أخلاق الشيوعيين العراقيين
محمد علي محيي الدين
abu.zahid@yahoo.com
الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة والمثل العليا،وما إلى ذلك من اعتبارات اجتماعية تهتم بها المجتمعات الشرقية اهتماما بالغا،وتعطيها النصيب الوافي في تقييمها وتقديرها لهذا الفرد أو ذاك،أو هذه المجموعة أو تلك فالمجتمع يبني قياساته على أسس منطقية ثابتة،فإذا كان فلان الشيوعي جيدا فهذا يعني أن الشيوعيين جيدين على أساس أن" شبيه الشيء منجذب إليه" لذلك كانت الصفات الحميدة أو السيئة تلصق بفئة ما على هذا القياس،وقد تكون هذه الصفة شبه مطلقة على هذه الفئة أو تلك،فالشرطة العراقية على سبيل المثال عرفت بين الناس بالسمعة الرديئة وأصبحت مضرب المثل السيئ في التردي وتفشي الرشوة،ولهم مكانتهم المتدنية في المجتمعات،بما عرف عنهم من تنكر لعلاقات القربى والصداقة وبعدهم عن العلاقات الاجتماعية الحميمة،بما يبدر منهم من تصرفات مسيئة اتجاه المتعاملين معهم فأصبح الثابت أن الشرطة(أهل الواشرات) بسبب الرشوة،أو (جندرمة عقله بلابجينه) أي عقله بحذائه وله قصة معروفة بسبب عدم التزامهم بالعلاقة واحتفالهم بالصداقة،أو فلان صدره ( صدر شرطي) لأنهم يدخنون ما يقدم لهم كرشوة أي نوع من أنواع السكائر،إلى غير ذلك من أمور ،وهذه النظرة المترسخة لم تزيلها الأيام وظلت لصيقة بهم إلى أبد الآبدين،وهذا الإطلاق في النظرة له مبرراته إذا كانت الأكثرية على هذا التوجه،لذلك يكون لحكم المجتمعات تأثيره المباشر في تجميل الصورة أو عدمه،وأصبح الوازع الاجتماعي المعيار الرئيس في إصدار الأحكام وإطلاق النعوت.
وقد أولت الشيوعية الأخلاق حيزا كبيرا في فكرها وأيديولوجيتها،ودعت لبناء المجتمعات على أسس متينة من النقاء الخلقي والصفاء الفكري،وتنقيتها من الأدران والموبقات، فكان الصدق والوفاء والأمانة والنزاهة والتضحية والفداء والبعد عن الأخلاقيات المنافية للأعراف الاجتماعية في المقام الأول من تفكيرها،لذلك كانت المجتمعات الشيوعية بعيدة عما يسيء لسمعتها بالقياس إلى الدول الرأسمالية الأخرى،التي تفشت فيها الأمراض الاجتماعية والخلقية الكثيرة لطبيعة نظامها المبني على أسس اقتصادية همها الأول الحفاظ على هيمنتها على اقتصاد بلدانها بما يحقق مصالحها في زيادة السلطة والنفوذ،ولا زالت أغلب هذه المجتمعات على نقائها الأخلاقي رغم الهيمنة المقرفة للرأسمالية على مقدراتها الاقتصادية.
وما يعنينا تناوله هنا بيان ما للشيوعيين العراقيين من أخلاق وصفات تميزوا بها عن الآخرين،بغض النظر عن التخرصات والتهويشات التي تطلقها الأبواق المأجورة لخصوم الشيوعية التقليديين،لأسباب سياسية ومؤامرات معروفة أثبتت الأيام زيفها وبطلانها،وعرف المعدن الحقيقي للشيوعيين العراقيين بعد الهزة الكبيرة للمجتمع العراقي وانهيار النظام الصدامي،وما قامت به الجهات الأخرى من أعمال وتصرفات منافية للعرف والأخلاق،فيما ظل الشيوعيون على ما هم عليه من نقاء السريرة وزينة الخلق وعفة النفس وسلامة الضمير،والنزاهة التي أظهرت المعدن الحقيقي لأصحاب المبادئ الصادقة،وفرزت بين الغث والسمين،وكشفت الكثير من البراقع عن الوجوه المختبئة خلف عناوين براقة،لم يجن الشعب من ورائها غير القتل والدمار،ممن خدعوا الناس لأعوام طوال ثم ظهر زيفهم وما كانوا يضمرون.
وفي ما يلي بعض الصور الزاهية لمواقف بعض الشيوعيين العراقيين للتذكرة وتبصير الأجيال الجديدة بما عليه المناضلين من أخلاق يندر وجودها في غيرهم:
* بعد اعتقال الرفيق الخالد فهد ورفيقيه وما أصاب المنظمات الحزبية من ضربة موجعة،جرى التخطيط لتهريب القادة الشيوعيين من السجن،وبعد دراسة الوضع وإقرار الخطة فوتح الرفيق فهد بالأمر فرفض بإباء وشمم،لأن هروبه قد يصوره الأعداء خشية من الموت أو خوفا من الإعدام،فيما نلاحظ قادة البرجوازية بأشكالها يهربون عند المواجهة ويلجئون لأسيادهم في الخارج،أو يتركون ساحة النضال ويجمدون عملهم السياسي حتى تتحسن الأوضاع،وقد تهيأت الفرصة لأحد الكوادر الحزبية غاب عني أسمه الهروب عند إرساله إلى أحد المستشفيات،ولكن علاقته بحارسه الذي رفض وضع القيود بيديه أو تضييق الخناق عليه جعله يأبى مواجهة الصنيع الإنساني بالهروب،فيما كان يعلم أن مصيره السجن الطويل أو الموت،ولكن الالتزام الأخلاقي للشيوعيين فوق كل شيء.
*حسين سلطان في سجن النجف:ومما يدل على السمعة الطيبة للشيوعيين حتى لدى أعدائهم ما حدث عندما القي القبض على مجموعة من كوادر الحزب في منطقة الفرات الأوسط،وقد أودع هؤلاء لأهميتهم في سجون أمن النجف،كان أبرزهم عضو اللجنة المركزية الفقيد حسين سلطان (أبو سلام) وكان آنذاك عضو منطقة الفرات الأوسط،وكان السجناء قسمين ،السياسيين وهم من الشيوعيين طبعا،والسجناء العاديين وقد أفرد لكل منهم غرفة خاصة بهم،وكان الأحداث من المجرمين يودعون مع الشيوعيين،خوفا عليهم من تجاوزات عتاة المجرمين المعتقلين في القاعة الثانية.
وذات يوم جيء بامرأة لأغراض التحقيق معها لإدعاء زوجها أنها متزوجة من غيره،وأودعت في غرفة بجانب غرفة الحرس،ولشدة البرد فقد اشتكت حالها لضابط الأمن الذي كان يخشى عليها من شرطته،فجاء الضابط المسئول ونادي على الفقيد أبو سلام وأخبره بأمرها طالبا منه أفراد مكان لها بين السجناء،فاعتذر أبو سلام خشية أن تكون هذه مؤامرة للإيقاع بهم فقال للضابط أنتم تقولون أن الشيوعيين كفار، ولا يحترمون الأعراف والتقاليد،فكيف تودعون النساء لديهم،فضحك الضابط وقال له(نعله على أبوه اليكول هيج والله أنتم أشرف ناس)عند ذلك رضخ أبو سلام للأمر وأفرد لها مكانا في أحد الزوايا،وهيأ لها الفراش المناسب،وقدم ما توفر لديهم من طعام،وقد ضلت معهم ثلاثة أيام لحين تسفيرها إلى سجن آخر بعد انتهاء التحقيق معها،وكان سبب توقيفها على ما كشف أثناء التحقيق،أن زوجها كان يرسلها لجلب المزروعات من صديق له قريب من منطقتهم،فلمست من ذلك الشخص نظرات مريبة،فأخبرت زوجها،الذي سفه رأيها لثقته العالية بذلك الصديق،ولما لم تجد أذانا صاغية من زوجها أخذت بالتردد عليه فأغراها بالزواج منه عرفيا على طريقة المتعة،رغم عدم جوازه لأنها متزوجة ولكنها تجهل ذلك،وظلت معه لشهور،وذات يوم علم زوجها بالأمر فأقام الدعوى عليها،وأودعت السجن مع زوجها الجديد.
وعلى ذكر الفقيد حسين سلطان،فقد داهم الشرطة داره لإلقاء القبض عليه،وكان أبنه سلام صغيرا،فاختبأ أبو سلام في مخبأ اعد لمثل هذه الظروف في سقف الغرفة،وعندما سأل الشرطة سلام عن والده دلهم عليه،فأشهروا أسلحتهم وطلبوا منه الاستسلام،ولكنه رفض ذلك فطلب منهم الضابط الصعود لإمساكه،فصعد إليه رئيس عرفاء شرطة معروف بالشراسة،فأمسك أبو سلام بخصيتيه وعصرهما بقوة،مما جعله يصرخ من شدة الألم،ولم يتركه إلا بعد أن أغمي عليه،وعند ذلك سلم نفسه للشرطة فاقتادوه إلى الموقف باحترام،وكان يعامل بامتياز لأن الشرطة تعلم أنها لا تستطيع الحصول على اعتراف منه مهما استعملت من وسائل تعذيب،وكان هناك محقق جديد على ما يظهر،فسأله:متى انتميت للحزب الشيوعي،فقال له قبل أن يتزوج أبوك من أمك بسنتين،فكتب في المحضر انتمى للحزب الشيوعي عام 1947،فضحك المحقق لهذه النادرة اللطيفة.
*غصت السجون العراقية بآلاف المناضلين ،ونالهم ما نالهم من العنت والاضطهاد فيها،ولكن ذلك لم ينسيهم التعامل الإنساني،ومساعدة من يحتاج المساعدة،ففي سجن الحلة بعد انقلاب شباط الفاشي زج المئات من الشيوعيين في قاعاته الكبيرة،وكان بين السجناء اثنان أحدهما مكفوف البصر و مصاب بلوثة من جنون،والآخر مصاب بالفالج ،فكان الرفيق عبد الأئمة عبد الهادي(أبو نصار) يتولى رعايتهم وخدمتهم وتوفير ما يحتاجون إليه،فكان يجلب لهم الطعام،ويقودهم عند الذهاب لقضاء الحاجة،ويغسل أبدانهم وملابسهم بنفسه،رغم أنهم من السجناء العاديين،وهو معلم له مكانته في المجتمع،وكانت لهم حصصهم مما يرد للسجناء من أطعمة وفواكه وسكائر،لأنهم مقطوعون لا يزورهم أحد.
* يضطر الكثير من الرفاق للجوء إلى أصدقائهم أو رفاقهم عند هروبهم من السجن،أو اشتداد الحملة وتضييق الخناق عليهم،فيحتضنهم هؤلاء ويقيمون في بيوتهم،فكانت العائلات تعاملهم كواحد من أبنائهم،مما جعل الألفة والمودة رباط مقدس بين الجانبين،وكانت البيوت الحزبية تستعين ببعض العائلات الشيوعية للسكن فيها،لأبعاد الأنظار عنها وتقديم الخدمة لهم،فيذكر أحد الرفاق القياديين أنه سكن مع عائلة حزبية لشهور دون أن يعرف من هم أو يميز وجوه نسائهم،لأنه كان يجلس في غرفته بشكل دائم ولا يختلط بهم،ويوضع له طعامه بالقرب من باب غرفته ليتناوله بعد ذهاب المرأة،لأن لهذه العائلة فتاتين جعله خلقه السامي وشرفه الشيوعي يتجنب الالتقاء بها خشية تقولات المتقولين،وقد عاش مئات الشيوعيين مع عائلات شيوعية تناسوا فيها غرائزهم،لأنهم لم يفكروا في مثل هذه الأمور لانصراف تفكيرهم إلى قضيتهم المركزية التي أصبحت مدار اهتمامهم،وهذا الإطلاق لا يعني عدم وجود شواذ في هذا الأمر فلا يوجد معصوم عن الخطأ،ولكنها الصفة الغالبة للشيوعيين الحقيقيين،ومن الطرائف أن أحد الرفاق ذكر أمثال هذه الحوادث أمام أحد الأخوة المتدينين فقال له مازحا،أن الشيطان لا يغويكم لأنكم شياطين.
* وحدث الرفيق أبو حاتم أنه كان مسجونا في سجن الحلة وكان معه في السجن رجل وأبنه يظهر من لهجتهم أنهم من البدو،وكانوا لا يملكون مالا وقد تمزقت ملابسهم،ولا يوجد من يزورهم،وعندما أطلق سراحهم جلبت لهم بواسطة الحارس ملابس جديدة يرتدوها عند الخروج فشكروني على ذلك،ومرت سنوات على الحادث وذا ت يوم كنت مع احد الرفاق في أرياف مشروع المسيب ،متوجهين للقاء احد الرفاق وكان الوقت عصيبا والمطاردة على أشدها،واخذ منا الجوع والعطش مأخذه حتى اضطررنا إلى أكل الحشائش،ولاح ألينا من بعيد بيوت شعر(خيام)منصوبة فتوجهنا إليها ودخلنا احدها فجاء ألينا شخصان قدما لن اللبن وما تيسر من الطعام،وكان ينظران إلي من طرف خفي ،فأخذت الشكوك تساورني،فسألني احدهم هل تعرف أبو حاتم،قلت لا قال سبحان الله انك تشبه ولهذا الرجل فضل علينا لن ننساه نظرت إليه فذكرت الأمر،عندها سلمت عليه وعرفته بنفسي فجاء والده وذبحوا لنا خروفا وبتنا لديهم تلك الليلة وفي اليوم التالي عندما أردت المغادرة قدموا لي مبلغا من المال فشكرتهم ورفضت استلام المبلغ رغم إني بحاجة إليه.
*وكان(... )من أعداء الحزب المعروفين وقد جاهر بعدائه للحزب بشكل علني،وذات يوم تقرر شق نهر يقسم بستانه إلى قسمين فبذل ما في وسعه لتغيير مجرى النهر ولكن دون جدوى،وقيل له أن أبو حاتم وحده يستطيع التأثير على مدير الري لأنه من أصدقائه فجاءه،وطلب منه أعانته على الأمر فذهب إلى ذلك الشخص وكان من أصدقاء الحزب وطلب منه مساعدة فلان بما لا يؤثر على الآخرين أو يخل بالقوانين،وفعلا تم تعديل المجرى بما لا يؤثر على بستانه،وقال له ذلك الموظف ولكن فلان من أعداء الحزب،فقال له(سوي زين وذب بالشط) وبعد ذلك تغير ذلك الشخص وأخذ يشيد بأخلاق الشيوعيين ونزاهتهم.
* وحتى البعثيين السفلة وما ارتكبوه من جرائم بحق الشيوعيين كانوا محط رعاية الحزب رغم الحقد الدفين للبعثيين،فقد كان الحزب قادرا بعد ثورة تموز على تصفيتهم وإنهائهم بما له من رصيد جماهيري مخيف، وكان بإمكانهم بعد انقلاب تشرين مقابلتهم بالمثل إلا أنهم غظ النظر عن جرائمهم،ولم يعاملوهم بما يستحقون، رغم قدرتهم على كيل الصاع صاعين،ولكن الأخلاق تعصم الشرفاء عن الخطأ،وبعد سقوط البعث عام 2003 لم يتخذ الشيوعيين مواقف معادية من البعثيين رغم أنهم لو استطاعوا الآن لحاربوا الشيوعيين وأبادوهم من جديد،وهذا الخلق وأن بدا ضعفا لقصيري النظر إلا أنه سمة مميزة للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس وأولئك هم الشيوعيين.
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب