|
محمد علي الشبيبي/ السويد تتناول الحلقة: العميد المرتشي البروفيسور گريج يفقد توازنه . مرتشي آخر، الدوسنت المنافق زارنبسكي يحاول إثارة مشكلة. أنتشار فضيحة گريج ومساعدته تنتشر بين أساتذة جامعتي لوبلين ووارشو. دفاع الماجستير. عندما بلغتني ستوجينسكا بموعد الأمتحان لم يبق لي سوى يومين للمراجعة. ولم أعد أهتم بتراجع الحزب عن وعده لي باعفائي من الأمتحان، فربما كانت في إعفائي عقبات ذات طابع إداري وعلمي لايمكن تجاوزها. قررت عدم مراجعة أي موضوع والأعتماد على تحضيراتي ومعلوماتي السابقة، لأني كنت مقتنعا أن هناك قرار حاسم من رئاسة الجامعة والحزب بخصوص أجتيازي الأمتحان. يوم الأمتحان جمع گرج الطلبة في أحدى القاعات، ووزع علينا الأسئلة، وكرر نفس الأسئلة السابقة دون أي تغيير، لكنه أكد على أهتمامه أكثر بشرح خطوات الحل وليس مهما بالنسبة له النتيجة الرقمية، أي كما فعلت لمرتين ورفض قبول ذلك. وهذا دليل آخر على أن ملاحظاتي لرئيس الجامعة عن أسلوبه في الأمتحان أخذت طريقها وهاهو گريج بعجرفته وغروره ينصاع لملاحظة رئاسة الجامعة. وترك الصف مسترخصا بعهدة مساعده الأستاذ كشيشك، وليس كما كان يفعل بتركنا لحالنا دون مراقبة. أجبت على الأسئلة دون تأخر بل كانت الحلول راسخة في رأسي. بعد أن أنتهيت من أجابتي توجهت الى الأستاذ المراقب كشيشك ورجوته أن يدقق جوابي لسؤاله الذي يخص طريقة (J.G) بينما أنا سٍأذهب للتواليت، أبتسم وتقبل طلبي لأني سبق وأن سألته عن أجابتي السابقة على نفس السؤال وأكد لي صحة أجابتي، بعد عودتي أكد لي صحة الجواب. أخذت أوراقي وراجعتها مجددا ومن ثم سلمتها للمراقب. بعد أنتهاء الجميع من الأمتحان التحريري توجهنا لغرفة ستوجينسكا حتى يستدعينا البروفيسور كريج للمناقشة الشفهية. أستدعاني گريج بعد الطالب الثالث، وكان قبلي طالب عراقي وآخر بولوني، وبدل أن يبدأ النقاش مع من سبقني بالدخول دعاني مباشرة للنقاش. كنت بارد الأعصاب وغير مهتم حتى بعد أن تقرر إعادة الأمتحان وليس الأعفاء مثلما وعدني سكرتير الحزب وأعتبرت الأمتحان شكليا للحفاظ على ماء وجه العميد والجامعة. قلب گريج أوراقي وتوقف عند أجابتي على طريقته وهو يهز رأسه ويقطب حاجبيه وأحيانا يهز رأسه مستنكرا الحل وأخيرا نطقها: ماهذا هل هكذا درستم طريقة (J.G)، أنه أسهل الأسئلة وللمرة الثالثة وأجابتك خطأ!. قررت مناقشته وعدم تركه بتوجيه كلامه لي وتخطأتي دون ان يحدد لي أين الخطأ، سألته مستفسرا وبهدوء: اين الخطأ، لثلاثة مرات أسأل أساتذة متخصصين والكل يؤكد أن أجابتي صحيحة ويسألونني أين الخطأ وهذا مادرسته فعلاً!. لم يكن يتوقع جوابي ومناقشته بهذه الطريقة، فقد أعتاد أن يصمت طلبته وحتى معاونيه من أساتذة. كان غاضبا برده ولم أتوقع أن هذا البروفيسور وعميد الكلية وقد عرف بقوة شخصيته ويهابه الكثيرين يمكن أن يفقد أعصابه من ردي ويخطأ بحقي ويخرج عن طوره وبوجود طلبته ومساعده الأستاذ كشيشك وهو يراقب مايدور من