|
دوره في انتخابات الجبهة الوطنية عام 1954 أعلن الحكم الملكي المباد في آبار 1954 العزم على أجراء انتخابات برلمانية في حزيران 1954 تمهيدا لعقد معاهدة جديدة مع بريطانيا بدلا من معاهدة 1935 المشرفة على الانتهاء،فكان النظام يعمل بجهد للإتيان ببرلمان شبيه بالبرلمانات السابقة عن طريق التزكية والانتخابات الصورية المزورة،وكان ما تحسب له الحساب وتخشاه أن تتمكن المعارضة الوطنية من الوصول إلى البرلمان عن طريق الانتخابات المباشرة،وخصوصا في المناطق التي تنشط فيها الحركة الوطنية مثل الفرات الأوسط والحي والمدن الشمالية،وكانت القوى الوطنية قد ارتأت أن توحد صفوفها في جبهة واحدة لخوض الانتخابات،بغية إيصال مرشحيها إلى البرلمان،وبدأت بتنسيق جهودها والاتصال بين قادتها،وبعد مفاوضات شاقة مضنية تمكنت أطراف الحركة الوطنية من تأليف جبهتها في أيار 1954 وأصدرت بيانها التأسيسي وبرنامجها الانتخابي الذي تضمن الأهداف التي تسعى الجبهة لتحقيقها ،وبلغ مرشحيها 37 مرشحا يمثلون الجهات المشاركة فيها،من الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي وبعض المستقلين من الوطنيين،ورشح عن الحزب الشيوعي بصفة مستقلين المحامي محمد الجلبي و الدكتور خليل جواد والشيخ محمد الشبيب والمحامي توفيق منير والشيخ عبد الكريم الماشطة ،فعمدت السلطات الحاكمة إلى التضييق على مرشحي الجبهة ووضع العراقيل في وجوههم ومنعهم من القيام بأي نشاط جماهيري أو دعاية انتخابية،وزجت بعضهم في السجون،وكان مرشح محافظة بابل العلامة الشيخ عبد الكريم الماشطة الشخصية اليسارية والناشط في حركة السلم العراقية ومن المؤسسين لها، قد حورب من قبل الإدارة المحلية في اللواء وأخذت بالتضييق على نشاطاته بشكل سافر،وعمدت القوى الرجعية المرتبطة بدوائر الاستعمار والبلاط الملكي إلى تسخير الأشقياء وأبناء الشوارع لمحاربة مرشح الجبهة،فيما كانت السلطة تغض النظر عن تصرفات أتباعها يعاضدها في ذلك بعض الأطراف التي ترى في فوز المرشح أضعاف لمكانتها الاجتماعية في اللواء،وكان البعض من أشباه رجال الدين يحاولون بطرقهم الخبيثة تحريك البسطاء والافتراء على مكانة الشيخ الدينية،لأنه كان في ذلك الوقت من مناصري الحركة الوطنية رغم وصوله إلى درجة متقدمة في الاجتهاد،والكثير من أبناء الحلة كانوا من مقلديه ومريديه لما أتصف به من أخلاق عالية وصفات محببة وبساطة متناهية بعيدا عن الكبرياء والتعالي الذي عليه البعض من متسلقي سلالم الدين،لذلك قرر الشيخ الخروج بمظاهرة احتجاجية جابت شوارع المدينة أستنفر لها الحزب جماهيريه وقواه،وخرج لحماية المظاهرة الشباب المستعد للمواجهة،فقامت الشرطة بأوامر من متصرف اللواء بمهاجمة المظاهرة،بالعصي والهراوات فقاومت الجماهير المحيطة بالشيخ التصرف الأهوج للعملاء واشتبكوا مع الشرطة وسارت التظاهرة في سوق الحلة الكبير وقد شارك فيها الفلاحين من منظمات اللواء المختلفة،وقد قامت السلطة باعتقال الشيخ ومحاكمته وتطوع عشرات المحامين للدفاع عنه ،ولكن الحاكم رفض الدعوى وبرء الشيخ مما نسب إليه لأن أجراأت الشرطة كانت منافية للقانون الذي يجيز للمرشحين الدعاية الانتخابية والإعلان عن برنامجهم عن طريق التجمعات والمسيرات،وقد عمدت إدارة المحافظة إلى تزوير الانتخابات ومنع الناخبين من الوصول إلى صناديق الانتخاب وقامت بملأ الصناديق