفرع مغلق من الجهة الثانية، ولايوجد أي شئ في الفرع الكونكريتي ذو اللون الرصاصي الا شباك الاستعلامات على اليمين ويتبعه باب صغير مغلق . اخبرت جندي الاستعلامات باني قادم من بغداد واحتاج ورقة للمبيت في فندق " كاني "، ودفعت له الهوية، وبمجرد رؤيته للهوية رحب بي ولامني ليظهر وده على تأخري الى هذه الساعة في المدينة . سألته : شنو سليمانية مو بالعراق ؟! اجابني : ياخوية ياعراق ؟ ايصير الليل وانت اتشوف الضرب بعينك . كانت هويتي صادرة من مستشفى الرشيد العسكري، وقد خدمتني كثيرا، لان العسكريين بكل رتبهم يريدون ان يمددوا اجازاتهم الاعتيادية في فترة الحرب بأجازات مرضية، اشجعهم واظهر استعدادي لمساعدتهم، واعطيهم تلفوني وعنواني في بغداد، وهذا ما حدث مع جندي الاستعلامات الذي اعطاني ورقة المبيت حتى بدون ان يرى الاجازة، وقدم الى غرفتي في الفندق مع النائب ضابط رئيس عرفاء وحدة المديرية، وكنت له ( لكَطة ) اراد التقرب بها الى النائب ضابط، ليأخذ الاخير اجازة مرضية ايضاً .

 قبل ان اذهب الى سليم، ذهبت الى محطتي الحزبية في السليمانية، كان رجل قارب الستين ويملك محل لتجارة الحبوب، واخبرته : بانني يجب ان اعود اليوم الى مناطق البيشمركة للقاء الرفاق . طبعا لم اخبره باني فقدت آخر ملجأ اختفي فيه في بغداد، بعد ان انذر مالك البيت الرفيق المؤجر بترك البيت . طلب مني ان ارجع عند الظهر لكي يتدبر الامر، وهذا ما اردته كي اذهب الى سليم . عرفت بوجود سليم انظباط في السليمانية من احد الاصدقاء، ولم التق به طيلة الاربع سنوات الماضية، أي منذ ضربة الحزب عام 1979، واعرف الثمن الجسدي والنفسي الذي دفعه كي يمنعوه من الاستمرار في العمل مع الحزب الشيوعي، وقدومي اليه ليس طمعا باعادة صلته بالحزب، فهذا ليس من صالحه ولا من صالح الحزب، لان هو وامثاله يبقون موضع شك ما دام البعث في السلطة . كنت اريد ان اعرف هل يمكن الاستفادة من وجوده انظباط ( حصل على تنسيبه الى الانظباط بعد ان تبناه احد الرتب العسكرية العالية من اقاربه ) في مساعدتي بشكل شخصي، لان السليمانية منطقة عبوري الرئيسية الى المناطق المحررة في كردستان . بعد عشرة دقائق ادركت اني لااستطيع ان اطلب منه أي شئ، ولكني آثرت ان استمر معه لامنع حدوث فجوة ستؤلمه لو ذهبت مباشرة . بعد ما يقارب النصف ساعة مددت له يدي مودعاً، انفرجت اساريره، كان هما ثقيلا انزاح عنه فجأة، احتضنني، وطلب مني برجاء ان انتقل الى المناطق المحررة حفاظا على حياتي، واخرج من حقيبته خمسة وعشرون دينارا واقسم انه لايملك غيرها، لم اقبلها، لكنه اصر ودفعها في جيبي .

 ركبت بين السائق وصاحبي ( الركيزة الحزبية )، كان الاتفاق ان لااتحدث معه او مع أي شخص آخر في السيارة الى ان نصل، وفي حالة حدوث شئ طارئ، او انزلوني في نقطة تفتيش، فلا اعرفه ولايعرفني ... كنت محبطاً، والنتيجة التي سيطرت عل تفكيري هو ان لاشئ خدم النظام اكثر من الحرب، لقد احكم قبضته على رقاب الناس، ودفع الناس لتفكر بغرائزها فقط، واوجد مسافة من النسيان بين ما نشأت عليه، وبين الضرورات الجديدة لحياتها، والسؤال المر : كيف تستنبت ازهاراً وتسقيها من ماء الطاعون ؟! كان المفروض ان اعود قبل عشرة ايام على الاقل، كان علي ان آتي بالبريد الحزبي الذي كلفت بجلبه في آخر يومين تسبق صعودي . ذهبت الى المتجر الذي يقع على الشارع العام الذي يتجه من بغداد الى مدينة الكوت، لم اجد صعوبة في التعرف عليه، فقد كان الاول على يمين الجامع، والرجل الذي يقف في وسطه له نفس المواصفات التي اعطوني اياها، متوسط الطول، سمين، ابيض، تجاوز الاربعين، عقاله متين مصوّف، ويشماغ ابيض واسود . كنت فرحاً لاستلام البريد، لانه سيفرض علي الذهاب الى كردستان في اليوم الثاني، واودع القلق، والتنبه الدائم لكل شئ، كنت بحاجة لمن يشاركني في استيعاب التدهور الحاصل، ولم الشمل مع الايمان المتصدع بالقدرة على اعادة التنظيم،  كان الانحدار الرهيب الذي قاده النظام اسرع بكثير من قدرات استيعاب الشعب المنكوب .