حديث بعد أن سمع بالفضيحة، ونهض واقفا وهو يحرك يديه المرتعشتين بعصبية ووجه كلامه لي بغضب: أرجوك كن مؤدبا معي، ولاتناقشني بسخافتك أنا أستاذ المادة ولست أنت!. حينها لم أعد أفكر لا بالأمتحان ونتيجته ولا بالشهادة، وأنا لم أقل مايسيء الأدب، وأنما كنت صادقاً لمعرفة أين الخطأ في جوابي، فجميع من سألتهم من أختصاصين بهذه المادة أكدوا لي صحة أجابتي، ألآ يحق لي أن أعرف أين الخطأ بعد تأكيد جميع المختصين صحة جوابي!. فقلت له وأنا أسجل الحوار وأحداث المشكلة وكأنها اليوم حدثت ولن أنساها طول حياتي فهي تجربة غريبة أفتخر وأعتز بها، وكثيراً مارويتها لأصدقائي معتزاً بموقفي المبدأي ضد الفساد والرشوة. كنت حينها ماسكا بقلمي فوضعته على المنضدة بطريقة تلفت النظر كمن يريد أن يقول أذهب الى الجحيم أنت وجامعتك، فقلت له وبهدوء وبصوت واضح ومسموع ليسمعني جيدا مساعده: أستاذ أنا مؤدب ويشهد بذلك أساتذتي البروفيسور گومولسكي ودنبروفسكي وأساتذتي الآخرين وجامعتي السابقة التي أعتز بشهادتها. أنا لم أقل كلاما غير مؤدب، خلال دراستي السابقة لم أقابل من هو قليل الأدب ولكن للأسف في هذه الكلية فقط تعرفت على قليلي الأدب وحاولوا وضع العقبات أمام دراستي وإبتزازي، أرجو أن تخبرني أين هي قلة الأدب، وأرجوك أن تحترمني فأحترامي من أحترام الكلية!. كان الأستاذ كشيشك وهو يجلس بجانب منضدة صغيرة في زاوية الغرفة قبالتي يؤشر لي باصابعه ليهدؤني وربما يرى في حديثي تجاوز لحدودي، فهم لم يتعودوا أن يقف أحدا بوجه گريج ويثير له فضيحة. كنت واثقا أنه يريد أستفزازي كي أترك أو أغادر الغرفة، حينها يرسبني في الأمتحان بحجة مغادرتي ولا أحد يمكنه أن يدافع عني، أما أن أرد عليه بهذه الطريقة ودون تردد وبأشارات مبطنة وأتهام غير مباشر لمستوى الكلية، هذا مالم يكن يتوقعه وصدمه جوابي الحاد، وبقي لدقائق يحملق في أوراقي صامتاً، فهو يحس بالحرج أمام مساعده وطلبته لأني خدشت كبريائه وشككت بمصداقيته وعلمه. كنت أقلب أوراقي غير مباليا بأنفعاله، وأحسست بمدى أحتقاري له وأنا الذي لم يسبق لي أن أحتقرت أستاذاً في حياتي. بعدها قطع الصمت وهو مازال واقفاً وبصوت مسرحي ينم عن الجزع قائلاً: جيد هذا سؤال بسيط أذا أجبت عليه فأنت ناجح. وما أن بدأت بالحل، وبالتأكيد هو يتابع بداية معالجتي للسؤال ويمكنه أن يعرف هل سأصل لنتيجة صحيحة أم أني في طريق خاطيء. وحيث وجدني في طريق صائب بادرني بالقول: لالا أترك هذا فأنه صعب، خذ هذا السؤال!. كرر ذلك ثلاثة مرات، ولم أتحمل أسلوبه الخبيث، وكأنه يريد أن يسمع مساعده والطالبين ويقول لهما كم أنا طيب وأريد مساعدته لكنه يعجز عن الأجابة الصحيحة. وفي المرة الثالثة لم أحتمل خباثته فقلت وبصوت عال ليسمعه مساعده: أن خطواتي في الأجابة على السؤال الأول صحيحة، وهذه بدايات إجابتي مثبتة على الأوراق وفيها خطوات الحل وأنا أقبل بأي لجنة تحكيم لتقرر صحة أجابتي ونتيجتها، هل تسمح لي أن أعرضها على مساعدك الأستاذ كشيشك ليقل أين ألخطأ أو أن تقل لي أين خطأي فمن حقي كطالب أن أعرف خطأي؟. الحقيقة نفذ صبري وأحسست برغبة شديدة في أن أصرخ في وجهه متحدياً كبريائه وعجرفته وأقول له لتذهب أنت وكليتك وشهادتك الى الشيطان. وربما هو نفسه شعر برغبتي وأحتقاري له ولشهادة الكلية، وأحس بعدم تهيبي وجرأتي وردي بصوت عالٍ وواضح ليسمعه مساعده. وربما كان لأسلوبي وحديثي الجريء معه سبباً في تخوفه من أن ذلك سيزعزع شخصيته ويزيد من فضيحته، فحاول ان يهدأ الجو تلافياً لردودي الجريئة والغير متوقعة، فقال: جيد أهدأ هذا آخر سؤال أن أجبت عليه سأكتفي. وفعلا كان السؤال الأخير فما أن بدأت بالحل وربما في الخطوة الثانية أو الثالثة، أستوقفني وسألني عن الأندكس لتسجيل الدرجة. سلمته الأندكس وهو بدوره سلمه لمساعده طالبا منه تسجيل درجة النجاح للتوقيع عليها. وبينما كان المساعد يدون المعلومات في الحقول المخصصة (أسم المادة، أسم أستاذ المادة، عدد الساعات الأسبوعية، ودرجة الأمتحان، وتأريخ الأمتحان) سألني البروفيسور سؤالا غريبا: أين رخصة مشاركتك في الأمتحان! سألته أية رخصة، لأول مرة أسمع بمثل هذه الرخصة بالرغم من أجتيازي ثمانية أمتحانات دون أن يسألني أي أستاذ عن هذه الرخصة، ومن هو الذي يمنحني هذه الرخصة. قال: كل أمتحاناتك جرت بطريقة خاطئة، يجب أن تقدم طلبا لي (للعمادة) لتمنحك مثل هذه الرخصة!. قلت له: لاعلم لي بهذه الرخصة كما أن أساتذتي لم يطلبوا مني مثل هذه الموافقة وأعتمدوا على قرارك الأول الذي حددت فيه المواد المطلوبة لأجتيازها، وما العمل الآن؟. طلب مني أن أتقدم بطلب يوم الأثنين للحصول على الموافقة، وسيعترف بنتيجة الأمتحان. أخذت سجلي (الأندكس) وخرجت، وكانت زوجتي وطفلي ينتظراني في الممر بعد أن تأخرت أكثر من ساعة، بينما خلال هذه الساعة منح الطالب العراقي درجة نجاح والذي لايفقه شيئا، فطالما زارني في غرفتي أو في المكتبة لأشرح له بعض دروس المادة قبل الأمتحان، وأستدعى من بعده أثنين ونجحا من دون أن يناقشهما مطلقاُ، كل ذلك نكاية بي وأستفزازاً لي. يوم الأثنين قابلت سكرتيرة الأدارة في العمادة ، وكانت متعطشة لسماع أخباري، وقد ساعدتني أبنتها بطبع مشروع الماجستير مقابل أجر متواضع، ورويت لها تفاصيل الأمتحان، ومطالبة گريج برخصة الأمتحان. قدمت طلب الموافقة وتركت الأندكس مع الطلب لتثبيت درجة الأمتحان ووعدتها بالمراجعة بعد ساعتين. عندما راجعتها بعد ساعتين وجدتها متضايقة وبادرتني بعتاب قائلة: لماذا سجلت في الأندكس درجة نجاح لك؟. وضحت لها أن الذي سجل هذه المعلومات لست أنا وأنما الأستاذ المساعد كشيشك والبروفيسور أمره بذلك قبل أن يغير رأيه ويطالبني بالرخصة! هزت رأسها مستنكرة أسلوب البروفيسور وذرائعه السخيفة لأستفزازي وعرقلة كل شيء بأسلوب تهوري. كانت كل تصرفاته بعد فضحه تنم عن فقدانه لتوازنه وحقده عليّ، وهو لذلك لايعرف كيف يثيرني ويستفزني. نصحتني السكرتيرة بمراجعة البروفيسور