أجندة غزة وشطب الذاكرة

المنطار كائن في المكان ... هل غادر المكان

أيها الناس ... هذا هو منطاركم، فتشبثوا .. هو من عتق التاريخ تذكروا ... هذا هو تاريخكم .. أمجاد آبائكم وأجدادكم فتوحدوا ... عيون كل زنادقة التاريخ تتربص شتاتكم الأكبر ... احذروا ... واحذروا قبل ان تتحولوا الى هنود حمر على أيدي جحافل التتار والمغول والصليبيين الجدد وخطاريف أبنائكم المراهقين بلا مروض بعد ان اعتلت عقولهم ووجدانهم تحت مطرقة المتناقضات وهلاوس المخبولين .

رابية من أعلى الروابي في غزة، أعلى من سطح البحر الهادر الغاضب .. أردافه تطل على معمورة قطاع غزة  الشاحبة من جهاتها الأربع، وتصرخ بشموخها على شرق الوطن المغتصب، تستقبل بهيج الشمس كل شروق، تلف أبنائها في ثناياها من عيون العدو المتربص كل صباح وفي خلسة الظلام ... تاريخه راسخ بعتق الأيام، لم ولن تمحوه قذائف المورتر سنة 1956 م عندما عاثوا الصهاينة فسادا في ارض المؤمنين  .عندما اجتاحته جنازير دبابات المستكبرين في الأرض .. عندما استفحلوا طواغيت الموت في مزارات المكان . نسيمه كأكسجين الدم الباعث للحياة في أوردة الأحفاد والآباء ووصية الأجداد .. لم تستطع لهيب قذائفهم ان تحرق ذاكرة الحالمين والمتأملين في عظمة المكان وشموخه . هذا المكان وليد الأيام العتيقة من رحم التاريخ البعيد المتجذر في ذاكرة تتسلمها ذاكرة الأحفاد من الآباء والأجداد . فيه تنساب مسارب المياه المقطرة بدون فلاتر،ومياه الآبار المتجددة بغيث الله في كل موسم، تنبت جنان من ألوان متناغمة وروائح طيبة ترغمك على ان لا تعشق الا ترابها، تداعب مشاعرك بهجتها وحلتها وبهيها كعروس في ليلة زفافها ... الله ... الله  يا وطن ما أجمل حلة صباياك كمن زار الاخرة وارتقى بخلسة بصر، كمن زار الدار الاخرة وارتقى وفيها أجمل نساء الكون حور كشقيقات حور العين في جنة الخالدين ... أنت على الأرض .. تذكر .. انت على رابية المنطار شرق غزة الشامخة .  

انظروا جيدا حلتها من رقائق أوراق الزعتر، والنعناع المعطر الأخضر، والحناء والقرنفل المتراقص مع نسيم الرابية، ورائحة أزهار الليمون والبرتقال وجنان العنب المدلل، واللوز .. في جنبات المكان زوايا ودواوين ومهج ومقام ورايات مشايخ تصعد لتكرم صاحب المقام .

في حضرة المقام .. هل تعود عوائد المكان من جديد .. هل تعود السكينة للمقام من جديد .. هل تعود كل ذخائر التاريخ ... بموسمه السنوى .. بمأكولاته الشعبية السنوية . هل تعود نكهة وجبة الغداء "السموقية " بلونها الشعبي وبنكهتها الغزية  . هل ستعود ايام خلت حتى الأمس القريب بنبرات صوت الأهازيج، ومواويل، وأناشيد الأطفال والدراويش وكل زوار المكان ؟ متى ستعود طوابير فرق الكشافة ونسمع دقات طبولهم التي تناغمت دقاتها خفقات القلوب العاشقة للمقام .

هل تعود رقصات الخيول الاصيلة ؟؟ ومتى ستعود ؟

ككل مواسم ومناسبات العام المقدسة، تجتمع شيوخ المدينة في مسجد "عثمان بن عفان"، بعد صلاة العصر، تنطلق في مخرج بهي، تدق طبول الزيارات للمقام، تدق العدة، تتجه الانظار، تعلو الحناجر مرددة :

شيء لله يا سيدي المنطار. ... شيء لله يا خميس المنطار.

أهالي فلسطين يتباركون من كرامات الاولياء الصالحين والانبياء، ترى من اراد التيمن ببركاتهم كبركات اربعة ايوب،الذي صبر على المرض كابتلاء وشفاه الله من ماء البحر، ترى الناس يتطهرون بماء البحر حتى الموجة السابعة، ليبارك الله لهم في الحمل والطهور والشفاء من العقم القاسي، فالبحر لا يختلف عن كل بحار المعمورة الا في ارض المرابطين كله تيمن وبركات . تعمد فيه الإنسان والحيوان وحتى الطيور السابحة والمسبحة في ملكوت السماء تعشق بحرها وجبالها وترابها فتتعمد بترابها هي أيضا كأهلها الميامين.

فغزة عمدها الله بكل الصالحين من بني هاشم والشيخ رضوان شمالاً والشيخ عجلين جنوبا، ما بين تلال زنابق الأزهار البيضاء شمالا حتى سوافي الرمال الذهبية جنوبا ودوالي العنب المتراقصة على صفيف الذهب البراق جنوبا والمطلة على امواج البحر الصافية والتي تجذبك للرقص تحت أمواجها عندما تستكين من الغضب وتصبح ملهوفة باحتضان فلذات كبد ابنائها .

المنطار الاسم والدلالة:

هذا المكان له دلالاته ومفهومه عبر التاريخ، فكل مكان رسم التاريخ وحفر اسمه اما على بطن الجبل، او على رابية، او دفن في سوافيه الرملية كنوز عظام الأرض وأدوات أهلها ..فالمنطار بدلالاته اللغوية جاءت من وظيفة المكان للنطر والحراسة من المتربصين والأعداء على ارض الوطن، فكان القائد التاريخي "صلاح الدين الأيوبي" قد اختار المكان كحصن متقدم كالمجدل عسقلان، كمحطة متقدمة للمراقبة والرصد من غزو الأعداء . حيث يبادر النواطير في المكان بإشعال النيران وإثارة موجات من الدخان كي تيقظ الجنود وأهالي القرى والسواحل والمدينة من غدر الأعداء.

المواسم الشعبية :

في فجر الخميس الذي يعقب أربعة أيوب تتهيأ كل الناس في القرى والمدن في غزة، ويتزينون بأبهى الحلل، يخرجون أفواجا ..أفواجا، ينتشر الباعة والجوالين في شوارع المكان .. تجول في المكان لترى البسطات وقد انتشرت، والباعة الجوالون بارباريق المشروبات الملونة من كل ما يطيب للأنفس وما يهدأ عطش زوار المقام، كرنفال سنوي، تجد الاباريق النحاسية والفضية والفخارية، طيبة مثلجة بلا ثلاجات كهربائية ... شراب السوس والخروب والتمر الهندي، ومشروبات اخرى ساخنة كالشاي والقرفة والزنجبيل والسحلب .وبائعوا الذرة المشوية والمسلوقة، والترمس، والفول النابت، وبذر البطيخ،والفستق الدافئ المحمص،والتمور والعجوة، وحلاوة الكسبة الطازجة من معصرة الهندي بشارع فهمي بيك .

تجد حلوياتهم من قرشلة، وحبات الغريبة، ونمورة محشية بالقرفة والفستق، والحلبة بالسميد، والكنافة المحشوة بالجبن والسمنة البلدية والعوامة وكرابيج حلب المغموسة بالقطر المندى برائحة الليمون والعنبر والمستكه . كل ما تشتهيه الأنفس .. لها مذاقها الخاص .. ترى لو شاهدتها في كل الأيام العادية لن تتذوق طعمها كذاك اليوم المعهود في يوم الموسم .. ترى هل سألت نفسك يوما : لمً لا نتذوق نكهة حبات القطايف في موسم غير موسومها  في شهر رمضان ؟! إنها من أسرار بركة الله في شهره الكريم .

في موسم كموسم زيارة المقام في المطار .. تنتشر مشاهد جميلة كالرقص بالسيوف والخيول المزينة بالسروج المطرزة .. ترى في المشهد الألعاب النارية .. والمجاذيب الذين يقرضون الزجاج في مشهد غريب، ويسفون الرمل يبتلعون المسامير،ويبصقون مشاعل اللهب ..هذا المشهد يستمر حتى صلاة العصر ومن ثم تبدأ تغيرات وتبدلات على المشهد من حال إلى حال أخر، تدخل حالة من الوجد والاشتياق لان مشايخ الطرق الصوفية بعد صلاة العصر يبدءون بدق المزاهر والطبول ويرفعون رايات الأولياء الصالحين وتلمع السيوف والمديح النبوي، على إيقاع ذكر الله وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم . يشهدون ويجددون البيعة لله وللرسول .. ويسلمون أمرهم لله في الدنيا والآخرة القادر على كل شيء والذي بإرادته يقول للشيء كن فيكون .

هذا مشهد من مشاهد اهل الكرامات والمقامات في فلسطين، انه مقام المنطار ... هل تعود للتاريخ ذاكرته ووجدانه .

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com