أجندة غزة وشطب الذاكرة

تداعيات ما بعد انتفاضة الأقصى – قوس الربابة على وتر مقطوع

غزة هي الحالة ... هذه المساحة من اليابسة الممتدة ما بين المتوسط وصحراء النقب، تحمل في رحم بطنها تاريخ غطته رمال التاريخ منذ ألاف السنين  .. هذه اليابسة الفقيرة في تربتها كانت غنية بوقائع التاريخ وشموخ النصر شهدت معارك لم يستطع كل طغاة الأرض ان يمحوها بكل مبتكراتهم ... هؤلاء الذين ادعوا ان نبي الله تاه فيها، غادروها كالفراعنة الذين غادروا إلى شمال فلسطين في معاركهم . ما بين جفاف التربة وملوحة المياه، رقدت غزة على منجم الحضارات .

في الفاجعة الأولى والنكبة ... زحفت أقدام الأجداد بعد مشاهد لم يألفوها من قبل إلى سوافي الرمال الساخنة في شهر تلتهب فيه أشعة الشمس كلهيب وفاجعات الناس بفقدان الأرض والطفل إلا الذاكرة ... تشبثوا إلى ان سلت السيوف رقابهم .. وطالت قذائف المارقين على هامش التاريخ .. نحروا الرقاب في كل جولة كنحر عصابات الموت للضحية .. تجلت معارك الصمود بالفأس .. بذخيرة جمعوها بمال قوتهم أرضهم ولم تمضى أيام حتى فاجعهم صمت العرب الطويل وضعف تسليحهم إلى ان تمكنت منهم عصابات الهاجانا والبالماخ ... وكل المتربصين من صهاينة الدين السياسي .

تمرغ أبناء الوطن في سفوح الرمال الملتهبة وأقامت لهم وكالة الأمم بيوت من صفيح .. وثم أكواخ من طين أملا في رجوعهم إلى ديارهم فطالت غربتهم .. وغطوا محن اللاجئين بكوب الفول الحب والمهروس .. والدقيق والملح والزيت .. كل ما قدموه هو تذكرة مرور لشطب الإنسان وسلخه عن حاضرة ليصبح تاريخا منسيا من ذاكرة التاريخ .

أصبح المخيم بواقعه الثابت يعبر عن ظلم الطغاة الباغين في الأرض... هؤلاء الذين قرءوا عن سلوك البشر كيف يقضون على تشبثه بالأرض إلا فقرة .. قل لربما لم تسطرها كل علماء وبحاث النفوس البشرية .. كيف تتحول الضحية إلى بطل .. كيف يثور .. ينقلب .. يسطر روعة الانتصار بعد الهزيمة ... كيف المخيم يحول المسلوبين والمكلومين من ضعف الحال إلى نمر وحامل بندقية يغتال كل الذين مزقوا أجساد الوطن . يراود كل المظلومين تساؤلات وتساؤلات ... تسمع تنهدات وآهات الآباء والأجداد ... حسرة على ارض الوطن وهم في صفيح ساخن .. لم نحن هنا وكل ارض الوطن تداعب خيالهم .. أحلامهم في كل ليلة ... يرقدون يتحاورون .. يتألمون والوطن على مرمى رشفة نظر من خلفهم ..

شاء القدر ان يكون المخيم .. فحمل بين أزقته جدران وعلب الصفيح .. وحضارة متلونة ما بين القرية والمدينة .. جميعهم تحولوا إلى ضحية .. بين ضلوعهم ليال سوداء سطا عليها مجرم متربص لم يعهدوه من قبل حتى التاريخ لا يعرف لسانهم .. وفي نفس الزمان والمكان تشهد آهات الماضي القريب .. ليال وفجر ما بين حرث الأرض وزرعها وحصد ثمارها .. شهدت أوراق العنب .. والخوخ والتفاح ليالي السمر في الصيف .. .

المخيم عاد ينتج حضارته من جديد .. تعلم .. والفدائي، فأنتج العالم .. والعامل.. والفدائي .. والمناضل والمجاهد .. ومازالت المعركة في أوجها . انا ابشر هؤلاء المارقين على هامش التاريخ انكم وقد حان رحيلكم بعد هذه الحقبة .. وستألمون كما ألمنا .. والله اصدق القائلين .

انظر كيف تحولت صخور الأرض إلى حجارة من سجيل .. انظر كيف تحولت النكبة والنكسة لتتحول الحالة من مشهد إلى مشهد أخر مختلف ... انظر كيف حافظ الأبناء على جدران البيوت المهدمة ما بعد الصفيح .. انتفض الأبناء وحولوا الحالة من سكينة إلى معركة اشتعلت كوهيج النار في كل الجبهات .. أصبحوا جنرالات الأرض بلا رتب عسكرية ..حولوا المشهد من ثورة إلى انتفاضة .. ومعركة بلا مدافع ولا طيران .

ستشاهدون كيف التاريخ سيطوى صفحاتكم لتفتح صفحات العزة والكرامة ولتعود حياة وثقافة التاريخ إلى سلسلة لم تنقطع حباتها رغم أنهم حاولوا فرط حبات المسبحة فتعثرت خطاهم.

سيشهد التاريخ انه لم يعد لكم من النجاة إلا تلك القوارب التي جلبت بكم .

أمعنوا البصر .. تيبست بصيرتكم .. دققوا المشهد .. شيئا لم تألفوه من قبل، حين تتحول الأجساد إلى وهيج لهب وانفجار وحمم .. حتى حمم دباباتكم لم تمنع موتكم .. أذهلكم التحول، وانتم لا تدركون ان الانتظار قد طال عليكم فخدعتكم السكينة المتأرجحة .. الان فشلت وستفشل كل نواياكم ولم يعد أمامكم سوى رصاص الثائرين .

هذا الشريط  المحاصر ما بين الشهيق والزفير لا تطول مسافته أكثر من سفر ربع أرباع الساعة، بدون حواجز صهيونية، بوابتها موصدة من حديد .. إلا أن القذائف ستلاحقكم وستزور بيوتكم، ولن يتبقى لكم سوى جحور الأرض وسراديبها ولكن الحصار بالحصار وستدك حصونكم قذائف كل المبشرين بالجنة .

طال ظلمكم .. وطالت غيبتنا عن الوطن .. ورغم طوله زفير المعاناة في غزة .. إلا إننا سائرون وسنحط رحالنا إلى حيث سترحلون .. إلى حيث كان الأجداد يسهرون ... وسنحول عظامكم إلى متاحف تدرس لأجيال تبحث عن مقاعد تعليم ثورة البائسين .

كل زيفكم عبر الفضائيات الآن أصبحت مفضوحة كشجر سقطت أوراقه في فصل الخريف فأصبحت تخجل بعد كسوتها ..  

سواد النهار وبياض الليل ... غزة مضغوطة بين بوابتين   

ما بين بوابة بيت حانون شمالاً  وبوابة رفح جنوباً نحن نشتعل، فجنوبنا بلاد العرب أوطاني ... ويسار الوطن المصادر إسرائيل المزعومة . فإذا اجتزت أسلاك الشوك وقفزت عن فقرات كامب ديفيد الممصوص من سلام العافية .. ومن حلابات ايرز التي تشفط العمال العرايا حتى من طعام حملوه .. تجدهم أصبحوا ضحايا أصابع جنود الاحتلال المرتعشة، وأخر حبيس برج مراقبة إسمنتية .. معلقا في أعلى كابينة كراصد فقد السكينة وتملكه الرعب رغم انه يطوف في السماء، يخشى ان ينال منه الموت من تحت الأرض أو من طائرة شراعية ولربما من طلقة قناص .

يمضى العمال فجرا  قبل ان يلفظ الليل أخر العتمة، يصلي الفجر على رمال ما قبل حاجز يطول انتظار عبوره ساعات وساعات  قبل أن يبذخ بريق الشمس على ارض اغتصبتها دبابات الفرنجة هي لم تفهم ألسنتهم .. لم تعقل خطابهم .. كرهت دمائهم .. عظامهم .. لولا أنها تهرسهم في بطونها لصرخت مغثية بأنهم ليس أولادها . هؤلاء العمال المسافرين  الباحثين .. المنقبين عن قوت أولادهم والذين أولادهم في الصباح يقارعون جنود الاحتلال في شوارع غزة ... وفي المساء يعود هؤلاء الآباء يطببوا جراح أطفالهم الذين أصابتهم رصاص جنود الكفر بالآدمية .

فرض التاريخ عليهم التعاطي بالمسببات كأجندة يومية .. ما بين العمل والإنجاب والحجارة والبندقية ..واقع رسمه التاريخ لحظة بلحظة .. وعجلة الحياة والموت سلسلة ما بين مقارعة العدو والتعايش المقروض بأمر الواقع إلى ان تغير زناد البنادق مسيرة الموت وتمسح عرق الشقاء والبؤس من صفحات الواقع المؤلم .

الكون هنا بين حبيس المعبرين، بين حياة الموت، أو الموت في حياة المحاصرين خلف جدار العزل . هذا الشريط الذي انتحر شارون على عتباته بمائة يوم وانتحر قبل ان يكمل حلمه، حتى رقد بعد مئات الأيام في ركن من أركان البؤس حير أطباء  إسرائيل فلم تسعفه كل تكنولوجبا الطب من شدة حسرته اللا معهودة من قبل . فقرر الانتحار بحسرته تاركا إرثا ثقيلاً لمن والاه قبل الرحيل القادم .فهذا الرجل الذي قدم الكثير الكثير من رسائل الأخلاق الفاشية، وتقمص  ادوار النازية، في الختام سقطت كل نظرياته العسكرية والأمنية إلى غير رجعة ومعها سقطت حقبة مبشرة بسقوط نهاية المشهد إلى أن لا تعود بعدها لهم حقب .   

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com