وتوضيح ذلك. دخلت عليه في مكتبه وكانت معه ستوجينسكا، وبادر متسرعا وكأنه مسكني بجرم كبير وسألني: لماذا سجلت لنفسك درجة نجاح، من هو المفروض أن يسجل هذه المعلومة في الأندكس؟. قلت له ببرود لآيخلُ من سخرية: البروفيسور ذاكرته ضعيفة، لم أدون هذه المعلومات، وأنما السيد (البولون يستعملون كلمة سيد بدل أنت للأحترام) هو الذي طلب من مساعده تسجيل ذلك. كان جوابي كالصفعة له، فصمت وكأنه تذكر ماجرى يوم الجمعة، ثم ألتفت الي وهو يحدق في الأندكس وسألني، كيف يجوز كتابة التأريخ بهذه الصورة؟. لقد كتب المساعد تأريخ الأمتحان كما يلي 11-09-1987 وبهذه الطريقة كان يكتب ويظهر أن التعليمات الجديدة تتطلب كتابته معكوسا كما يلي 1987-09-11، وأستفسر من ستوجينسكا ماهو الحل وهو ينظر لي وكأني المسؤول عن هذا الخطأ وليس مساعده. لم أناقشه أو أعلق بكلمة واحدة، كان كل ما أثاره تفاهة وسخافة لأزعاجي وإغاضتي، وصغر هذا البروفيسور في نظري وأزداد إزدرائي وأحتقاري له. وقد أدى أنكشاف فضيحته أمام زملائه والشرطة الى فقدان صوابه وكانت سبباً لحماقته وتهوره، وأخذ يبحث عن زلات لي ليحاسبني عليها. طلب مني أخذ الأندكس لسكرتيرة العمادة لتعالج الخطأ. سخرت منه السكرتيرة ومسكت القلم والمسطرة وشطبت على السطر الذي سجله مساعده وسلمتني الأندكس. وهكذا أنتهيت من مشكلة أجتياز الأمتحان وما رافقها من شد أعصاب غير معقول، ولم يسلمني الأندكس وطلب مني أن أراجع السكرتيرة يوم غد أي الثلاثاء. حددت العمادة يوم الأربعاء 16 أيلول لدفاع الطلبة عن مشاريعهم المنجزة ولم يكن أسمي من بين الطلبة لغاية يوم الأثنين. أتصلت بسكرتير الحزب في الجامعة التكنيكية وحدثته بالعرقلات وتأخير تسليمي الأندكس الى يوم غد، ولحد الآن لآ أعرف هل سأكون من بين الطلبة الذين سيتقدمون للدفاع أم لآ؟. طمأنني بأن أسمي سيكون بالتأكيد من بينهم وعلي مراجعة سكرتيرة العميد الثلاثاء. صباح يوم الثلاثاء راجعت السكرتيرة ووجدت في غرفتها ألأستاذ ف. زارنبسكي (doc. dr. W. Zarębski) أستاذ مادة (البناء العام وفيزياء البناء) وما أن سلمت عليهم تناول الأندكس من السكرتيرة وسألني: لماذا سجلت المادتين، البناء العام و فيزياء البناء، في حقل واحد؟. قلت في نفسي الآن جاء دور هذا المنافق، فهو المسؤول الحزبي في الكلية أضافة لمسؤوليته عن الطلاب الأجانب. وما أثير من فضيحة ووصلت عبر مديرة القسم الحزبية لسكرتير الحزب في الجامعة والى رئيس الجامعة والشرطة يغيضه، وقد يتحمل هو جزء من المسؤولية عن أوضاع الكلية ويحاسب حزبيا وربما يتهم بالأشتراك مع شلة العميد، ولذلك كان غاضبا ويبحث عن أخطاء لأثارة المتاعب لي وعرقلة دفاعي. قلت له مستفسراً: هل إنتبهت لهذا الآن، بعد أكثر من سنة من أجتيازي الأمتحان، وهل نسيت ماقلته لي بأن البرنامج الجديد دمج المادتين وعليك أجتياز المادتين كمادة واحدة، وعلى هذا الأساس منحتني درجة النجاح ووقعت على الحقل الذي جمع المادتين سوية، ألا كان الأجدر أن تنتبه حينها وتعترض على دمج المادتين وتطالبني بالتصحيح؟!. كانت السكرتيرة تنظر لي مبتسمة وتهز رأسها موافقة على ما أقول وكانت علامات الأرتياح ظاهرة على وجهها. أقترح علي تقديم أمتحان روتيني جديد يفصل فيه المادتين، كل مادة في حقل. رفضت أقتراحه وقلت له: إني جزعت من المعاملة في هذه الكلية والأساليب التي يتبعها للأسف بعض الأساتذة. ووجهت كلامي الى السكرتيرة: سأعود للقسم لأرتاح وأذا أدخل أسمي مع مجموعة الطلبة الذين سيتقدمون للدفاع عن الماجستير غدا أرجو إبلاغي في القسم الداخلي ثم ودعتهم وخرجت. أتصلت بسكرتير الحزب ورويت له ما أثاره الأستاذ زارنبسكي، وأوعدني أن أنتظره في القسم وسيتصل بي. بعد أقل من نصف ساعة أتصل سكرتير الحزب وأخبرني أن أسمي سيكون مع الطلبة المتقدمين للدفاع غداً، ولا أهتم لما أثاره زارنبسكي. في صباح اليوم الثاني الأربعاء 16 أيلول 1987 كنت أمام القاعة المحددة للدفاع وكان عددنا سبعة طلبة ماجستير وتوزعنا على ثلاثة لجان. أستدعينا للقاعة وكانت اللجان موزعة على جوانب القاعة، وتوجهنا كل حسب اللجنة المخصصة له. كانت لجنتي تتألف من أستاذي المشرف على المشروع د. يان يارگوو، والدوسنت زارنبسكي رئيس اللجنة، ودسنت آخر أعتقد لقبه كوفالسكي. وجه لي كل واحد من أعضاء اللجنة سؤال دونته في ورقة وطلبوا مني أن أجلس الى جانب طاولة طويلة كانت معدة خصيصا لطلبة الماجستير لتهيأة أجاباتهم. بعد أن أخذت مكاني الى الطاولة وبينما كنت أعيد قراءة الأسئلة وأذا بسيدة تنحني وتسلمني أوراقا أضافية وتهمس في أذني: لاترتبك ولاتتهيب ولاتهتم لكل ماجرى لك فكل شيء سيجري على مايرام!. كانت هذه السيدة سكرتيرة اللجان وكان لهمسها أثر قوي رفع من معنوياتي وبدد القلق الذي أنتابني بسبب وجود زارنبسكي الذي حاول أثارة مشكلة جديدة لي كرئيس لللجنة التي تختبرني وتقرر منحي الماجستير. بعد أن أنهيت تحضيري للأجابة توجهت الى لجنتي، وبناءً على طلب أستاذي المشرف حدثتهم بإختصار عن مشروعي وطريقة حسابه وأهم العقبات والمشاكل الهندسية التي واجهتني وكيفية معالجتها، وأجبتهم على بعض الأستفسارات. بعدها سأل رئيس اللجنة زملائه هل ترغبون بمناقشة السيد. بادر أستاذي المشرف معلقا: أن محمد مهندس ذو تجربة جيدة، عمل في العراق كأستاذ مساعد قبل أن يسافر مضطراً للجزائر للعمل في مكتب هندسي، وحضر بعض محاضراتي وعرفته طالبا جادا ومهندسا ذكيا ولا أجد ضرورة لمناقشته. أما الأستاذ كوفالسكي أكد ماقاله المشرف لكنه وجه لي سؤالا: كونك من بلد حار مشمس تصل فيه حرارة الصيف أكثر من 50 درجة مئوية، كيف يكون تأثير أرتفاع درجة حرارة الشمس ميكانيكيا على الخراسانة المسلحة؟. وضحت لهم كيف أن الحرارة تولد قوى أضافية (جهد) في حديد التسليح بسبب تمدده نتيجة أرتفاع الحرارة ويجب أن يحسب لها حساب. وقد أكتفت اللجنة بأجابتي على أسئلتهم التحريرية ولم يسألوني أكثر من ذلك، وطلبوا الأنتظار خارج القاعة حتى أبلاغنا بالنتائج بعد أنتهاء الجميع. وكانت زوجتي مع ولدي نورس تنتظر حاملة شدة ورد جميلة. وبعد أن أنتهى الجميع أستدعينا مجددا للقاعة وأبلغنا بنتائج الدفاع وقد أجتاز الجميع الدفاع بنجاح. في مساء اليوم التالي لإجتيازي الماجستير أتصل سكرتير حزب العمال البولوني الموحد في الجامعة التكنيكية تلفونياً وبارك لي الأجتياز، وأخبرني بأن الشرطة ستبعث عليّ لتسجيل إفادتي ومعاناتي منذ بداية دراستي وتحضيراتي لأمتحان مادة تحمل المواد، وطلب مني أن أروي لهم كل التفاصيل بما فيها تدخل قيادة حزبهم في الجامعة. وفعلاً خلال نفس الأسبوع أستدعتني شرطة لوبلين، وفي اللقاء كان هناك ثلاثة موظفين بملابس مدنية. بداية طلب أحدهم أن أحدثهم بالتفصيل عن طريقة تحديد أمتحاناتي وسعة برامجها والجهة التي حددتها وكيفية إجرائها. بعدها وجهوا لي مجموعة أسئلة تناولت كيفية تدريس گريج لمادته، والأمتحانات وطبيعة علاقته بستوجينسكا وطريقة إجرائه الامتحانات وتفاهمي مع ستوجينسكا. المهم أعدت عليهم تفاصيل قصتي مع كريج ومساعدته، وكنت الآحظ على وجوههم ونظراتهم المتبادلة تصديقهم لما أرويه أو أحياناً تعكس ملامحهم تأكيد لأنطباعات ومعلومات سابقة عن گريج ومايجري في الكلية. كنت أعرف أن شرطة لوبلين لم تستدعيني إلا لأضافة دليل آخر على الأدلة التي توفرت لديهم للقيام بأجراءآتهم القانونية والقضائية أن أقتضت الضرورة. بعد منحي الماجيستر أصبحت جاهزاً لأستلام موضوع البحث المتعلق بنيل الدكتوراة. وبسبب المشاكل التي واجهتني في الكلية في مدينة لوبلين وتداعياتها، فضلت العودة الى وارشو والبحث في جامعة وارشو التكنيكية عن أستاذ في الأتجاه الذي أنوي التخصص فيه ومستعد للأشراف على بحث الدكتوراة. التقيت في كلية الهندسة المدنية (البناء) بمجموعة من الطلبة الأصدقاء متجمعين أمام غرفة أستاذهم للتشاور معه حول أطروحاتهم، فتوقفت معهم أتبادل الأخبار. أثناء ذلك فتح الأستاذ باب غرفته ليستدعي أحدهم وبعد أن أنتبه لوجودي أعتذر من تلميذه واستدعاني بأستعجال للدخول! كان هذا هو البروفيسور دنبروفسكي أستاذي في سنوات السبعينات لمادة الخراسانة المسلحة، كما أنه أحد مقيمين أطروحتي الأخيرة في لوبلين، وأحد المحاضرين المنتدبين في لوبلين من جامعة وارشو. وما أن دخلت حتى دعاني للجلوس وبارك لي الدفاع، وقال لي بصوت خافت وكأنه لآيريد أن يسمعه أحد: لقد سمعت بمشكلتك وما أثرته من فضيحة من الآخرين ولكن أريد أن أسمع ذلك منك مباشرة، هل سترويها لي؟. كان لي الفخر أن يحدثني بهذه الطريقة البروفيسور العجوز دنبروفسكي أستاذ الخراسانة المسلحة وأستاذي السابق في هذه المادة أثناء دراستي بمدينة بوتسك، وطلبه لأروي له مشكلتي يدل على صدق ملاحظاتي عن ريج وأرتياح الآخرين لعاقبته على يد طالب أجنبي. ودنبروفسكي أستاذ متمكن وهو الذي ترأس اللجنة العلمية المتخصصة لوضع وتحديث المواصفات العلمية في الخراسانة المسلحة التي أقرت في عام 1975 لتنسجم مع طريقة الحسابات الجديدة. وهو أستاذ نزيه وموسوعة علمية في أختصاصه، ورغم تشدده مع طلبته لم أسمع يوما أثناء دراستي من طلبته مايسيء له أو يغتاض من تشدده وأسلوبه العلمي النزيه. وأذكر هذه الحادثة عنه كدليل على نزاهته العلمية، ففي أحد محاضراته في الصف الرابع، وكنت أحد تلامذته في الصف، تحدث عن طريقة سوفيتية في حسابات الخراسانة المسلحة مثمناً بأجابية عالية الطريقة. وأذا بأحد الطلبة يانوش كابلا (Janusz Kapela) بادر للتعليق وبسخرية واضحة: طبعاً طبعاً فالروس شاطرين وهم أفضل الجميع!. كان هذا في عام 1975/1976 حيث حركة التضامن وشعبيتها في تصاعد، والوضع الأقتصادي والسياسي في تراجع، والتذمر يسود أوساط الشعب لتمسك الحزب والحكومة بشعارات سياسية وأيديولوجية مشوهة تتناقض مع الواقع المعاش وتعمق الأزمة. فرد البروفيسور على تلميذه بما معناه: أنا لست منتمياً للحزب الحاكم بل أقف على نقيضه ولكن الحقائق العلمية يجب أن تقال، فقد سافرت للأتحاد السوفياتي وحضرت ندوات ومؤتمرات علمية وأشهد بالتقدم لهم في مجال الدراسات العلمية وخاصة في الخراسانة، وعداؤنا للروس وللفكر الشيوعي يجب أن لآيمنعنا من قول الحقائق عن أنجازاتهم العلمية، فهي أنجازات للحضارة الأنسانية!. رده لم يعجبني أنا وحدي وأنما أعجب جميع تلامذته وأخجل تلميذه الذي أندفع دون تفكير وراء عواطفه. كانت دعوتي من قبله بهذه الطريقة وما طلبه مني شرف وشهادة أعتز بها وأتذكرها دائما. كان لابد من سرد أحداث ماجرى معي، وبقيت لسنوات وفي كثير من المناسبات أروي بفخر لمعارفي وأصدقائي ماعانيته من المرتشي البروفيسور گريج ومساعدته ستوجنسكا، لذلك لم أتردد من الأستجابة لبروفيسور أكن له الأحترام والأمتنان، ورويت كل ماعانيته. ولن أنسى أن أحدثه عن دور السيدة كراجينا ماجوخا في أبلاغ زميلتها مديرة القسم الخامس المسؤولة الثانية في الحزب لمعالجة عملية النصب والأبتزاز الممارسة بحقي من دون أن أذكر له أسماؤهن حرصاً عليهن من شلة گريج. وبعد أن أنهيت روايتي وكان يستمع ويهز رأسه مستنكرا سلوك العميد گريج ومساعدته ستوجينسكا، نصحني بالأنتقال من لوبلين والأبتعاد عن گريج وشلته فهو لن يتقبل هزيمته وفضيحته بهذه السهولة ولابد أن ينتقم مني. أخبرته بأن هذا عين الصواب وقد أتخذت قراري ولهذا أنا هنا للبحث عن مشرف للدكتوراة بعد أن أعالج مشاكل أقامة زوجتي ومشكلة جواز سفري. شكرته لثقته واهتمامه بشأني وودعته، فطلبته في الأنتظار في الممر خارج الغرفة. وقبل أن أغادر عرض علي أن يشرف على دراستي إن لم يكن لدي أستاذ محدد كمشرف. كان عرضه هذا مناسباً لطموحي، فهو أستاذ معروف على نطاق بولونية وله بصمته العلمية في إختصاصه بالخراسانة. شكرته لثقته ورغبته ووعدته بأني أتقبل عرضه مبدئياً لكن علي الآن أن أتفرغ لحل مشكلة، إقامة زوجتي وجوازات سفرنا، التي أصبحت عائقاً أمام مواصلتي لأكمال مشروع الدكتوراة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |