المنتصرون هم من يكتب التاريخ، عبارة طالما قرأناها ولم نلتفت إلى أن المنهزمون أيضا في بعض الأحيان يكتبون التاريخ، وفي منطقتنا العربية المنهزمون دائما هم من يكتب التاريخ ، لذلك لم تكن لدينا في يوم من الأيام، رؤية موحدة تجاه التاريخ وحوادثه، وكان التزوير حاضر حتى أصبح هو القاعدة والحقيقة استثناء، وأصبحت أمة العرب أمة انتقائية تختار من حوادث التاريخ ما تشتهيه وتكتبه، تغير وقائع، وتغير شخصيات، بل تختلق وقائع وأشخاص ، وتقفز فوق الكثير من الحوادث، هذه المقدمة نسوقها حتى لا تستغفل الأجيال القادمة، ونحن نعيش اليوم الذكرى الخامسة للحرب، تلك الحرب التي حاولت دوائر عديدة إخفاء العديد من ملفاتها، وتسويق ملفات بديلة لا تمت للحقيقة بصلة، و تشويه حوادثها، وإلصاق الجريمة بغير مرتكبيها، وتحويل الجبناء إلى إبطال والتهليل لهم ، وكأن هذه الأمة أدمنت التهليل لإبطال من ورق، صنعتها الذاكرة الجمعية والخيال الخصب، في محاولة للهرب من الواقع المرير الذي تعيشه، واقع الانكسارات النفسية والهزائم، وعلى أكثر من صعيد، أمة مهزومة في اغلب حروبها، مهزومة قبل أن تخوض هذه الحروب, لذلك لا تريد هذه الشعوب الإقرار بالهزيمة، ولا تريد تصديق أن هناك رجال هتفوا وصفقوا لهم في يوم من الأيام جبناء وخونة، الزعماء بدورهم استمتعوا لمنظر الشعوب وهي تتقبل الهزيمة وتحولها إلى انتصار، هذا جعل الجميع يشمع ملفات الحروب بالشمع الأحمر, خاصة فيما يتعلق بقادة تلك الحروب وخياناتهم ، وكالعادة ترك الأسباب والتركيز على النتائج، مع محاولة تأسيس أسباب غير الأسباب الحقيقية لتتلاءم مع النتائج، والتاريخ الذي يعتبر ذاكرة الأمة، هذه الذاكرة أحالت جميع ملفات الهزائم إلى صالات عمليات التجميل، لأعادت ترقيعها وتزويقها، والبحث عن جهات خارجية وتحميلها المسؤولية ، ولم نسمع أن العرب تحملوا يوما ما مسؤولية هزيمة، وعندما تستعصي إحدى الحالات، و ترفض استقبال الأجسام الغريبة، تحال إلى ردهة العناية المركزة، أي ردهة الخيانة، ولأن الخيانة بحاجة أيضا إلى أباء، فأبو الخيانة جاهز في الذهنية العربية، وهذا الأب دائما مختلف قوميا أو دينيا أو مذهبيا، المختلفون عليهم دائما أن يتحملوا انكسارات العرب وخياناتهم، ولو تصفحت التاريخ العربي للبحث عن أبطال الخيانة فلن تجد سوى ابن العلقمي الشيعي ويعقوب النصراني المسيحي وعزام عزام الدرزي، ومن هم على شاكلتهم، أما الآخرون فهم معصومين من الخيانة، وإذا لم يتوفر شخص بهذه المواصفات، تكون التهم عامة، كأن يقال الحكام .. القيادات .. المعارضة كلهم خونة، وهذا التعميم سوف يتلاشى، وتسجل الخيانة ضد مجهول، فالعربي الذي على دين السلطة ومذهبها لا يخون ..!، واليوم ونحن نعيش الذكرى الخامسة لسقوط النظام السابق ، بعد هذه السنوات نرى كثير من الملفات زورت وأخرى اختفت، والباقي تعمل المؤسسة الإعلامية العربية الرسمية على أتلافه ، خلال هذه السنوات الخمسة يستذكر العرب هذه الحرب كل عام، ويستذكرون معها دخول الدبابات ومن أتى على ظهر هذه الدبابات، ومن ظهر مع هذه الدبابات ، ولكن لا يتذكرون من هرب مع الدبابات، أو من حملته الاباتشيات ، وفي محاولة للخروج من الإحراجات، يركزون على ما يجري اليوم، وما هي الانجازات التي تحققت بعد خمس سنوات، أما لماذا الهزيمة ؟ وكيف ؟ فلا احد يريد الجواب على هذا السؤال، حتى الاعترافات التي ظهرت من البعض، في ساعة انفعالات السقوط وهي اعترافات وانفعالات حقيقية، عاد الجميع وتنكر لها، ولا احد يتكلم عليها اليوم، أنا ضد نظرية المؤامرة وكذلك ضد نظرية الخيانة، ولكن هنالك حقائق لا بد من دراستها، والتأمل فيها حتى نكون امة منصفة مع نفسها ومع الآخرين، فما الذي جرى قبل وبعد التاسع من نيسان .

نصائح جنرالات النكسة

لم يكن أكثر المتشائمين يتوقع وصول القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها إلى بغداد بهذه السرعة، وان يكون الجنود الأمريكيين بعد ثلاث أسابيع في ساحة الفردوس يساعدون المواطنين بإسقاط التمثال العملاق لصدام، قبل ذلك حدث اختفاء غير مبرر للقيادات السياسية والحزبية والعسكرية، تبعه تسرب الجنود حيث لا مبرر لبقائهم بدون قيادات ميدانية، وإذا كان اختفاء السياسيين والحزبيين والجنود متوقع، فمن غير المتوقع اختفاء القيادات العسكرية، فإذا كانت تختفي في المعارك والحروب فما الداعي لتسميتهم قادة عسكريين، ولكن هذه القيادات التي كانت تحمل العشرات من الأوسمة والنياشين على صدورها، عادت اليوم ولكن ليس في سوح القتال وإنما على شاشات الفضائيات، وقبل الحرب لم يكن ما يعرض على شاشة تلفزيون العراق من اجتماعات للقيادة العامة للقوات المسلحة يدعوا للاطمئنان ، ففلسفة النظام وعقيدة الجيش القتالية لم تتغير، فنتائج حرب 1991 هي معيار الانتصار، وهو بقاء صدام ونظامه في الحكم ، هذه الثقافة التي تعتبر بقاء صدام في الحكم هو الانتصار الحقيقي حتى لو جاء هذا البقاء على حساب مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين، مع خراب شامل أعاد العراق إلى العصور الوسطى، أعداد كبيرة من الأرامل والأيتام، أعقبه إبادة جماعية في مدن الوسط والجنوب وكردستان ليدفن الناس أحياء، ولم تكترث القيادة الملهمة لصورة جندي عراقي وهو يلثم حذاء احد الجنود الأجانب في مشهد تناقلته القنوات التلفزيونية العالمية، لذلك نقول أن ما كان يصدر عن الاجتماعات كان يصيب المواطن العراقي بالإحباط، ويعيد إلى أذهانه تجربة عام 1991 وربما اشد قسوة، لان الولايات المتحدة عازمة هذه المرة على إسقاط النظام، وأحس المواطن أن النظام سيدافع عن نفسه ويستخدم الشعب كساتر ودروع بشريه ليحتمي به، كما جرت عليه العادة في الحروب السابق، وتعزز هذا الاعتقاد حينما قال صدام أن مغول العصر ويقصد بهم الأمريكان سينحرون على أسوار بغداد وليس العراق، أي أن النظام أعلنها صراحة بأنه سيدافع عن بغداد، ليس كل بغداد وإنما جانب واحد فقط وهو جانب الكرخ، والذي يضم القصور الرئاسية والمقرات الحزبية الرئيسية والدوائر الأمنية، وانطلقت الإشاعات بان صدام يعد مفاجئه للأمريكان ستجعلهم يعتبرون ما جرى في فيتنام نزهة قياسا لما سيلقونه على أسوار بغداد، الإعلام العربي بدوره طبل وزمر لهذه الإشاعات مستعينا بمجموعه من جنرالات النكسة، (وفاقد الشيء لا يعطيه ) أخذ هؤلاء ينظرون على هواهم، مستندين إلى نفس القاعدة، بقاء صدام هو النصر، مبشرين بانتصار خاطف وسريع لصدام وقواته، أما الأمريكان فكل ما يستطيعون فعل هو قصف المدنين والمنشئات والجسور، وهذا غير مهم من وجهة نظرهم، أما التكنولوجيا والسيادة الجوية ما هي إلا فيلم من سلسلة أفلام رامبو للمثل الشهير سيلفستر ستالون، والتي تنتجها وتسوقها استوديوهات هوليود للتأثير في معنويات بلدان العالم الثالث وأنظمتها الثورية، لذلك لا جنرالات الداخل ولا جنرالات الخارج أعطوا صورة صادقة وواضحة عما يجري داخل المعسكرين، وكيف ستكون المواجهة وما هي النتائج المتوقعة، فغالطوا أنفسهم وغالطوا الواقع والمنطق، والذي كان بإمكان أي طالب مستجد في الكلية العسكرية أن يعطيك صورة للموقف اقرب للواقع، لكن هذا لم يحصل ودفع الجميع باتجاه الحرب، مستبعدين جميع الحلول السياسية، والتي كانت مبنية على مبدءا تنازل صدام عن السلطة ليجنب شعبه والمنطقة حرب جديدة ستحرق الأخضر واليابس، وحتى بعض الدول العربية التي نقلت هذه الرسالة على استحياء إلى صدام لم تكن مقتنعة بها، لان منظومة الاستبداد العربي واحدة رغم التقاطعات الكثيرة التي بين هذه الأنظمة، لأنهم يعتبرونها سابقة خطيرة ربما ستفتح الباب على تجارب أخرى ويجبر حكام آخرين على التنحي، ولقد صدق حدسهم لأنه بعد سقوط صدام بأسابيع انتشرت في شوارع إحدى العواصم العربية شعارات تقول ( بدنا سيارة وحوش لنخبر عمنا بوش )، هذا ما دفع هذه الأنظمة إلى دفع صدام للمواجهة وتقديم كل الدعم الإعلامي له، في المقابل قدمت كل التسهيلات اللوجستية للقوات الدولية، فصدام لا يريد سوى الإعلام ومسيرات تجوب العواصم العربية ترفع صوره وتهتف باسمه، أما الولايات المتحدة فلا تريد إعلام بل تريد قواعد عسكرية ومجال جوي مفتوح وموانئ وهذا ما طلبته وأخذته، وقبل أيام من بداية الحرب ازدادت سخونة الشعارات والمسيرات على الجانب العراقي، وازداد تحشد القوات والمعدات على الجانب الأمريكي، وظهر صدام في أسوء حالاته، شارد الذهن عديم التركيز, والعراقيون يتذكرون احد اللقاءات والتي اخذوا يتندرون بها حينما قال احد الضباط لصدام بتملق وكذب واضحين ( إن أبوه الله يرحمه رأى قبل موته، صدام فوق الكعبة المشرفة وهو يحج )، وعندما انتهى أجابه صدام ( عفية سلمنا على أبوك )، ولقد أشار احد المراقبين إلى حالة الشرود التي لازمته في أيامه الأخيرة، وقال ( إن الرجل يمشي مترنح وكأنه مغيب ) وكان في كل لقاء يشن هجوما لاذعا على صدام وأعوانه متهما إياه بأنه جلب الخراب والموت للبلد منذ توليه الحكم، ولكن بقدرة قادر تحول الرجل بعد سقوط صدام وهوا ليوم الذي كان ينتظره حسب قوله، ليدافع عنه ويعتبره شهيد الأمة الخالد، وهذا ليس الوحيد الذي انقلب بل معه أخريين،

جنرالات الأباتشي

عندما اندلعت الحرب وبدأ القصف الجوي والصاروخي على بغداد والمدن العراقية الأخرى، توالت الأنباء من جنوب العراق وخاصة ميناء أم قصر والتي تعثرت فيها القوات الدولية لأكثر من أسبوع والذي دفع بعض القادة لاستغلال جهل قصي بالأمور العسكرية وإقناعه بإرسال قطعات الحرس الجمهوري لمسانده القوات المتواجدة في الوسط والجنوب، وبعد أن اقتنع أعطى أوامره بتحريك القطعات، وتحركت بدون غطاء جوي مما جعلها صيد سهل للطيران الأمريكي الذي دمرها بالكامل، وهذا الأمر بتقدم القوات بدون غطاء جوي أثيرت حوله أكثر من علامة استفهام، وبدأت القوات بالتوجه نحو بغداد وهي تجتاز المدن الواحدة تلو الأخرى، متجنبة دخول المدن وخوض حرب شوارع فيها، وعندما كان الصحاف يعقد مؤتمره ا لصحفي مساء يوم 31 آذار في فندق عشتار شيراتون و يصر على أن القوات مازالت لم تجتاز البصرة وإنها تتكبد خسائر كبيرة، فاجأ وزير الدفاع السابق سلطان هاشم احمد زميله والمراسلين بالحضور عندما قاربت الساعة الحادية عشر ليلا واستمر المؤتمر حتى الواحدة بعد منتصف الليل وقتها منع وزير الدفاع المراسلين من الذهاب إلى منازلهم بسبب شدة القصف ، وقال الوزير وبالحرف الواحد ( نحن نتوقع أن يكون الأمريكان على أسوار بغداد بين 4 إلى 10 أيام ) ذهل المراسلون لما سمعوا وسأل احد المراسلين الوزير ( هل قولكم هذا افتراض أم حقيقة .. ؟ ) فأجاب الوزير بثقة مطلقة ( في العلم العسكري ليست هناك افتراضات بل هنالك حقائق ) ولا نعرف أين كان العلم العسكري والحقائق حينما كان الجنرالات يجتمعون بقائدهم ولماذا لم يخبروه بان القوات ستدخل بغداد خلال ثلاثة أسابيع لان الأحداث أثبتت علمية الوزير فقد دخلت القوات بعد تسعة أيام، وهذا التصريح أعطى الضوء الأخضر للعديد من ضباط ومراتب الجيش لترك وحداتهم والذهاب إلى بيوتهم ، ثبت بعد أيام أن هذا التصريح مرتبط بأوامر أخرى من قيادات عسكرية عليا صدرت لقطعات الحرس الجمهوري بعدم القتال وترك المعدات الثقيلة والانسحاب، ودخلت القوات الأمريكية ولم تجد ما تحاربه في بغداد سوى تمثال ساحة الفردوس (الجندي المجهول سابقا ) وسواء كانت قوة صدام في التمثال حديدية أو برونزية فإنها لم تستغرق سوى دقائق لتسقط وينتهي كل شي، ولكن هل انتهى كل شيء فعلا .. ؟، لا لم تنتهي الأمور فقد كشفت التقارير بعد أيام أن الأمريكيين نجحوا في استمالة الفريق الركن ماهر سفيان التكريتي قائد قوات الحرس الجمهوري وقادة آخرين، وسفيان كشف لهم عن الخطة البدائية للدفاع عن بغداد، والتي كانت تقضي بالدفاع عن العاصمة بمسافة تبعد 25 كيلومترا من مركزها، حيث توجد سبعة خطوط دفاعيه في مناطق الحقول الزراعية المحيطة ببغداد، كان الفاصل بين كل خط دفاعي وأخر نحو ألفين وخمسمائة متر، وهي عبارة عن براميل من النفط الخام ومادة التي – أن – تي ومتفجرات أخرى وضعت بعمق خمسة أمتار (وهي ما تستخدمه الجماعات الإرهابية في عملياتها اليوم )، وتضمنت الخطة كذلك أن تحيط هذه المتفجرات بغداد من كل الاتجاهات وتربط هذه الخطوط الدفاعية بكنترول مركزي، وبعد تزويده الأمريكان بهذه المعلومات، عمد ماهر سفيان أيضا إلى سحب قطعات الحرس الجمهوري الموجودة على محوري ( الحلة – بغداد ) وطريق ( الكوت – بغداد )، والقطعات التي تم سحبها تعد نخبة الحرس الجمهوري وهي قوات المدينة المنورة ونبو خذ نصر، ثم اصدر تعليماته بصرف عناصر القوات إلى بيوتها، وترك أسلحتها الثقيلة منها خاصة في مواقعها، هذا ما نشرته التقارير عن ماهر سفيان التكريتي، وهو ما أكدته وكالة الأنباء الفرنسية في 26 مايو حيث نسبت إلى مسئولين سابقين في النظام يعيشون حاليا في المنفى، أن هنالك خيانة من ثلاث قاده كبار من أبناء عمومة الرئيس ووزير في حكومته سهلت دخول القوات الأجنبية إلى بغداد، ويؤكد هؤلاء على أن الجنرال ماهر سفيان أعطى الأوامر إلى القوات المسلحة بعدم القتال لدى دخول القوات الأمريكية إلى بغداد في الثامن من نيسان، أما صحيفة لوجورنال دو ديمانش الفرنسية الأسبوعية فقد نشرت تحقيقا جاء فيه أن ابن عم صدام الجنرال ماهر سفيان قد أمر قواته بعدم الدفاع عن بغداد اثر اتفاق عقده مع الأمريكيين، وقد أكدت وكالة الصحافة الفرنسية أن الأمر الذي أصدره ماهر سفيان للقوات العراقية بعدم القتال أكده رئيس جهاز المخابرات السابق طاهر جليل حبوش التكريتي، وهذا الأخير كان صدام قد أقاله من منصبه في اللحظات الأخيرة بعدما أثيرت حوله الشكوك بعد تغيبه عن اجتماع كان مقرر في أحدى المواقع السرية خلف مطعم الساعة في المنصور، وعندما سأل صدام ولم يجد الحبوش غادر المكان بسرعة، بعدها تم قصف المقر وتدميره بالكامل، وهذا أيضا ما أكدته صحيفة القدس العربي اللندنية حيث قالت أن السبب الحقيقي وراء انهيار دفاعات بغداد بشكل مفاجئ، تبين انه خيانة ابن عم الرئيس الجنرال ماهر سفيان والذي كان مكلفا بحماية قلب العاصمة ونسف الجسور ونقلت الصحيفة عن تقارير أمريكية قولها أن المخابرات تمكنت من تأسيس اتصال آمن مع الجنرال الذي تلقى قائمة بما تطلبه منه الولايات المتحدة وان الجنرال طلب منها بالمقابل تعهدا أمريكيا بضمان أمنه الشخصي وامن نحو عشرين شخصا أخريين من عائلته وتعهد بعدم ملاحقته قانونيا بعد انتهاء الحرب والحفاظ على ممتلكاتهم وإخراجهم خارج البلاد، وقالت التقارير أن المفاوضات بين الجانبين استمرت إلى ما بعد بدء الهجوم الأمريكي على بغداد، إلى أن أمر الجنرال جنوده بالانسحاب في الحادية عشره صباحا ، وقد أعلنت القوات الأمريكية عشية دخول بغداد عن موت ماهر سفيان التكريتي، في الوقت الذي نقلت فيه الصحيفة عن مصدر عراقي انه بمقتضى هذا الاتفاق الذي آجراه سفيان قبل عام مع الأمريكيين يقضي بعدم إشراك 100 ألف عسكري من الحرس الجمهوري في القتال فقد تم نقله مع عائلته سرا في 8 نيسان على متن طائره سي 130 إلى قاعدة أمريكية أمنة وان إعلان موته كان بهدف التمويه، وقالت التقارير والصحف الصادرة في الخامس من مايو أن اللاعب الثاني هو الجنرال حسين رشيد التكريتي سكرتير القيادة العامة للقوات المسلحة وهو الذي سهل دخول القوات الأجنبية إلى منطقة الدورة انطلاقا من منطقة هور رجب فيما كان ضابط الارتباط الذي شاركه في تنفيذ هذا الاتفاق هو ابنه الرائد علي حسين رشيد التكريتي السكرتير الشخصي لقصي صدام حسين، والذي قيل انه تمت مكافأته بمبلغ خمسة ملايين دولار بالإضافة إلى ترحيله وعائلته إلى الولايات المتحدة، مع وعد للوالد بأن يكون له دور في قيادة عراق ما بعد صدام وهذا ما يفسر بقائه، ولم يستطيع الأمريكان الإيفاء بإسناد أي دور له ولأخريين كما وعدتهم، مكتفية بالاعتراض على إعدامهم، ومحاولة عرقلة ذلك من خلال الامتناع عن تسليمه إلى الحكومة العراقية بعدما أدانته المحكمة في جريمة الأنفال، ومن ضمن القائمة أيضا قريب آخر لصدام هو رشيد التكريتي والذي كان يطلع الأمريكيين على تحركات الجيش العراقي وتحركات قياداته، وكذلك النقيب عدنان يوسف والذي كان يتولى حماية بعض الأماكن الخاصة والبديلة لصدام، بعد إصدار أوامر الانسحاب كانت وكالات الأنباء تذيع أنباء عمليات الإنزال الجوي للقوات الأمريكية بجوار مطار بغداد الدولي وبالتحديد منطقة أبي غريب التي تجاور إحدى المناطق السكنية وأخرى مكشوفة والتي بجوارها مانع مائي صعب الاختراق يسمى ذراع دجلة، وبالقرب من تلك المناطق توجد معسكرات لمجاهدي خلق الإيرانية المعارضة والذين عقدوا صفقه مع الأمريكان فسلموا معسكراتهم إلى القوات الأمريكية وانسحبوا إلى داخل بغداد إلى نادي الفارس العربي، وبعد انتهاء الحرب احتفظت بهم الولايات المتحدة في معسكر اشرف في محافظة ديالى، وفي يوم 16 نيسان عرضت القنوات التلفزيونية الروسية pt1، ntv من موسكو لقاء مع السفير الروسي في العراق فلاديمير تيتيرين لدى عودته من بغداد إلى موسكو شرح فيه أسباب انهيار الدفاعات العراقية قائلا انه متأكد أن الجنرالات العراقيين عقدوا اتفاقات سرية مع واشنطن للامتناع عن القتال مقابل منافع، وفي يوم 18 نيسان جريدة لوموند الفرنسية قالت نقلا عن مراسلها في بغداد أن الفريق ماهر سفيان قائد الحرس الجمهوري عقد اتفاقا مع القوات الأمريكية على أن يصدر أوامره لكل أفراد قواته بالكف عن القتال وإلقاء أسلحتهم والذهاب إلى بيوتهم وبعد ذلك بقليل أقلعت به مروحية اباتشي أمريكية من معسكر الرشيد شرق بغداد إلى مكان مجهول، واستندت هذه المصادر على صدق معلوماتها بأن سفيان لم يرد اسمه ضمن قائمة كبار قادة النظام المطلوب القبض عليهم، والتي طبعت صورهم على كروت الكوتشينة، ولم ترد أسماء الصحاف وناجي صبري وزير الخارجية، والذي صرح بعد ذلك بأنه استغفل قصي وهرب إلى سوريا متنكرا، و اوميد مدحت وزير الصحة، وذكرت صحيفة القدس العربي في عددها الصادر يوم 23-3-2008 في لقاء أجرته مع مرافق سابق لصدام، إن القادة تمردوا على أوامر رئيسه في الأيام الأخيرة ، وقال المرافق سلام عبد حسن التكريتي والذي كان ضابط برتبة مقدم في فريق الحماية الخاص لصدام، وكان من القلائل الذين بقوا معه، كما انه ابن عم برزان ، وقال إن صدام ليلة بداء الهجوم كان يردد ( اللي زرعها هو يأخذها ) ثم بكى بحرقة قرابة عشر دقائق، وأكد المرافق الخاص إن صدام وجد خلال الأسبوع الأول من الغزو أن بعض القادة العسكريين لا يطبقون الأوامر المطلوبة والمقررة سابقا، وحول القبض على صدام اتهم التكريتي المرافق محمد الإبراهيم بأنه هو من وشي بصدام، وأشار إلى إن الإبراهيم واحد من أبناء عمومة الرئيس، وكانت رغد صدام قد اتهمت في برنامج تلفزيوني بثته قناة العربية مساعدين مقربين من والدها بخيانته ومساعدة القوات الأمريكية على الاستيلاء على بغداد، وبفتح ملف الخيانة والتعامل مع مخابرات أجنبية فلا بد من ذكر ما قاله روجر موريس الموظف السابق في وزارة الخارجية الأمريكية وعضو مجلس الأمن القومي سابقا، إن لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية يدا في انقلابين في العراق في أحلك أيام الحرب الباردة منها انقلاب عام 1968 ووضع صدام بقوة على طريق السلطة ويقول أيضا أن الوكالة ساعدت أيضا في تدبير انقلاب دموي في العراق للإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم والتي تعتبرها الولايات المتحدة ذات توجه سوفيتي وذلك في عام 1963 .

 

استسلام الجنرالات

كتب عبد الباري عطوان مقالة نشرت في 20-9 – 2003 بعنوان استسلام الجنرالات قال فيها، ( تصاعدت في الأشهر الأخيرة ظاهرة استسلام المسئولين العراقيين السابقين للقوات الأمريكية، فبعد استسلام طارق عزيز، وإلقاء القبض على رجلي النظام القويين طه ياسين وعلي حسن المجيد، ها هو سلطان هاشم وزير الدفاع يتفاوض مع قوات الاحتلال, عبر وسيط، لتسليم نفسه، مقابل رفع اسمه من قائمة المطلوبين، انه أمر مخجل بكل المقاييس )، ويضيف ( فهؤلاء خدعونا بتصريحاتهم العنترية حول القتال حتى الموت دفاعا عن الوطن، في معارك الشرف والكرامة )، ثم يقول ( نفهم أن يبحث الصحاف عن ملجأ في أبو ظبي، ونحاول أن نتفهم استسلام طارق عزيز، بعد إن أعياه المرض، وعز الدواء، ولكن ما يصعب فهمه هو أن يتفاوض وزير الدفاع من اجل تسليم نفسه، مقابل ثمن شخصي بخس ومهين، أي رفع اسمه من قوائم المطلوبين ), ويخلص إلى أن سلطان هاشم ( أهان شرف العسكرية، وشرف المنصب باستسلامه المخجل ), ويقول ( ثلاثون عاما وهم يعيشون حياة الرفاه والبحبوحة، ويتفننون في إطلاق الشعارات، وعندما وقعت الواقعة كانوا أول الهاربين طلبا للسلامة ) وبنبرة تهكميه يضيف عطوان (( فإذا كان الجنرال هاشم سلطان، وعبد حمود، وطارق عزيز، وغيرهم يفضلون الحياة على الشهادة، حتى لو كانت في معتقلات قذرة ومهينة قرب مطار بغداد فهذا شأنهم، ولكن الاعتراض هنا هو ذهابهم بأنفسهم إلى القوات الأمريكية رافعين راية الاستسلام البيضاء، طمعا في معاملة حسنة من الأعداء، وسجنVIP يليق بمقامهم ورتبهم )) وتحدث ريك فرانكونا المحلل السياسي لشبكة ان بي سي الأمريكية عن دوره في تجنيد قادة عسكريين من الجيش السابق في صفوف وكالة الاستخبارات المركزية سي أي ايه، للقيام بانقلاب ضد صدام عام 1996 أبان عهد الرئيس كلينتون - وكان فرانكونا وقتها برتبة مقدم طيار في سلاح الجو الأمريكي واحد عناصر السي أي ايه الذي كان يعد لتنفيذ الانقلاب العسكري، عبر التعاون مع بعض قادة الجيش ومنهم هاشم، ويقول أيضا انه دخل شمال العراق عدة مرات بالإضافة إلى الدول الحدودية ويقول حاولت المخابرات الاتصال والتعاون مع اكبر عدد ممكن من ضباط الجيش السابق على أمل إقناعهم بالتحرك ضد النظام في حال قمنا بعملية اجتياح أو تنفيذ انقلاب عسكري وقد نجحت خطتنا، فرانكونا يتكلم العربية وعمل في الملحقية العسكرية الأمريكية في بغداد وخلال الأعوام الأخيرة للحرب العراقية الإيرانية، ويعترف بأن عمل كضابط ارتباط في مكتب العراق التابع للوكالة وذهب إلى جبهات القتال لمراقبة سير العمليات القتالية ضد القوات الإيرانية، وقام حتى بتنفيذ طلعات جوية مع سلاح الطيران العراقي وزود المخابرات الصدامية بصور الأقمار الصناعية الخاصة بمواقع الجيش الإيراني وهو أيضا الذي جمع الأدلة حول قيام العراقيين بقصف القوات الإيرانية بغاز الأعصاب عام 1988.ويقول فرانكونا تعقيبا على محاكمة سلطان هاشم (( هذا سيؤسس سابقة غير محمودة للأفراد الذين يريدون التعاون مع الولايات المتحدة، فإذا أرادوا التعاون سيجدون أنفسهم بواجهة القضاء في بلدانهم، فلماذا أذن يتعاون معنا أي شخص مستقبلا ؟ ))

خيانات يتيمة

وبعد أن عجزت الذهنية العربية عن اكتشاف قادة من النوع المختلف، لعدم وجودهم في الصفوف الأولى للقيادة العراقية، لأنهم مستبعدين لأسباب قومية وطائفية، والقادة الذين تناولتهم التقارير هم من الصنف المشابهة ( أي المنزه حسب مقاييس العروبة )، لذلك عمدت إلى طمس كل الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع، وإخفاء الملفات، وتوجيه الأنظار باتجاه أناس أخريين، تحت عناوين شتى أهمها عنوان العمالة، وهناك محاولات لإلحاق هذه الخيانة بأخواتها اليتيمات اللاتي تنكر لهن العرب، ومن الخيانات اليتيمة صفقة الأسلحة الفاسدة في حرب 1948,و تسريب قيادات عربية لمعلومات سرية إلى جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل، وإخبارها بموعد قيام الجيش المصري والسوري بالهجوم على الجيش الإسرائيلي عام 1967، وكانت الهزيمة التي زوقها هيكل وسماها نكسة، صاحب هذه التسريبات تورط المؤسسة العسكرية المصرية أيضا في خيانات أخرى، وكان المرحوم حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية الأسبق قد ألقى باتهامات لشخصيات محسوبة على المؤسسة العسكرية ، بل واتهم القائد الأعلى ( السادات ) بالخيانة والعمالة لصالح المخابرات الأمريكية، المستشار أبو سحلي قال أيضا أن هناك من فضح نوايا إستراتيجية الجيش المصري صبيحة 7 أكتوبر 1973, واتهم القائد العام ايضا، وأثار النائب في البرلمان المصري طلعت السادات نفس الموضوع، وتم إحالته إلى القضاء بتهمة إهانة المؤسسة العسكرية، وكذلك أثارت هدى عبد الناصر نفس الموضوع، وهناك تقارير أثبتت تورط قيادات فلسطينية في الغزو الإسرائيلي السريع لبيروت عام 1982, وهناك حوادث وخيانات أخرى يتمت، ويحاول العرب اليوم وئدها وأهالت التراب عليها، هذه مقتطفات من بحث يتناول الخيانات العربية في العصر الحديث وطريقة التستر عليها شرعت بكتابته منذ مده، وما دفعني لنشر هذه المقتطفات قبل اكتمال البحث، هو التغطية الشاملة للإعلام العربي للذكرى الخامسة للحرب، وتوجيه الاتهامات لشريحة كبيرة من الشعب العراقي وقياداته الوطنية واتهامهم بالعمالة, لأنهم من المختلف القومي والديني والمذهبي، والتستر على جرائم جنرالات الاباتشي وخياناتهم .

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com