بأسماء مرشحي الحكومة وبذلك لم يحصل الشيخ على الأصوات التي تؤهله للوصول إلى البرلمان،ورغم ذلك أسفرت الانتخابات عن فوز 14 مرشحا من مرشحي الجبهة الوطنية مما أزعج نوري السعيد والبلاط الملكي،فلم يجتمع المجلس غير مرة واحدة وصدرت الإرادة الملكية بحله،وتعيين نوري السعيد رئيسا للوزراء والإتيان ببرلمان جديد عن طريق التزكية التي هي الطريقة الوحيدة لوصول النواب إلى البرلمان. في هذا الجو اللاهب والأتون المحترق عمل الشهيد كاظم الجاسم بالتهيئة للانتخابات ودفع أنصار الحزب ومؤازريه للمشاركة فيها وانتخاب ممثلهم الساعي لتحقيق مصالحهم بدلا من انتخاب مستغليهم من أتباع البلاط ،وقام الفقيد بجولات ميدانية شملت الكثير من القرى والتجمعات الفلاحية،وقد عقد اجتماعات عدة مع مسئولي الخلايا في أرياف الحلة لشرح البرنامج الانتخابي ،ولكن هيمنة الشيوخ وتأثير الإدارة المتواطئة معهم وقيامها بالتزوير المفضوح وخوف الكثير من الفلاحين من مواجهة الشيوخ لأنهم كانوا يملكون السلطة التي تؤهلهم للضغط على الفلاحين البسطاء،ورغم ذلك فقد كانت الجماهير الفلاحية قد عقدت عزمها على خوض الانتخابات مهما كانت النتائج،وحصل مرشح الجبهة على بعض الأصوات ،فيما أمتنع الكثيرون عن المشاركة في الانتخابات خشية انتقام الملاكين ،وقام بعض الملاكين بتدبير التهم للناشطين منهم لحسر نشاطهم ومشاركتهم في الدعاية الانتخابية انتفاضة عام 1956 وقد تجلت ذروة نضاله في المظاهرات الحاشدة التي قادها الحزب الشيوعي للتنديد بالعدوان على مصر الشقيقة،فقد حشد الحزب طاقاته الجماهيرية في أخراج التظاهرات الصاخبة في جميع المدن العراقية،وكان الشهيد المشرف على المظاهرات التي خرجت في قضاء الهاشمية والنواحي التابعة له،وقد أشرف بنفسه على المظاهرة التي اختير لها يوم الجمعة في القاسم لتميز هذا اليوم عن باقي الأيام في المدينة ،ومجيء أهالي القرى المجاورة إليها في هذا اليوم لبيع منتجاتهم من البيض والدجاج والدهن الحر وما لديهم من محاصيل زراعية، أو المواشي والأبقار لأن يوم الجمعة هو اليوم الوحيد الذين يفدون به إلى المدينة بسبب صعوبة المواصلات آنذاك ،ويقومون بشراء احتياجاتهم من التبغ والشاي والسكر والقهوة التي هي من اللوازم المهمة لسكان الريف،ويفد إلى المدينة الباعة المتجولين من الحلة والنجف لبيع بضائعهم، وقد شاهدت المظاهرة وأنا طفل صغير لا أعرف عنها إلا ما سمعت من هتافات لم أعرف منها غير يسقط ويعيش،وحدثني عنها المشاركين فيها، فقد قام الشهيد كاظم الجاسم بتبليغ الرفاق بضرورة الأعداد لمظاهرة،وقد جرى الاتفاق في المنظمة الحزبية على عدم أشراك الرفيق الشيخ أحمد عبد الله في المظاهرة لأنه من المعروفين أولا،ولجعل بيته الملاذ لهم في حالة مهاجمة التظاهرة ومطاردتهم،وكانت هذه أول تجربة تخوضها الجماهير في التظاهر فليس من المألوف خروج تظاهرات في المدن الصغيرة لأنها تقتصر على مراكز المحافظات والعاصمة،ولعل القاسم في هذا المجال هي أول ناحية تخرج فيها مظاهرة بهذا الحجم وهذا التخطيط الناجح بفضل المعرفة المسبقة لرفاق المنظمة الذين شاركوا في مثل هذه التظاهرات وخصوصا الرفيق أبو منقذ جاسم حسن شلال الذي انتمى للحزب عام 1951 في بغداد وسبق له المشاركة بمثل هذه النشاطات وأعتقل جرائها وحكم عليه سنتين وأبعد إلى الشعيبة في البصرة. وكان المشاركين فيها أو الذين قاموا بقيادتها الرفاق جاسم حسن شلال،وحسن السهر وسيد علي السيد ياسر وعبيد عبد الأخوة وعبد الأمير هادي وعبيد آل طينة وجاسم العنيبي وكان هتاف المظاهرة الرفيق السيد مرزة صاحب الشرع من العائلة الشيوعية المعروفة في الشامية عن الحزب الشيوعي العراقي،و(وداي محيسن المشعان )عن الحزب الوطني الديمقراطي،ولم يشارك فيها أحد من البعثيين لعدم وجود تنظيم أو فرد في المدينة،وكانت الهيمنة للشيوعيين الذين تمكنوا من التغلغل في صفوف الجماهير وبناء مرتكز اتهم في القرى ومركز المدينة،وقد أشرف عليها الرفيق أبو قيود عن بعد لأنه من القياديين المطلوبين،و ويرسل تعليماته إليهم بواسطة أحد الرفاق،حيث أخذ من بيت الشهيد الرفيق عزيز حمزة الأحمد مقرا له، وقد حددت الساعة ومكان الانطلاق،وفي فورة التجمع الجماهيري،طلب الرفيق أبو منقذ من السيد مرزة الشرع الهتاف،فقال له ولكن أين الجماهير قال له أهتف وستجدها حواليك ،أطلق الهتاف الرفيق مرزة الشرع الذي كان يرتدي الزي ألفلاحي،وصاح بأعلى صوته،يسقط نوري السعيد،يسقط حلف بغداد، وما أسرع ما التئم شمل المتظاهرين وقدر عدد المشاركين فيها بأكثر من (200) مواطن أكثرهم لم يكونوا شيوعيين ولكنهم شاركوا لدوافع وطنية بحتة،ليقينهم بأن الحزب الشيوعي يعمل لأجلهم ومن صالحهم ،ثم توالت الهتافات الأخرى المنددة بالعدوان لتندفع الجماهير للمشاركة فيها،وقد انطلقت من ساحة بيع المواشي،وعند وصولهم إلى نقطة التفرق أمام باب الأمام القاسم كما هو مرسوم في الخطة ،هاجمها الشرطة الذين لا يزيد عددهم عن الأربعة وحدثت شبه مواجهة بين المندفعين من الشباب المتحمس فأصيب حسن الشرطي في رأسه وجاء الإيعاز بتفرق المظاهرة فتفرقوا بين الأزقة المؤدية إلى خارج المدينة،فيما قامت جماهير الفلاحين بتشكيل حاجز غير مقصود منع الشرطة من متابعتهم،ولم يتمكنوا من ألقاء القبض على أحد من المتظاهرين،وكانت المجموعة المشاركة في المظاهرة قد أعدت عدتها للمواجهة بما عرف عن الفلاحين من جرأة واندفاع،فقد أخفوا أسلحتهم في المنازل القريبة من مكان المظاهرة،أو لدى النساء اللواتي يسرن بالقرب منها تحسبا للتطورات لأن الشرطة في تلك الأيام كانت لديها أوامر صريحة بإطلاق النار على المتظاهرين،وكانت هذه المظاهرة الأولى التي تحدث في المدينة،وهي تمهيد لمظاهرات أخرى كان لها أثارها في المواجهة مع السلطة الملكية العميلة،وكان تخطيط المظاهرة ناجحا لمعرفة الشهيد بالمنطقة،وتجاربه السابقة في هذا المجال،وقد ساهمت التنظيمات الفلاحية التي كان مسئولا عنها في مظاهرات المدن الأخرى،وخصوصا في المظاهرة الكبرى التي خرجت في الحلة،وشاركت فيها الأوساط الجماهيرية كافة،وكانت المشاركة الفلاحية كثيفة ومؤثرة بسبب الدقة في اختيار الزمان والمكان ،حيث يحاول الرفاق أن تخرج المظاهرة في الأسواق المزدحمة التي لها منافذ متعددة تسهل عملية الهروب والتخفي بعد مهاجمتها،وكان الفلاحين أكثر من غيرهم قدرة على الاختفاء لأنهم يخفون وجوههم خلف كوفياتهم التي تجعل تمييزهم مستحيلا،لذلك تختلط المشاركة الفعلية مع المشاركة البريئة،مما يجعل الشرطة عاجزة عن التمييز بين المشارك أو عابر السبيل،وهذا الأمر كان له أثره في حسن توجيه المظاهرة نتيجة الخبرة المتراكمة للشيوعيين في المظاهرات.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |