أجندة غزة وشطب الذاكرة

حكايات عن براعم الأيام في الانتفاضة الأولى(3)

حمام ... صورة الموت مشهد لا يتغير، قد تختلف أشكال وألوان الموت ؛ إلا الموت نفسه لا يتغير. تسقط صورة الحزن على وجوه الأعزة والاكارم، فتتلون الوجوه باللحى، فمنها السمراء، والشقراء،والأشيب .

عيسى أنطوان اللداوي شاب أشقر، شعره الذهبي يداعب خصلات بريق أشعة الشمس الساطعة، قبلته أمه وقلدته سلسلة فضية في ذيلها صليب السلام المعذب .. كان عيسى ممشوقا أنيقا .. بهيا في هندامه ..في مشيته ..في طلعته . كان خفيف الظل، رشيق المشية كخفة يدهه التي تطرز كل يوم جدران البيوت في الحي، كان يحول الجدران إلى صحف للقراءة كل يوم قبل ان تلف أشعة الشمس الكون، قبل صلاة الفجر،كانت عيون المتعبدين تحدق الجدران في كل يوم على أخبار لم تنشرها الصحف إلا متأخراً، ومنها لا تستطيع النشر لان فيها عبارات محرمة النشر لأنها تطال من قدسية الاحتلال، من كرامته المسحوقة بنعال أشبال المقاومة، وأطفال المخيم .وفي ليلة الظلماء قبل أن يخرج إلى لوحته الصحفية لينشر كتابته قيدوه بأصفاد معتقلات الحرية . قيدوه ككل أشبال المخيم .. كبلوه .. وضعوا عصبة على عينتاه ..اقتادوه . سأله ضابط الاعتقال بعد أن تزاحمت أضلاعه بأضلع المعتقلين .. لمس لحى الآخرين اختلطت كل الأجساد واللحى، ولم يدركوا ان في وسطهم هذا المسيحي الملتحي الذي تلونت لحيته حزنا على رفيق درب النضال .وأصبح كل الملتحون متعبدون للوطن . استوقفه ضابط الاعتقال تملكت الضابط الدهشة، هذا الرجل مسيحي .. وكل المعتقلين من المسلمين ..فتحاوي ..حمساوي..جهادي ..جبهات وجبهات . كلهم ملتحون  .سأله بعد أن اشتاط غضباً لكمه ..سأله .. علاقتك بحماس .. بالجهاد ..بكل أصحاب اللحى . قال كلهم لي إخوة ! لم يتردد الضابط في لكمه أنت كذاب . حاوره يسوع ناقشه في صمت ..علمه إنها المقاومة للاحتلال من كل الأطياف تجمع ..كلهم مؤمنون إلا الاحتلال . ناشد اليسوع وطلب تشكيل حركة مقاومة مسيحية ..تعود العذراء فيها تحشد كل الحواريون .. تجمع حجارة ..ترشق كل أهل الخطايا لتسحق كل الدخلاء على أرض المقدسات الكنعانية .  

 ثلاث دقات ...كان العصيان المدني مطلباً شعبياً، رغم الحاجة والضنك إلا أن الجميع كانوا يبحثون عن سبل الخلاص .. حين دق هؤلاء الصبية الملثمون لجمع بطاقات الممغنط، كانوا يدركون حجم مرارة الناس عمالاً وتجاراً، إلا أن واقع الحال قد فرض رؤية جدية لمواجهة أساليب الاحتلال حين أراد أن يحول المواطنين إلى أصناف وأنماط .كنت لا تعرف كيف عرفوا تفاصيل التفاصيل في أركان المشهد ... تقف مبهوراً .. مستعجبا كيف عرف انك تحمل بطاقة الممغنط .. كما لو أن الحكاية تبدأ من حيث أنت تقف ومن حيث تتحرك .رغم أنهم يأتونك يطالبونك بكل أدب، تجد نفسك تؤثرهم .. تساعدهم .. تؤمن ممرات دخولهم وخروجهم .. وتتنفس الصعداء حين يتوارون عن الأنظار وهم في مأمن .كان كل كما أبا نزار وأبا عمار وكل آباء المجتمع . رغم مرارته إلا انه حاول أن يعبر عن الصمت رغم لهو أطفاله عما انتهى المشهد من حولهم .. عادوا إلى مواقعهم يتابعون حلقات مباراة يعشقها أطفال فلسطين "حلبات المصارعة"، وماذا لهم غيرها في زمن مفتوح الأبواب بلا مرصد .حين هلل الأطفال في نهاية المشهد بهزيمة نكراء لطرف هم لا يعرفونه سوى انه خرج عن قوانين اللعب في حلقة من حلقات اللعب، فما بالك بحلقة من حلقات مقارعة الاحتلال، هم في إدراكهم يبحثون عن قوانين تضبط كل جنبات المرحلة . يصفقون للنصر ويناصرون كل منضبط بقانون يحمى الجماعة من عدو تربص كثيرا، وسهر لتفتيت نسيج الجماعة , إلا أنهم فرحوا بهزيمة من خرج عن قواعد الجماعة كما عبروا عنها حين أسقطها وجدانهم في نهاية المشهد .

رب الأسرة غطى رأسه، شعر بمرارة رزقه الذي اندحر، ذهب مختبئا بمرارته تحت غطاء، فاقتحمت زوجته عليه خلوته، وأخذت تخفف ألمه بمفردات الصبر، تنهد ..استلقى على ظهره ..أشعل سيجارته .. نفخ من أعماق وجعه عبقت غرفته بكثافة الدخان .. قالت الزوجة مواسية، كما لو ان الهم قد انبرى وسلمت بيننا، فلنا رب متى قصدناه لن تخيب النوايا . وفي نهاية المطاف كل الأطفال أخذتهم أحلامهم بعيدا في سبات عميق، وبقى الزوجان يتهامسان وقضوا ليلة ككل الذين سحبت منهم بطاقات الممغنط، ومن حيث لا يحتسبون كل تسعة أشهر تضيق عليهم غرف المسكن .

مقارنة ... كان أطفال الانتفاضة الأولى ينطلقون كالنار في الهشيم . كلما قرروا مواجهة جنود الاحتلال، يجمعون إطارات السيارات البالية، يحضرون الكيروسين، وبقطعة قماش قديمة وعود ثقاب يحولون المنطقة والشارع من الموت والسكينة إلى مقارعة .هنا حضر أحد الصبية  في أوج الشتاء القارص يصارع موجات الرياح العاتية، وكلما دقت النيران جاءت هدير وصفير الرياح تفتك بنيران الإطار، إلى أن تمكن منه بعض الجنود العابرين .. ضبطوه متلبساً، لا يحتاج إلى صكوك البراءة من يد الاحتلال ..حولوه إلى طير تتدافعه الرياح ..تثكله بالتراب تارة، تركله عصاه الصيادين، تكسر أطرافه أنياب القوارض ..يفر من بين أيديهم تتلقفه ايدى الجائعين ..فتك به انهال عليه ضربا .. استجوبه من أرسلك لإشعال النيران ؟ قال شقيقي الأكبر. جنود الاحتلال شعروا ببداية النصر عرفوا من أرسل الصبي ليشعل الإطار، ونسوا ان في كل لحظة سيظهر دخان اسود ويتكرر المشهد .

قرر جنود الاحتلال اعتقال أخيه، وجدوا سيدة ترعى طفلا حديث الولادة، وأخر يلعب حول أمه لم يتجاوز الرابعة من عمرة،يحمل بندقية خشبية، صنعت له لمقارعة الاحتلال، هو يدركهم أنهم الأعداء، مسك بتلابيب أمه، تنمرت الأم وصرخت في وجوهم .. لا ترعبوا أطفالي، واخرجوا من حيث أتيتم وكان شقيقة الأكبر يجره جنود الاحتلال .. ذعر جنود الاحتلال بزئير الأم، وكم كانوا سذجاً عندما تبين أنهم شدوا رحالهم خلف طفل يشعل النيران في الإطار وحامل البندقية كان طفلاً أخر لم يتجاوز الأربع سنوات.   

 حاتم وداني ... يا صديقي لو أهديناهم كل صناديق الحب، في ثقافتهم .. تربيتهم ..دينهم المعاصر وفق مخطوطات هرتزل وأتباعه سيهدوننا صناديق الموت المغلفة بزغاريد الرصاص .مهما داعبنا مشاعر الحب معهم ولعبنا ليس كل العاب البطولة، هم يهون لون الدم .ترى "اليكس" الحزين سيشعر بالحزن على قتل صديقه حاتم الفلسطيني .. ترى داني تعلم لغة الحب وقبول الأخر، أم تعلم دروس الحقد ونفي الأخر ... كراريسهم ..كتبهم .. مقدساتهم تدعوا لبقائهم مع فناء الأخر . كم كنت حزينا على داني لأنه سيتعلم لاحقا كيف يغتال عواطفه، وجدانه .. كيف سيمحون ذاكرة العشق بداخله، سيجعلونه نمرا من طراز أخر متى صلب عوده . كم سأكون سعيدا لو أن داني ترعرع في أحضان الحب، وغنى للسلام غنوة، وقرأ ان حاتم يعشق الحرية وسيلعب معه دون أن تعتقله أحقاد كل بني صهيون إلا من غدر بعهد الطاغوت وبروتكولات حكماء صهيون، من الممكن أن تكتمل أناشيد السلام ونستمتع دون أن يغتال منا الآخر .  

 الحفيد والجد الأليف ... جاءوا كسرب الجراد في مواسم لا نعلمها، حطوا رحالهم .. دكوا الأرض .. آلفهم الأجداد لأنهم يألفون الحب .. لم يعرفوا لونا منطويا تحت أوراق التين . خرجوا عليهم بعد تكاثرهم حولوهم إلى مطاردين، ومهجرين، ومعذبين في أصقاع المعمورة .. رغم كل هذا عاد ذاك الجد الحزين بكل جنبات الحنان، قدم كل ما يملك من ذخائر الإنسانية، ألفت تلك الصبية هذا الرجل المسن .. صهرته في وجدانها .. في خلدها كإبريق الشاي المعطر بالنعناع الأخضر الطري، هذا المسن العربي لم يكن أكثر من رجل بسيط، يدخل الدار يقدم ما يملكه من جهد يحرص عليها كما الأب لابنته، كان لا يحب التصنع، أرخى سدول عشقه الآدمي، وزوجها الضابط يحذرها من غدر العرب كما لو أن العرب غدروا بالضيوف يوما ..شاهد العجوز فيها ابنته التي لم تلدها زوجته، أغدقت عليه بالعطف فأغدق عليها بحنان الأبوة . وحين حملت في رحمها طفلاً من زوجها الضابط وشاءت الأقدار رحيله عنها .. افتقدته من حيث افتقدت حنينها لأبوته لها،كفكف المسن حنينها لزوجها الذي غادر توه للعمل في المناطق المدارة،طالت غيبة زوجها الضابط، تحولت حالة الصبية إلى عصبية، اشتاقت للأمومة... تنتظر ان تضع طفلاً تسميه "دوف"، فصار العجوز يناديها بأم دوف ". عاد لها المسن ذات يوم محملا لها بالهدايا وطبق من الكنافة العربية، وضعت زوجة ابنه، الولد البكر، هنأته .. قبلته  من حيث اخبرها انه أصبح جداً، هذا المسن من أهل المخيم، وزوجها الضابط يعمل الان في المناطق المدارة . غادر الرجل المسن ولم يعد. وسمعت في نشرات الأخبار عن منع التجول حتى إشعار أخر، على مخيم جباليا حيث يقطن ذاك المسن . انتهى منع التجول والإشعار الأخر، إلا انه حضر هذه المرة شاب  أخر ولم يعود ذاك الرجل المسن الأخر .. استوقفت الشاب حدقت في وجهه سألته عن الرجل المسن ... حبس الشاب دمعته وتكلم بصعوبة وألم، صرخت بعد أن تملكها الحزن والأسى وشعرت باليتم من بعده،،..انتفضت .. صرخت ..واشتكت لوسادتها وتأوهت إلى أن أصابها الإغماء، وانقلب حالها إلى أن أصبحت كمن مسه الجن، تملكتها هستيريا أجهضت جنينها من حيث لا تعلم، احتضنها زوجها الضابط، وجهها تغطى بدرات الندى الساخنة، ضربته على صدره،صرخت في وجهه وقالت : قتلته فرد عليها يدفع بالتهمة عن نفسه، قتلت الجنين دوف " وهو يدافع بأنها أجهضته، رفضت تعبيراته فهي أدركت انه قتل المسن في عقر داره وهو على صدر أمه في المخيم واختلط عليها الأمر بالهذيان وأصبح الجد قتيلاً على يد الضابط، وتناول ذاك الشاب رواية الصبية ورددها في المخيم كيف قتل حفيد الجد الأليف وهو يرضع على صدر أمه الذي لم تلده بعد!.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com