 توقفت السيارة في نقطة تفتيش عربت، وهي الاهم في كل الطريق الى دربندخان، لانها تشرف على تفرعات رئيسية، ونقطة التفتيش هذه فيها: انضباط، امن، استخبارات، افراد من الوحدات الرئيسية في المنطقة . سألني وكان مدنيا، وقد شخصني من ملابسي باني لست كرديا : هويتك اخي . اعطيته الهوية والاجازة . الاجازة اليوم تنتهي ؟! اجبته : لاعزيزي بالظهر يومين مساعدة . تطلع في ظهرها، وسألني : انت وين رايح ؟ لدربندخان . شعندك بدربندخان ؟ اجبته بتوتر : ابن عمي مرحبة عليك ( اشرت له على قميصي الاسود ) البارحة انتهت الفاتحة مال اخوية الصغير، ورايح على اخوية الثاني اتأكد منه, امي راح تتخبل, اقتنعت لوما اقتنعت ؟ يعني ابتلينه خوما ابتلينه، امنين الله سلط علينه هذا، احنه وين والخميني وين ؟! كانت الغالبية تدرك ان المقصود صدام وليس الخميني، وكلما تقدمت تجاه المناطق الخطرة وجبهات القتال، تزداد المجاهرة بنغمة الصوت .  اعاد الهوية والاجازة واشر لنا بالذهاب .

تقدمت من المتجر وسلمت عليه، رأيت اثنان افندية يجلسان في الداخل .  وبدل كلمة السر، طلبت منه شراء علبة سكائر بغداد . كان اول يوم العيد الصغير، والاثنان يلبسان ملابس جديدة، ويتشاغلان في حديث بينهما، اخذت العلبة وذهبت . اغلب الظن انهما ضيوف وقدما لمعايدته، وقلقي هو الذي منعني لالغاء التعارف . في اليوم الثاني وجدت اثنان ايضاً، وغير الذين وجدتهم بالامس، اخذت العلبة وذهبت، ولم اعد له مرة اخرى . اثقلتني هذه الحادثة، كنت اتألم، لاني لم آتي بالبريد، وقلقي هو الذي منعني من الاتيان به، فقد تصورت اسوء الاحتمالات : ماذا لو كان الجالسان امن ؟! لاشئ غير الموت . وقبل الموت، تتمنى ان تموت الف مرّة بدل التعذيب الذي فاق كل تصور . الا ان الاكثر ايلاماً وجود احد المسؤولين عن عمل الداخل سوف لن يتهمني بالجبن بشكل مباشر، لكن كل تصرفاته ستقول ذلك، حاولت ان اقنع نفسي واختلق عذراً آخر اكثر معقولية لعدم عودتي الى المتجر مرّة اخرى، فوجدت نفسي لااستطيع ان انزل الى هذه الخسة . انتبهت لضربة صاحبي على كتفي الايسر القريب من السائق، بعد ان انعطفت السيارة الى اليسار في طريق ترابي : الحمد الله على السلامة كاكه، المفرزة تنتظرنا في هذه القرية، واسمها احمد برنو . شكرته كثيراً، وتبين ان الثلاثة الذين يجلسون في الخلف من اهل القرية، وواحد منهم رفيق .

 كانت المسافة بين الشارع واحمد برنو قصيرة وبحدود الكيلومترين، والقرية تستظل بجبل ليس عاليا، كان مع المفرزة التي تنتظرنا شقيقي " ابو فلاح "، وآخر مسؤولي الحزبي " ابو جلال " اللذين ابغي الوصول اليهما . تباوسنا، وتحاضنا، وانا اسلم على باقي افراد المفرزة، تملكني السؤال : لماذا اخي، ومسؤولي تركا المقر وجاءا مع المفرزة ؟! لابد من وجود شئ دفعهم لذلك، كنت خائفاً، واخشى ان يكلفوني بالعودة لامر قد لااستطيع التملص منه . يبدو ان التساؤل كان واضحاً على هيئتي . سحبني شقيقي وابو جلال الذي فاجئني : تعرف انت طفرت من الطاوة ؟ ! شلون ؟! الافندية الموجودين في المتجر كانو امن وينتظروك .

 هذا ما افاد به ابن صاحب المتجر الذي سهل الامن عودته الى كردستان بعد ان قبض عليه عند اهله، واستطاع ان يقنع الامن بتعاونه معهم . وتأخري هوالذي دفع الرفاق للنزول مع المفرزة، وكانوا على وشك اليقين بالقبض علي عندما جاءهم الخبر صباح اليوم بقدومي اليهم . و ابو جلال الشهيد " خضير عباس جاسم" من منطقة ثلث الجزرة جنوب الحي باتجاه الناصرية، استشهد في ديالى وهو يقود تنظيمات الداخل للمنطقة الوسطى للحزب.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com